في السردية البورجوازية بقوامها الجمهوري الممشوق، يتكرس الفرد في ذاته، في تحمل مسؤوليته عن ممارساته وتشكيل سيرته الخاصة، محمياً بسياج من القوانين تدعم مبادرته وتعترف بإنجازه. لن يحتاج الإحالة إلى ميراث عائلي، أو تثقيل صدره بميداليات وأوسمة نقاء سلالات تدحرجت في التاريخ ولم تتعلم منه درس الشعوب وأوجاعها وحقوقها، التي تتسرب قطرة قطرة من تشققات بازلته لتصنع بحيراتها العذبة، ومفاجأتها الكونية.
الأقدام الحافية
قام جمال عبد الناصر والجمهوريون العراقيون بلعن الألقاب من فوق المنابر والتنكيل بها، والسخرية من حامليها في فتح تاريخي لمزاليج البوابة الشعبية على بدايات الزحف الفلاحي القادم بأردية الكتان الكتيمة المشربة بآثار العرق الملحّي الثقيل والمزمن. وظهرت كذلك عوالق الأطعمة في أطرافها العريضة، أمام العيون المحدقة في المشهد التاريخي الآسر، والتي لم تمر عليها عواطف الصابون وحنانه لتزيل عنها شقاءها التاريخي المؤبد.
لطالما تساءل الثوار القادمون من الثكنات العسكرية: ترى كيف تزال رائحة الاضطهاد والظلم والقهر والموت المسجل ضد مجهول من سياط الباشاوات وضربات شمس الانتظار الطويل أمام رنين مفاتيح السرايات الموصدة وعضات ثعابين البراري السامة ولسع عقاربها؟
ظهرت في هذه المسيرة التاريخية الطويلة الأقدام الحافية التي فلطّحها دوس الحصى والتراب الساخن والأعشاب الشوكية، والأصابع المتآكلة من فطريات المياه الآسنة وسحجات حوافر حيوانات الحراثة والجر الرعناء. مهَّد الجمهوريان ناصر وقاسم، والعسكريون، الطريق وفتحوا بواباته المغلقة لعامة غير مضمخة بماء اللاوند المبهج، إيذاناً لدخولها التاريخ بلا كولونيا.
كماء عذب ينبجس من كتامة البازلت المؤبد
بأصوات ربانية تبلل ريق الصحراء الجاف وتزحف إلى المتن النباتي الزاوي لتتصاعد من الشوارع والساحات المحررة، من الأزقة الملتوية والمكورة على خوفها، من الشرفات الخجولة من غسيلها المرفو على عجل بخيوط من غير لونها ،من الدساكر المرمية على أطراف موائد اللصوص الباذخة وطمائر مسروقاتهم.
لا برق يضيء ليل الاستبداد الطويل ليعبر هؤلاء المجهولون دون أن ترتطم أقدامهم بحجارة أو تسقطهم حفرة عميقة. يركضون قبل الهتاف وبعده، لأنهم رأوا ما حجبه غسق الموتى المسلحين بالنصال المسمومة، يتشبثون بأردية الأحياء ليصرعوهم مزدرين هتافاتهم الهادرة. لم تستوقف أسماءهم، التي تتساقط بتتابع كحبيبات في ساعة الرمل، المحقق البليد وهو يغمس قلمه في المحبرة. إذاً ليست من الأسماء الفاخرة المنقوعة بالعنبر.
يسأل الجنرال بعجالة من يتصفح الجريدة اليومية: من أين أتى هؤلاء، ألم يصيروا موتى بعد، ألم تتيقنوا من رتاجات بوابات المقبرة يا بهائم!! ألم تتأكدوا من إحصاء شهيق الأحياء وزفيرهم، ألم تدسوا الأفاعي في رياض الأطفال كمنهج تربوي لنقش الخوف... من أين أتى هؤلاء الحثالة؟ من وضع الأناشيد في فمهم، ومن أبلغ إبراهيم قاشوش بأن «الحرية صارت ع الباب»، ومن أين أتى هذا بلقبه، وهل عبد الباسط الساروت اسم حقيقي، أم منحول من اسم نهر يجف في الصيف. ومن أين أتت قوة الهتاف لذاك الطالب الذي رميناه من الطابق الخامس في المدينة الجامعية، ترى ما كان إسمه؟ وذاك، حسن بيرم، المختلج في العناية المركزة والذي فقد التمييز بين الأشياء، أما زال على قيد الحياة؟ وأولئك الذين أحرقناهم ـ باسل أصلان وحازم بطيخ ومصعب برد ـ لكن ألا تذكِّرني هل قتلناهم قبل حرقهم أم ماذا؟ وأولئك الذين خوزقناهم لخمسة عشر عاماً في السجن لننسيهم حليب أمهاتهم، من أين يستمدون قوة النطق والكتابة وتحريض الناس علينا، ألاننا تركناهم دون أن نقطع أيديهم وألسنتهم. ولكن قل لي لماذا يكرهنا هؤلاء الحاقدون!!
أدهم خنجر ورفاقه
لا أحد يتذكر في جلبة استنهاض السلالات الفاخرة، الحارس الليلي حسن الخراط، وسهم الشهامة محمد الأشمر، والشُهب الكوكبية التي أضاءت الدمس الكولونيالي، أدهم خنجر وغازي شلاش وحميد السقاطي وأحمد مريوّد...
ما عرف ب «عِلم» الأنساب العربي، يتكرس هيكلاً أيديولوجياً ليثبت الفوارق بين البشر ويمنح اللامساواة طابعاً دينياً شرعياً عمل على تثبيت السلالية محولاً إياها إلى امتياز طبقي يرتكز على الاستحواذ السياسي واحتكار الريع الديني، في مرحلة تاريخية طويلة تمتد إلى الحاضر.
عند أي اختناق تاريخي، تتهيأ الشروط لانبثاق النسابين، محاولة لإعادة تنظيم الفوضى وإنتاج مرجعية أصيلة، ينهمكون في البحث عن قرعة أبيه باستعادة عاجلة لنمط نسب شعبي ـ «ما معروفة قرعة أبوه من وين» ـ هذا الرجل أتى من خارج النسق الدال على أرستقراطية الأعيان وشجرات نسبهم.
والمعترض من النسابين يعمل على حصر السلطة والامتيازات ضمن فئات معروفة الهوية وتحمل نسباً عائلياً وعرقياً.. لكن ما لا يصح في البيولوجيا الوراثية (نقل الصفات كاملة غير منقوصة من الأجداد إلى الآباء إلى الأحفاد) يجب أن يصح في الخيارات السياسية والأيديولوجية المتفلتة من شرطيها الزماني والمكاني. منذ الثورة السياسية التي قادها بنو العباس، توفرت الشروط التي اقتضتها التحالفات لاختراق النقاء الدموي ـ الحليبي المتوثب من نجد والحجاز مع بداية الفتوحات العربية، ابتدأ العباسيون الاستقواء بأهل خراسان والغدر بهم على عجل، ولم ينته باستقواءات أخرى، السلاجقة والبرامكة والبويهيون...
في هذه الشروط التي تصنعها حركية عميقة للشعوب والسلالات بالهجرات والحروب والاستقطاب والإستقواء على تمرد الجماعات المحلية، تتحرر الفرص من لجامها التاريخي لاختراع أنساب (الكذب على الموتى وعلم الأحياء)، ويتم الربط القسري ببني هاشم و«المملكة الهاشمية»، والتنوخيين (آل جنبلاط وآل أرسلان، بإعادة كتابة للسيرة تتنكر للأصول التركية أو الكردية)، وإغفال أن معظم الملاكين العقاريين في بلاد الشام ومصر من أصول غير عربية، وبعضهم العربي فضل النسب مع الأرستقراطية العسكرية التركية والكردية والفارسية على مناسبة أهل البلد... في تعزيز للامتياز الطبقي والحفاظ عليه، في دورة تاريخية باتت معروفة ومُعرفة بالتماهي بالمحتل الغازي والتلاصق معه. رغم ذلك جرت عمليات خلق أنساب جديدة، بتثبيت أصول عربية لهم معززة بالنسب الديني وعمامته. وفي شق هزلي بالتمام سعى بعض الكومبرادور العربي المسيحي لاستدراج «الدو» المبدَّدة بقوة وحزم الجمهوريين البورجوازيين في فرنسا للصقها بمقدمة ألقابهم، (دو طرزي/ دو فريج..)، وباتت هذه الهزلية الإقطاعية تقف على قدم واحدة حين نعلم أن الألقاب ـ باشا وأغا ـ وما دونهما تُشترى وتباع منذ زمن طويل، بعد إفراغ صناديق الإقطاع العسكري من النقود. هذا التمسك الصلب بالسلالية والدم الأزرق، عبَّر ويستمر عن ترسبات الأيديولوجيا الإقطاعية في ثقافة الفئات التي أتت بعدها، وبعضها حمل لفظية الفكر الثوري في مسار أفق لا تلبث إغلاقه على دوام حكمها.
ليسوا في بئر عميق لنرمي لهم حبلاً من مسد
ليس نداء نوح، يستدرج المصطفين إلى سفينة النجاة قبل ارتفاع المياه إلى السماء، هتاف العامة الموحدين برائحة العرّق الجاف والتبغ الثقيل وتبقعات الدم المخثر تحت الأظافر، والهالات الزرقاء حول العيون قبل الأوان، تتقارب الأسماء والألبسة النظيفة التي تعتني بها الأمهات بأصابعهن المشققة كوجبة إفطار حنون. محكومون بعقيدة السخاء في منح الدم لاستكمال أطباق وليمة الحرية المباركة، مأخوذون ببهجة الحرية هذه المرة. آتون من القفار المطرودة من هناءات القيلولة الدسمة، وساحات بيع قوة العمل، والبيوت المبنية على عجل، وأقبية دواليب الكاوتشوك وبساط الريح والكرسي الألماني، والجرذان ساعة تكون ضيفة دائمة على قصعة القراوانة، والمجد حين يأخذ شكل أنشوطة قماشية لمنع الشعر المرسل من حجب الرؤية، يأتون من حيث ترك الجنرالات الأرض للضواري تتكفل بالإجهاز على آخر نفس للحياة.
ليس أمام العامة المتشابهين إلا التقدم نحوهم، لا للترحيب بهم أو السير الجفل في جنازاتهم، بل لرتق جروحهم بضمادات الصراخ الحاسم ، وللتبارك بأنفاس الحياة الصاعدة كبخار من زفير حلمهم الناجي من طحن رحى بازلت لا يرحم.