آمنّا بأحلامنا فانتصرنَا!

وأنا على عتبة الخامسة والسبعين من عمري، أعتقد أنه حان الوقت للنظر قليلاً في تلك المرآة التي كانت توضع على جانبيْ المَرْكبات القديمة (كانت تسمّى سيّارات لأنّها تسير على الأرض على عكس المركبات الطائرة اليوم) وتسمح لسائقها برؤية ما وراءه من سيّارات.والحقيقة لم أكن أعتقد قبل أربعة أو خمسة عقود أنني سأعيش إلى هذا اليوم. فمنذ دخولي غمار السياسة في سنّ العشرين، كنت شبه متأكدٍ أنني لن أعمّر طويلاً. فما
2014-04-01

غسّان بن خليفة

صحافي وباحث من تونس


شارك
من الانترنت

وأنا على عتبة الخامسة والسبعين من عمري، أعتقد أنه حان الوقت للنظر قليلاً في تلك المرآة التي كانت توضع على جانبيْ المَرْكبات القديمة (كانت تسمّى سيّارات لأنّها تسير على الأرض على عكس المركبات الطائرة اليوم) وتسمح لسائقها برؤية ما وراءه من سيّارات.والحقيقة لم أكن أعتقد قبل أربعة أو خمسة عقود أنني سأعيش إلى هذا اليوم. فمنذ دخولي غمار السياسة في سنّ العشرين، كنت شبه متأكدٍ أنني لن أعمّر طويلاً. فما تعيشه في هذا المجال من ضغوط يوميّة ومتابعة للأحداث فضلا عن محاولة التأثير فيها، لا يترك لك ترف تمنّي الموت الطبيعي. ففي ظل الديكتاتوريات العربيّة البائدة، إن نجوتَ من الموت بالرصاص أو تحت التعذيب، فمن الصعب أن تنجو من الموت بنوبة قلبيّة، كمداً أو حنقاً. كما أنّ بعض الأحداث المزلزلة التي عاشها جيلي والأجيال التي سبقته، كانت تجعل عمرك يقفز أحياناً عقداً من الزمان مرّة واحدة. وقد شعرتُ بذلك فعلاً يوم احتلّ الجيش الأميركي بغداد في 9 نيسان/إبريل 2003.لكن من حسن حظّ الأجيال الجديدة أنها خُلقت في عالم أفضل. "عالم أفضل ممكن"، كان شعار حركة العولمة البديلة في شبابي. وها أنا اليوم أعيش لأرى تحققه بنسبة كبيرة. فمن كان قبل أربعين عاماً يصدّق أننا سنشهد انهيار الإمبراطورية الأميركيّة التي كانت تحكم عالمنا بالنار والحديد وبسحر الدعاية الرأسماليّة، منذ سقوط الاتحاد السوفياتي في أوائل تسعينيات القرن الماضي؟كان النظام الرأسمالي المُعَوْلَم قد بدأ يتآكل من داخله قبل حوالي ثلاثة عقود، إذ لم يعد قادراً على الاستمرار بسبب ما كان يتطلبّه نمط العيش الاستهلاكي لسكان أميركا الشماليّة وأوروبا من موارد طاقيّة ضخمة. وصراع ما كان يسمّى بـ"الغرب" مع المحور الروسي الصيني (ما عُرف بـ"الحرب الباردة الثانية")، أنهك الأوّل كثيرا وسمح بصعود قوى أخرى من الجنوب توحّدت في نسخة جديدة من "حركة التضامن بين شعوب أفريقيا، آسيا، وأميركا اللاتينية"، وفرضت ميزان قوى عالميّاً جديداً. إلاّ أنّ العامل الحاسم كان في منطقتنا ومن صنع شعوبنا.فقبل حوالي أربعة عقود شهد عالمنا العربيّ انتفاضات اجتماعيّة وسياسيّة أًطلق عليها في حينها تسمية "الربيع العربي". ولا ينسى أبناء جيلي كيف كاد ذلك الربيع يتحوّل بسرعة إلى "خريف"، بعد أن اختطفت ثورات الشعوب قوى يمينيّة محافظة استغلّت مشاعرها الدينيّة لتصل في مرحلة أولى إلى الحكم عبر انتخابات رسمت نتائجها أموال بعض الإمارات النفطيّة السابقة. وكيف كاد أن يقضي صراعها على السلطة مع النخب اليمينّية الليبراليّة، المتحالفة مع بقايا الديكتاتوريات السابقة، على آمال شعوبنا في التحرّر والعدالة الاجتماعيّة. يومها تحققت قولة المفكّر اليساري الايطالي غرامشي: "في غسق الليل الفاصل بين العالم القديم الرافض للموت والعالم الجديد الذي تعسّرت ولادته، تُطلّ أبشع الوحوش برأسها". إذ فُزعنا من قبح ما خلفته الديكتاتوريات والاستعمار من جهل وتفقير وقد تجسّد في حركات تكفيريّة استباحت قتل أصحاب الفكر والدين والمذهب المخالفين لعقائدها الغارقة في ظلمات "القرون الوسطى".إلاّ أنّ تلك المحنة مثّلت آخر النفق بالنسبة لشعوبنا، التي عرفت "سبب جراحها" على قول إحدى أغاني الشيخ إمام، ذلك المغني الصعلوك الضرير الذي آمن بانتصارها وبشر به وان لم يعِش لـ"يرَه". وتبلور يسارٌ تعلمّ من أخطاء تجاربه السابقة واستفاد من تجارب رفاقه في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، ففهم أنّ تغيير البُنَى السياسيّة والاقتصاديّة غير ممكن من دون محاربة "الهيمنة الثقافيّة" لأعدائه وبغير الكدّ والمثابرة والتعمّق المعرفي والانغراس عميقًا بين الفئات الشعبيّة. فنجح هذا اليسار في زرع بذور مثمرة لحركات اجتماعيّة جديدة ظهرت في أكثر من قطر عربي حركات اجتماعيّة، كان عمادها أبناء الأحياء الشعبيّة والجهات المنسيّة، رفعت لواء العودة إلى الأرض والفلاحة الايكولوجيّة والنضال من أجل توزيعها العادل وتحقيق الاستقلال الغذائي، كما ناضلت من أجل تأميم الثروات الطبيعيّة ووقف نهبها من دول الشمال وشركاته "متعدّدة الجنسيات"، وضدّ "ديكتاتورية الديون" والشروط المجحفة لمانحيها.مثلت تلك الحركات رافعات جماهيريّة صلبة، سمحت لأحزاب اليسار بتحقيق انتصارات انتخابيّة كاسحة. وبادرت الحكومات الجديدة إلى تأميم ثرواتها وتوجيه ريعها للتعليم والصحّة والتنمية وأعطت الأقلّيات الثقافية والدينيّة حقوقها المشروعة. فكانت الجماهير وفيّة لها ومثّلت حصنها المنيع في وجه ما حيك ضدّها من مؤامرات من الداخل والخارج. ولم يمرّ عقد من الزمان قبل أن تتحدّ تلك الأنظمة الجديدة لتؤسّس نواة "الاتحاد الاشتراكي لشعوب العالم العربي"، فأقامت فيما بينها تكاملاً تجارياً وصناعياً ووحّدت منهاجها التعليميّة وبعَثت مؤسّسات مشتركة للبحث العلمي وأعادت للغة العربيّة إشعاعها، ممّا جعل منها القوّة الاقتصاديّة والتكنولوجيّة الأهمّ بالمنطقة. وبالتوازي مع ذلك، ساندت بقيّة حركات التحرّر في ما بقي من أقطار عربيّة تحت حكم الاستبداد. كانت تلك الخطوة الأولى التي مهدّت لاحقاً لبنائها قوّة عسكريّة ضاربة حمت بها منجزاتها ودعمت بها مقاومة الشعب الفلسطيني ضدّ نظام التمييز العنصري البائد الذي كان يُسمّى "اسرائيل". إذ أحكمت تلك الدول طوقها على الكيان الصهيوني عبر عزله تماما ورفض التطبيع معه. كما كان لحملة المقاطعة العالميّة BDS دور هامّ في تعرية ذلك النظام البغيض وهو ما دفع بـ"العقلاء" من نخبته الحاكمة إلى القبول بتفكيكه حقنًا للدماء. فبقي بفلسطين المُحرّرة جزء من السكّان اليهود الذين قبلوا أن يعيشوا في مساواة وسلام مع العرب، فيما اختار جزء آخر العودة إلى البلدان الأصليّة التي قدموا منها.صحيحٌ أنّه ما تزال اليوم، في عدد من جمهوريّات الخليج العربي، بعض جيوب للردّة تحرّكها الفلول الهاربة لنظام آل سعود بما بقي لها من أموال حقبة النفط. إلاّ أنّ الأوضاع صارت تحت سيطرة الحركات الثوريّة والحكومات الديموقراطيّة في كلّ أرجاء العالم العربي. بل إنّ بلداننا صارت اليوم بما تشهده من تقدّم ورخاء قبلة المهاجرين من دول الشمال، التي كان جيلنا يحلم بالهجرة إليها. وحتى ابنتي التي وُلدَت وكبُرت في كندا قرّرت منذ حوالي عشرين عاما أن تستقرّ في تونس، إذ رأت فيها المكان الأفضل لها ولمستقبل أبنائها. أذكر أنه قبل حوالي أربعين عاما، كان الكثيرون يهزؤون بنا نحن الذين حلمنا برؤية ما أرويه اليوم، وكانوا يغطّون عجزهم وأنانيتهم بشتم شعوبنا وتحقيرها. لو أصغينا يومها إلى نعيقهم لما زهونا اليوم بأغانينا. 

مقالات من تونس

للكاتب نفسه

انتخابات تونس: انهزم الإسلاميون، فهل تنتصر الثورة؟

تصدّر خبر هزيمة الإسلاميين في تونس بالانتخابات التشريعيّة الصفحات الأولى لجلّ الجرائد العربيّة والغربيّة. فلأوّل مرّة في التاريخ السياسي العربي الحديث ينهزم الإسلاميون في انتخابات حرّة أمام منافسين "علمانيين". لكن...

السلفيون الجهاديّون في تونس: سر انتشارهم الواسع في الأوساط الشعبيّة

مثّلت حادثة السفارة الأميركيّة في 14 أيلول/سبتمبر 2012، (الاحتجاجات العنيفة على فيلم «براءة المسلمين» التي أدّت الى اقتحام وحرق بعض مباني تابعة للسفارة، والى سقوط 4 متظاهرين قتلى برصاص الأمن)...