على الطريق الى الريحان

حتى لا نحرم انفسنا من كل شيء بخلاف الفيروس اللعين، والخوف منه، والمآسي المتجددة التي يكشف عنها أو يتسبب بها، يستأنف "السفير العربي" نشر حلقات قصص ريم مجاهد عن اليمن، بشراً وحجراً، وكل ما يصنع الناس، وبعضه بالضد من إرادتهم أو مما يتمنون.. هذه الحلقة 15.
2020-03-27

ريم مجاهد

كاتبة من اليمن


شارك
فائقة الحسن - البحرين

في المفاضلة بين سيارة البيجو وحافلة النقل الجماعي، قرر علي أن يستقل حافلة النقل الجماعي، حيث ربما تكون الرحلة أكثر أماناً وإنْ كانت أطول. لم يكن هذا السبب الوحيد، فسيارات البيجو تذكّره بمنظر العجوز الذي أتى باحثاً عن حفيده الضائع، لم ينس علي وجهه العاجز حين استقل سيارة البيجو البيضاء دون أن يودعه أو يشكره على الاستضافة. مشى علي في الشوارع هائماً كما يفعل في العادة، حتى وجد مكتباً يشتري فيه تذاكر السفر لحافلات النقل الجماعي، سأله الرجل إن كانت لديه عائلة، فذلك سيسهل عملية عبوره نقاط التفتيش على مر الطريق، أخبره علي أن لا عائلة، ويبدو أنها لن تكون.

لايمكنك خداع نفسك، يفكر علي بعد لقاءه بسلمى. كتب لها شيئاً سخيفاً ليرى ردة فعلها، لم يعاتبها لأنها تركته في المقهى لحظة الاقتحام، لم يكتب شيئاً عن سعادته بلقاءها أو متى سيلقاها لاحقاً، اشتاق حتى الألم للحظات التي كانت فيها سلمى مجرد اسم على الهاتف، تملأ حياته بالثواني. لم يشعر بالخديعة لأنها لم تخبره، شعر بالألم لأنها كانت "كذلك"، لم يبح لنفسه حتى ماذا كانت "كذلك" تعني، وحين واجه نفسه بالسؤال إن كان سبب تشككه هو شكلها أم نسبها، لم يستطع الإجابة. تذكر أمه وهي تحكي قصة أحد شبان القرية الذي عاد قبل سنين عديدة إلى القرية وبرفقته زوجته "الخادمة"، قالت له أنهم لم يكونوا يعلمون أن أهله قد تبرأوا منه، وأنه حين عاد أصاب الجميع بالصدمة. فحتى لو كنا فقراء لا يمكن أن ننزل بمستوانا للحضيض ولا أن نتسبب في معاناة أولادنا الذين حتما سينبذهم العالم.

اشتاق حتى الألم للحظات التي كانت فيها سلمى مجرد اسم على الهاتف، تملأ حياته بالثواني. لم يشعر بالخديعة لأنها لم تخبره، شعر بالألم لأنها كانت "كذلك"، لم يبح لنفسه حتى بماذا كانت "كذلك" تعني.

في الطريق، ولأربعة عشر ساعة، أحصى علي صحبة رجل آخر يجلس في الخلف، عدد النقاط التي توقفوا فيها: خمسة وخمسون نقطة تفتيش، تغيرت فيها الأعلام، ملابس الرجال، الشعارات المرفوعة، و اللهجات. لكن لم تتغير لا الأسئلة ولا طريقة المعاملة. بعد كل نقطة تفتيش، كان الرجل في الخلف الذي يمضغ قاته منذ الصباح، يصرخ بالرقم، فيؤكد عليه بقية الركاب. فُتِّشت الحافلة عشرين مرة، وأظهر علي بطاقة هويته ثمانية عشر مرة، وأجاب على أسئلة الجنود والمسلحين باللهجة الهادئة الصادقة ذاتها، احتفظ بمناظر الطريق وبأرقام النقاط وقرر أنه سيكتب عنها بلغته الركيكة، ولم ينس أن يكتب رسالة لسلمى يبلّغها بأنه مسافر. وعلى الرغم أنه كان غريباً عليه أن يسافر في غير وقت العيد، ادّعى علي كذباً أن أمه مريضة.

كان هو المريض بالاختناق وغضب التناقضات.

تهادت الحافلة، أصوات نساء وأطفال يتقيأون أحياناً ويتحدثون أحايين، تختلط بصوت أبو بكر سالم الذي رافقهم طوال الرحلة تقريباً. كانت الحرب في كل مكان، في البيوت المهدمة، في جوع الناس، في الشعارات، في صور الفتية الشهداء على الجدارن، وعلى طرفي الحدود الوهمية. كان الجميع شهداء، القاتل والمقتول، الغازي والمدافع. والحرب لا تترك حتى الهواء، روائح البارود والموت والشك الغريب، كلها تظلل المدن والقرى. استغرب علي ما الذي يجعل من الطريق الملتوية هدفاً لطائرة؟ كانوا ينزلقون في الطرق متفادين الحفر والمطبات، وتعْبر الحافلة طرقات ضيقة لتجنب الطرق التي دمرت بالكامل، إما بسبب قصف الطيران أو بسبب قصف المدفعيات.
فكر علي أن الطائرات قصفت كل شي: صالات الأفراح والمجمعات السكنية، الأسواق وحافلات الأطفال العائدين من المدارس، قصفت الطرقات، لكنها دوماً أغفلت قوافل المدرعات والدبابات التي تجوب البلاد. أكذوبة كبرى أشد مرارة من أكذوبة سلمى ولون بشرتها.

في منتصف الطريق، حطت الحافلة رحالها، بعد رحلة طويلة من الأعلى، حيث الطريق هي الأخطر على الإطلاق. قيل للركاب أنه وقت الغداء. كانت الطبيعة على جانبي الطريق أجمل ما تكون: بساط أخضر وهواء عليل، وسماء لم تعبرها المقاتلات ذلك النهار، أشجار التين الشوكي طرحت ثمارها ببذخ على جانبي الطرقات، الأبقار تتنزه بوداعة مع رعاتها، والجبال على مرمى البصر تكتلات خضراء تحيط بقممها دوائر الضباب الكثيف.كانت المدرجات الزراعية تمتد من الأودية حتى صدور الجبال، السنابل لم تعلن عن نفسها بعد، لكن ولادتها باتت وشيكة.. وعلى حواف المدرّجات، تسلقت الشجيرات وغطت جدرانها، وفي الأودية بنت العصافير أعشاشها بكثافة على أشجار السدر الشوكية. ترجل الجميع من الحافلة إلا فتاتين كانتا تسافران وحيدتين.

تذكّر أمه وهي تحكي قصة أحد شبان القرية الذي عاد إلى القرية وبرفقته زوجته "الخادمة". قالت له أنهم لم يكونوا يعلمون أن أهله قد تبرأوا منه، وأنه حين عاد أصاب الجميع بالصدمة. فحتى لو كنا فقراء لا يمكن أن ننزل بمستوانا للحضيض ولا أن نتسبب في معاناة أولادنا الذين حتماً سينبذهم العالم.

استنشق على هواء المدينة. أكثر من حافلة رست في الموقع، وثلاثة مطاعم كبيرة بانتظار هجوم المسافرين وقت الغداء، كانت تلك بؤرة للمتسولين وبائعي الأشياء الصغيرة: كتب الأدعية، الحناء وملصقاتها البلاستيكية، قبعات خزفية، "دروع قطنية". لم يهتم بائعي الأشياء بعلي، كانت النساء هن أهدافهم. علي هو الهدف الأمثل للصبية المتسولين. تقدمت نحوه فتاة بلون قهوة " القشر"، عيناها سوداوين فاحمتين، ارتعد علي. كانتا عينا سلمى قبل أن تزيح نقابها، وكانتا أول ما ارتجف له قلبه قبل أن تتحول تلك الارتجافة إلى وخز حالما نزعت نقابها. ابتسمت الفتاة قبل أن تبدأ الحديث. في تلك اللحظة فقط أدرك أن سلمى لم تبتسم قط خلال لقاءهم، لم يلم علي نفسه، أزاح الفكرة بعد أن نفح الصبية مئة ريال ثم فرّ من هجوم الصبية الآخرين.

لم يذهب علي للغداء، اعتاد أن يأكل أقل، "أحد سبعة ملايين جائع" يذّكر نفسه. تجول حول منطقة الحافلات تلك، استمع لثلاثة رجال يناقشون حالة الطقس ويحلمون بالاكتفاء الذاتي حيث لا يهم إن أُغلق أو قُصف الميناء. وحين عاد إلى الحافلة وجد الفتاتين مازالتا على حالهما، كانتا أمامه بالضبط، لذ فقد كان محرجاً له أنه حين عاد الآخرون من الخارج كلٌ يحمل شيئا للفتاتين: علب الماء والعصائر والشوكولاتة والكيك، حتى أن أحدهم ابتسم وهو يهديهن علبة "برنجلز"، كانت تلك تقاليد الرحلات، حيث إذا ما صادفت فتاة وحيدة، اجلب لها شيئاً بدون الكثير من الكلام. أغفل علي تلك النقطة، تضاءل قليلاً ثم نسيها وغط في النوم جائعاً.

____________
من دفاتر السفير العربي
اليمن بعدسة ريم مجاهد
____________

في اليوم التالي، كان علي قد عبر الحدود الوهمية، نام ليله في لوكندة اعتاد النوم فيها، ثم استعد لرحلة القرية. لم يخبر أمه بعودته، استقل سيارة البيجو التي تهرَّب منها في الرحلة الأولى، كانت الطبيعة مختلفة هنا. هواء البحر الساخن الرطب والحر الخانق. اخترقت السيارة مناطق مزارع المانجو والموز، مزارع تقع بين البحر والصحراء، يجلس الناس في جوانب الطريق تحت أشجار النخيل، مشرفين على بسطات الفواكه والخضار. كان علي في رحلة الجبال قد لاحظ كيف انقض الناس على مشتريات البطاطا والعنب والرمان القادمة تواً من المزارع. في رحلة السهل، توقفت سيارة البيجو في عشر نقاط أمنية متتالية، ثم تدفقت مخترقة المزارع متجهة نحو الطريق الصحراوي، لاحت مقتربة كثبان الرمل وقوافل الجمال الهائمة. كان علي يحفظ تفاصيل هذه الطريق التي تربط قريته بأقرب مدينة على البحر، يعرف تماماً نقاط تجمع "ممالك النحل" و"منحّلّيها" المختبئين من جحيم الشمس تحت عرائش من سعف النخيل. لن يسمها أحد "مزارع نحل" إذ لا يتجاوز عددها خمسين صندوقاً للمنحّل الواحد.

كانت الحرب في كل مكان، في البيوت المهدمة، في جوع الناس، في الشعارات، في صور الفتية الشهداء على الجدارن، وعلى طرفي الحدود الوهمية، كان الجميع شهداء، القاتل والمقتول، الغازي والمُدافع.

في الطريق إلى داره، عبر علي الوادي متجهاً إلى الجبل حاملاً حقيبته الرياضية السوداء ومشتريات أخرى عاد بها لأمه وأخواته وأبناء إخوته. كان الوقت يوشك على الظهيرة، والنساء ينهين أعمالهن في المدرجات وعلى المنحدرات التي تعلوها. حيّت النسوة الكبيرات في السن علي، وسألنه عن حياته وعن المدينة والحرب والسلام. لم تفعل ذلك الفتيات الشابات، اللواتي خبأن وجوههن تحت قبعاتهن الخزفية العريضة. بدت القرية كأنها عالم منفصل، هدوء وثبات أزلي، كدرت صفوه كثرة الجنازات مؤخراً. لكنها ظلت بثباتها الأزل.، في كل زيارة لعلي يكتشف أن هناك على الأقل خمسة مواليد جدد، وحفلات زفاف جديدة لمراهقين كان بالأمس فقط يحملهم على ذراعيه، والفتيات اللواتي وزع عليهن حلوى العيد في السنة الفائتة احتجبن واستعددن لرحلة الزواج، وأمه تعدّ أساميهن عليه عله يوافق على الزواج ويلتحق بالركب.

حيّت النسوة الكبيرات في السن علي، وسألنه عن حياته وعن المدينة والحرب والسلام. لم تفعل ذلك الفتيات الشابات، اللواتي خبأن وجوههن تحت قبعاتهن الخزفية العريضة. بدت القرية كأنها عالم منفصل، هدوء وثبات أزلي كدرت صفوه كثرة الجنازات مؤخراً.

خارت البقرة ونبح الكلب، تقافز الصبية، سمع نداء أمه السعيد. كان الدخان يتصاعد معلنا أن أمه تعد الخبز في التنور، لم يتغير شي ولن يتغير: حزم الحطب تجف في أماكنها، البقرة في موقعها الصيفي، بيت الدجاج الذي بناه، أسماء الأغنام، عريشة الحمار، أشجار "المريمر" الوارفة التي يجب أن تنمو بجانب البيوت، رائحة الروث، الكهول الذين على الرغم من الشمس يتجولون بأجهزة المذياع على السطوح، الفتية الذين يكبرون وهم يرتدون الملابس نفسها حتى تتمزق تماماً، الفتيات - حتى الصغيرات منهن - بأغطية الرأس الملونة، النساء بصدورهن المهتزة حيث لم يتعرفن بعد على حمالات الثدي. وفي جوانب البيوت وعلى السطوح محميات النعناع والريحان الذي تحطه النساء على رؤوسهن ليجمّل روائحهن. وعلى الرغم من الريحان، اشتم علي رائحة الخبز الطري في رأس أمه حين دس وجهه يقبلها، وتساءل أي رائحة يا ترى لشعر سلمى ولعنقها؟

الحلقة الأولى
الحلقة الثانية
الحلقة الثالثة
الحلقة الرابعة
الحلقة الخامسة
الحلقة السادسة
الحلقة السابعة
الحلقة الثامنة
الحلقة التاسعة
الحلقة العاشرة
الحلقة الحادية عشر
الحلقة الثانية عشر
الحلقة الثالثة عشر
الحلقة الرابعة عشر

مقالات من اليمن

تحوُّلات العاصمة في اليمن

يُعدّ الإعلان الرئاسي عن نقل العاصمة الى "عدن"، في معناه القانوني، إجراءً رمزيّاً، لأن نقل العاصمة يقتضي إجراء تعديلات في الدستور اليمني، الذي لا يزال ينص على أن مدينة "صنعاء"...