في لحظة تجلٍّ، أواسط الثمانينيات، وبينما كانت الحرب الإيرانية العراقية تزرع ما تيسّر لها من موت ودمار، قرر صدام حسين بمعيّة حكومته إعادة إعمار مدينة بابل الأثرية. وهكذا كان. أعاد إعمارها... فشيد مبانيَ جديدة حُفرت عليها عبارات من نوع "من نبوخذ نصّر إلى صدام حسين المجيد.. بابل تنهض من جديد". وكذلك ختم جدران المدينة بنقشين متداخلين، للملك البابلي الأكثر شهرة نبوخذ نصّر، وله. كما تمّ داخل المدينة الاثرية بناء قصر ومقصورة شرف خاصة بصدام حسين من المرمر والمواد الحديثة. وتمّ إطلاق اسمه على تلّ وسط بابل الأثرية.
لهذا، ولأنّه تبيّن أن عمليات الترميم غير مطابقة للمعايير الدولية التي تتعامل بها اليونيسكو في تهيئة الآثار، وبسبب استخدام السلطات العراقية لمواد مختلفة عمّا استعمله البابليون، قرّرت المنظمة في العام 1988 رفعها من قائمة التراث العالمية.
وفي العام 2009، رفضت اليونيسكو إعادة إدراج المدينة في قائمة التراث العالمي، بعد طلب من الحكومة العراقية، وأشارت المنظّمة بشكل صريح إلى استحالة ذلك ما لم تتمّ إزالة المنتجع السياحي الذي أقامته الحكومة المحلية السابقة وحولت أقساماً منه إلى متاحف ومراكز علمية.. وأُثير حينها أن أكثر من 4 مليارات دينار (مجهولة أوجه الصّرف) أنفقت على تأهيل "منتجع بابل".
وفي ذلك الوقت، وبعد الردّ، أعلنت اللجنة المشرفة على تنفيذ مبادرة رئيس الوزراء (الخاصة بالإعلان عن جعل النصف الثاني من عام 2009 عاماً وطنياً لحماية الآثار والتراث والمتاحف العراقية) عن قلقها إزاء رفض اليونيسكو. وخرجت الأمانة العامة لمجلس الوزراء ببيان تقول فيه إن "اللجنة بينت أن ثراء العراق الحضاري واضح، لا يحتاج إلى تأكيد وبالأخص مدينة بابل الزاخرة بالشواهد العمرانية"(!). أي ان القوم كانوا لم يدركوا بعد أين يقع العطب، لا في مسلكهم ولا في مسلك صدام حسين من قبلهم.
ما سبق من معطيات مرعب. تناقضات وملفات مفتوحة على الفساد والإهمال والجهل. وزاد الطين بلة ما ارتكبه الاحتلال الأميركي بين عهدين من نهب للآثار حينما لا يقع عليها قصف وتدمير. وهؤلاء كانوا قد حولوا المدينة الاثرية إلى.. قاعدة عسكرية.
منذ أسبوع، أعلنت وزارة السياحة والآثار العراقية استكمال الملف الخاص بطلب إعادة بابل إلى قائمة التراث العالمي. وأكد الوزير المعني أن اللجنة المكلفة أنجزت أعمالها وسيتمّ إرسال التقرير إلى اليونيسكو مطلع شهر شباط المقبل.
فهل حقاً أنجز كل شيء، حتى لا يتكرر الرفض وتستباح أكثر آثار العراق الغني فعلا بتاريخه السحيق؟ إذ تعود إلى الذاكرة صورة رأس ملك الحضر "سنطروق الأول" الذي استعادته السفارة العراقية في بيروت في شهر أيلول من العام الماضي.. وقدمه إلى الإعلام ديبلوماسيان من السفارة يقفان خلف الرأس (التمثال) الموضوع في صندوق يُستخدم.. لتوضيب البندورة.