العدد الأخير..

أربعون عاماً مرّت على عجل. باتت ثمانين وأنا جالسة مكاني، لا أفعل شيئاً أكثر من رفع الإصبع والعدّ تصاعديّاً. مدهوشة على الدوام. أنظر إلى التفاصيل، وأقلّب العدد الـ86 من ملحق السفير العربي. يومها صدرعددٌ خاص احتفاءً بالعيد الأربعين للجريدة. أذكر جيّداً استعدادات تلك الفترة، على الرغم من السنين الكثيرة التي مضت. صدرنا حينها بتاريخ 27 آذار 2014 (يلتفتُ إليّ الآن في المقهى رجل تبدو عليه

أربعون عاماً مرّت على عجل. باتت ثمانين وأنا جالسة مكاني، لا أفعل شيئاً أكثر من رفع الإصبع والعدّ تصاعديّاً. مدهوشة على الدوام. أنظر إلى التفاصيل، وأقلّب العدد الـ86 من ملحق السفير العربي. يومها صدرعددٌ خاص احتفاءً بالعيد الأربعين للجريدة. أذكر جيّداً استعدادات تلك الفترة، على الرغم من السنين الكثيرة التي مضت. صدرنا حينها بتاريخ 27 آذار 2014 (يلتفتُ إليّ الآن في المقهى رجل تبدو عليه ملامح اسبانية، ليعرف سبب شهقتي العالية). لم أكن أظنّ أن الوقت سيمضي سريعاً هكذا.
اليوم 27 آذار 2054. استيقظت على الضوء الأحمر وهو يملئ غرفتي. هذه رسالة صوتية جديدة. أفتحها وأنا في السرير، لأتفاجأ بأنه ارنست. لم نتبادل أي رسائل منذ فترة. يسألني سريعاً عن سبب تغيير مكان اقامتي ويسأل عن احتمالات عثوره على ما كتبه في «السفير العربي» بشكله الورقيّ. يُضحكني طلبه. ارنست الذي لم يهتمّ يوماً بقصاصة ورقية واحدة. ودائماً ما ضحك ساخراً من محاولاتي الاحتفاظ بأرشيف ورقيّ. كان يردّد، على الدوام بأنّ «المستقبل للالكتروني»، وما أحمله بيدي لن يُحفّز إلاّ كثيراً من الصراصير والحشرات لغزوي.
سأردّ عليه الآن بجملة واحدة «لم يحصل يا همنغواي، لم يحصل وها هو الحنين يقتلك». فعلياً أنا كنتُ أتحضّر لغزوات شوق. لمس الجهد بأصابع اليد لا يعادله شيءٌ آخر. أخاله يحضن الشاشة الرفيعة أمامه الآن. سألتقيه ونضحك طويلاً. أرجّح أنه يبحث عن أرشيفه لأسباب تتعلّق بولديه.
ما زلتُ في السرير، ومنه أبدأ التقليب في مكتبتي. أجد الزاوية المخصّصة لما حملته معي من أعداد «السفير العربي». انهض من مكاني متوجهة إليها بهدف إخراجها والاطلاع عليها. أفردها فوق الطاولة الأقرب. احتفظ بثلاثة من كلّ عدد، تماماً كما أخرجتها معي من لبنان. إنه يوم اثنين، يقع تحت يدي عدد استثنائي. كان عدد العيد الأربعين للجريدة. هذا ما دفع ارنست نحوي اذاً. كعادته، تذكّر قبلي.
الآن بين يديّ ما تمناه/توقعه/أمله كثيرون حينها، لهذا اليوم. يبدو لي أن عدّ السنين أغراهم. غاصوا في خيال لم يجد له مكاناً بعد. أتذكّر على عجل اصدار الملحق قبل أربعين عاماً. يرنّ هاتفي. هذا عمر الجفّال. ترك العراق منذ سنين ولا يزال مقيماً في علب من الحنين غير المنتهي. يسألني عن مركز الأبحاث، لديه نيّة بإعادة تواصله معهم. راسلهم مراراً ولم يحصل على أيّ ردّ. يستغرب الأمر كثيراً. لا «سفير عربي» اليوم. الملحق الذي حاول، قبل أربعين عاماً، كسر القالب السائد، عبر مادة بحثية قابلة للقراءة من كل الناس تحول إلى مركز أبحاث كبير.
حصل على التمويل اللازم للعبور، وحقّق خطوة نوعية في العالم الالكتروني.
العدد الورقي الأخير كما يظهر أمامي الآن كان عام 2019. التمويل انتقل بطاقم العمل وكذلك التقنيات، وكلّه بات أكثر تطوراً. عندما تركت لبنان كان «السفير العربي» ما زال على حاله. عدد ورقي والكتروني، يصدران كل يوم خميس مع جريدة السفير. في لحظة عبرت أمامي أيام كثيرة: الاثنين وفوضى ايجاد صور العدد، الثلاثاء والسهر لانجاز «ماكيت» العدد، الأربعاء والتفرغ للشقّ الالكتروني...
أُخبر عمر أني هائمة على وجهي أقلّب أعداد الملحق. يضحك طويلاً محاولاً تذكيري بفترة حكم المالكي. يدفعني بقوة إلى فايسبوك، لأعود بصفحته إلى العام 2013. نجد صورة المالكي مكتوب عليها «أكشنها». نحاول تذكّر عدد ما كتبه عن الفساد. يخبرني أنّ كل شيء على حاله، ما تغيّر هو فقط انتقال أغلب أبناء جيله للعيش خارج ذلك الكوكب. عندما انفجرت سيارة أمام مكان عمله العام 2014 ونجا صدفةً منها، أخبرته أنه سيعيش طويلاً، فقط لو أخذ القرار بالفرار. نتذكّر وننهي الاتصال.
أقلّب في بريدي الالكتروني. هذه رسالة من زهرا. تخبرني أن مجد يرفض الخروج من حيفا. قلبه عالق هناك. لا أردّ. أعلق في مقالة وقّعتها في تشرين الثاني من العام 2012. كان العنوان «تويتر نالوا منك!». أقرأ وأضحك. هذا خبرٌ عن ملاحقة «مغرّدين» ناشطين على تويتر من قبل السلطات البحرينية والحكم عليهم بالسجن لسنوات. هذه سلطة لا أثر لها اليوم، فقط ذكريات كثيرة عن بطشها. انهارت عقب الجولة الثانية من الثورة البحرينية. اختنقت الناس حينها فانتفضت وأنهت ذاك الشيء الذي أطبق على عنقها طويلاً.
في نصّ آخر أقرأ « من اليوم وصاعداً، سيحمل رجال الشرطة أدوات حلاقة في الشارع. ماكينات وموسى لحلق أول رأس مخالف يقع بين أيديهم. ستتعب حماس. أوكلت إلى نفسها إصلاح «أخلاق» الناس. لن تترك تفصيلا صغيراً يفوت». أحاول تذكّر الحادثة. أستعيد بعضاً من الضجة التي حصلت حينها. أين حماس اليوم؟ متى كان الخبر الاخير الذي قرأته عنها؟ كان هذا في سنوات مضت. غزة اليوم أجمل.
أفرد صفحات الملحق. إنها السادسة صباحا الآن. مرّ الوقت ولم أنتبه. أتّصل بارنست. أُسرّ له بأنّ مقالاته بين يدي وبأنني أقرأ بسعادة عالية. تعود نقاشات الثورة السورية، تأتي نسائمها لطيفة على الرغم ممّا تركته من وجع. هذه ذكريات لزمن مضى. أفردنا الكثير من النصوص للكلام عن حقّ المرأة السعودية بحياة أفضل. ما زلنا مكاننا، لولا بعض الانجازات. بات بامكانها الدوس على البنزين وقيادة سيارتها الخاصة. لم نعد نسمع عن فتاوى غريبة. خفّ وهجها وانحصرت. أمراء وشيوخ ما زالوا في حكم «الضيع الصغيرة»، بلادهم. ورث الأبناء والحال على حاله باق. لم يتغيّر الكثير، خطوات بسيطة إلى الأمام. أعداد المهاجرين في ازدياد.
كلّ من خرج ما زال هائماً في نوبات من الحنين، لا يعود ولا هو قادر على البقاء. أزمتنا مستمرة منذ سنين، منذ أربعين عاماً وأكثر.

(النص بمناسبة العيد الأربعين لجريدة السفير)

مقالات من لبنان

لبنان مجدداً وغزة في القلب منه

... أما أنا فأفرح - الى حدّ الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف - لفرح النازحين العائدين بحماس الى بيوتهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. لتلك السيارات التي بدأت الرحلة...

للكاتب نفسه

عندما ترتاد امرأة شاطئاً عامّاً..

التهديد بالعري مقابل "حشمة" الحجاب المفروض، كما يحدث الآن بخصوص المايوه في الجزائر، هو الوجه الاخر للعملة نفسها. الاصل أن النساء لسن عورات للستر وان لهن حقوقاً مساوية للرجال في...

رمضان في تولوز: هل ترغبين بالتذوّق؟

عند السادسة مساءً يكتظّ الوسط التجاري الخاص بباغاتيل. تنزل النسوة مع أزواجهنّ وأولادهم لشراء ما ينقصهم قبل الإفطار. صفّ الناس لسحب المال من ماكينة البنك تجاوز الرصيف ليصل إلى الطريق...