ماهينور المصري.. ثورة و"قهوة بالريحان"

"نحن لا نحب السجون، ولكننا لا نخافها"، هي كلمات ماهينور الشهيرة، أو "ما هي نور" كما يفضل أحباؤها تفصيلها وتفسيرها..
2020-03-10

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك

من الجميل أحياناً أن تجرِّب نكهة قهوة لا تعرف مذاقها، ومن الشجاعة دائماً أن تؤمن بنجاح ثورة لا نملك زمام مسارها. ولقد شربت مع "ماهينور" ذات صباح "قهوة بالريحان". كانت المرة الأولى لكل منا، وكان لقاؤنا الثنائي الأول. أما الثورة، فقد كانت وما زالت هي ما يجمعنا بالتأكيد.

-1-

حضرتُ يومها أبكر منها، واستوقفتني الكلمة التي أحبها من بين مئات الكلمات في قائمة الطلبات، سألتها فور حضورها "أتحبين الريحان؟"، أجابت" بالتأكيد"، قلت"أتجربينه مع القهوة؟"، أجابت ضاحكة "ومع الثورة".

ضحكنا وقررنا تأسياً بمسار السنوات أن نجازف، ولا نخاف طلب "الحجم الأكبر" كما اخترنا جميعاً ذات يوم "الحلم الأكبر". يومها قالت "لو جاء مذاقها جميلاً فسنفرح لأننا صدّقنا حدسنا، ولو جاء سيئاً فقد اتخذنا قراراً ألا نندم ".

-2 -

كنا ـ ومن الأفضل لنا أن نبلّغ عن أنفسنا ـ نتبادل الرأي في كيفية دعم أصدقائنا ممن حصدهم "الأمل" ورمى بهم في الزنازين. لم أتخيل أن تلحق ماهينور بهم بعد أيام قليلة من اللقاء. خطفوها خطفاً خلال خروجها من المحكمة، بعد أن دافعت عن أحدهم وطالبت بحقه في إخلاء السبيل.

مقالات ذات صلة

يومها، قلتُ لها ما لم أقله إلا نادراً "يا ماهي "I am one of your fans. ضحكت الضحكة التي تتوقعها وإن كنت لا تعرفها، وقالت "لا والنبي بلاش، ما بحبش حد يقولي كده"، ضحكتُ وقلت "لا يا ستي أنا حرة باقول اللي أنا عايزاه". وفي سري تمنيت أن تتكرر اللقاءات وأن تحتفظ هي بحريتها.

وعند سماعي خبر القبض عليها "للمرة الثالثة" تساءلت عن هذا الشعور الذي يخالط الشجن في داخلي، حتى أعلن عن نفسه وقال "اليقين".

نعم هو اليقين، فليست هي أكثر من دفع الثمن من بين النساء، لكن لسجنها مذاق خاص ما بين الإشفاق عليها والفخر بها، والإحساس أن ذلك علامة دائمة على سلامة اختيارها وجمال أدائها وبساطة روحها وما قد تخفيه لها الأقدار.

ولأنني أعرف كم هي تشبهنا جميعاً، إذا ما وثقنا بأنفسنا، نحن الحالمات، المتناثرات هنا وهناك، بعضنا في السجون وبعضنا خارجها، بعضنا في الجامعة تكتب رسالتها، وأخرى تناضل من أجل قوت يومها على الأرصفة، وثالثة ما زالت تستسلم لحظها السيئ في جداول الزيجات.

تتفاوت الدرجات حول الاستعداد وماهية الأمنيات، ويبقى المشترك هو الإيمان بالحق في الحلم وحتمية المقاومة ورفض الثبات.

-3-

"نحن لا نحب السجون، ولكننا لا نخافها"، هي كلمات ماهينور الشهيرة أو "ما هي نور" كما يفضل أحباؤها تفصيلها وتفسيرها، "نحب ولا نخاف"، قالتها كأسلوب حياة اختارها أكثر مما اختارته لكنها وبثقة ارتضته، ولقد رأيت هذا بعيني في يوم لقائنا الأخير.

كان هذا داخل سجن طرّة الذي، وحده دون سائر سجون العالم، يضم قاعات محاكم يتلو فيها القضاة اليمين، ويقسم شهود الإثبات من ضباط الشرطة على قول الصدق. "ما الذي اقترفه ياسين؟"، يقولون ويقولون، يتهمون هؤلاء الشباب بالقتل والتجمهر وفساد التنظيم، بينما هم يتراصون كملائكة بملابس بيضاء داخل قفص زجاجي يمنع عنهم الصوت، ويحاول إن استطاع حجب الرؤية والأشواق. أطلّتْ ماهينور أيضاً بالأبيض، وكنت أقف في انتظارها بين عشرات الحاضرين، أنا وصديقتنا المشتركة الأم "نجلاء بدير" وعمتها المثابرة التي أورثتها المهنة "وفاء المصري". وبعد تبادل السلامات والقبلات العابرة للزجاج، أشرتُ إلى الحلق الجميل في أذنيها، فاتسعت ضحكتها التي لم تفارقها وأشارت إليه كأنها تُسمِعنا رنينه، وجذبت ضفيرتها لتُشهِدنا كيف استطالت بضعة سنتيمترات. سألها أبوها الثاني، المحامي الجميل "محمد منيب" : "أتفضلين الخروج من القفص والحديث؟"، فأشارت بيدها لامبالية، وأكملت الضحك والسؤال عن الأحباء وبث الحنين.

خلال طريقي للخروج من بوابة السجن، مررت على طلبة بمعهد أمناء الشرطة، يهتفون ويجْرون في المكان حتى يتخرجوا بعد سنوات ويصبحوا "مخبرين". قلت هي مهنة ذات معنى ـ إن صَلحتْ ـ لكن لِمَ اتخذ الآن هذا الشاب الصغير قراره بالانضمام ؟

سحبتني صيحاتهم إلى داخل القفص، إلى الفتاة التي تم القبض عليها في المرات الثلاث إما من أمام المحاكم للتظاهر أو للترافع أو للبحث عن أصدقاء داخل قسم الشرطة، وقلت "كم سيفرق لو عرف هذا الشاب يوماً أن ماهينور المصري ودعّت شهادتها العالية بالعلوم السياسية ذات يوم، وقررتَ دراسة الحقوق للدفاع عن المظلومين وزيارتهم في الزنازين ودعم الأهل المكلومين.

..

لا أعرف لون الحلم لأنه هو من يراني، لا أنا من أراه، لكن يمكنني دائماً أن أشمّ رائحته ولا أخطئه. هو "الريحان".
وأنا ها هنا، أكتب على أنغام الموسيقى وتنساب أشعة الشمس إلى غرفتي. بينما أتمنى أن تصل لها رائحته بسجن القناطر، تصل لها ولكل من معها من حالمات ومظلومات ومقاتلات وصابرات وقبلهن جميعاً المذنبات. فأنا أوقن أن إحداهن قد زرعته هناك ذات يومٍ وتوالت الأرواح على سقايته على مدار السنوات.

أتمنى وأنتظر خروجها لنحصل من جديد على فرصة للتجريب مع الثورة والقهوة .

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...