ما تحجبه الحرب من أثرها النفسي في اليمن

19.5 في المئة من السكان يعانون من نوع أو أكثر من الاضطرابات النفسية، شكلت النساء 81 في المئة منهم، والمتعلمين من الجنسين 86 في المئة، بينما تركزت أعلى النسب حسب الفئات العمرية بين 16-33 سنة. هنا قصة لأحد هؤلاء.
2020-03-06

لطف الصَّرَاري

قاص وصحافي من اليمن


شارك
عبد الكريم مجدل البيك - سوريا

لم تكن حياة اليمنيين خالية من الضغوط النفسية قبل اتساع رقعة الحرب في 26 آذار/ مارس 2015. غير أن الحياة التي عاشوها خلال السنوات الخمس الماضية، حفلت بأحداث يفوق تأثيرها ما عانوه خلال ما سبقها من أعمارهم.

في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، حذرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر والاتحاد الدولي لمؤسسات الهلال الأحمر، من "تبعات إغفال الاحتياجات الهائلة المتعلقة بالصحة النفسية لدى المتضررين في حالات الطوارئ الإنسانية". ونشرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر ملخصاً بيانياً لدراسة تفيد بأن احتمالية الإصابة باضطرابات نفسية في الظروف الطبيعية هي لشخص من كل 15 انسان، أما في حالات الطوارئ فإن العدد يرتفع إلى شخص من كل 5 أشخاص.

تشهد اليمن حرباً شاملة منذ مارس/ أذار 2015، ومعنى "شاملة" هنا ليس مجازياً بأي حال. كل فرد في المجتمع اليمني احترق أو اكتوى بنار الحرب، والناجون من آتونها يتحملون وطأة أثرها شديد الثقل في نفوس لا تتذمر من أقدارها. يتحملون بقدرات عالية على الاصطبار، بينما يجد فائض الضغط الهائل طريقه في مسارين: اضطرابات الصحة النفسية وأسقام البدن، أو كلاهما. الأولى تفضي بصاحبها إلى الشارع والثانية تورده المقبرة.

حسب دراسة نشرتها "مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري"، في كانون الثاني/ يناير 2018، فإن ما يقارب 5.5 مليون شخص في اليمن يعانون نوعاً أو أكثر من الاضطرابات النفسية. المؤسسة التي تكاد تكون الوحيدة من المنظمات العاملة في اليمن، تقدّم خدمة المعالجة النفسية المتخصصة خلال فترة الحرب، وهي أجرت الدراسة على عينة من قرابة 850 ألف شخص. هؤلاء هم إجمالي من قدمت لهم الدعم والعلاج النفسي عبر الهاتف أو بزيارة مقرها خلال الفترة 2014-2017. وخلصت إلى أن 195/1000 شخص يصابون باضطرابات نفسية في اليمن، وأن نسبتهم إلى إجمالي عدد السكان التقديري (28 مليون نسمة) بلغت 19.5 في المئة. من هذه النسبة كانت نسبة النساء 81 في المئة، والمتعلمين من الجنسين 86 في المئة، بينما تركزت أعلى النسب حسب الفئات العمرية بين 16-33 سنة.

مرت هذه الدراسة كما لو أنها لم تقل شيئاً خطيراً. وهي تنضم إلى غيرها من التحذيرات المتعلقة بمخاطر استمرار الحرب، ليس فقط على حاضر اليمن بل على مستقبله أيضاً. وعلى الرغم من شحة الدراسات والأبحاث الخاصة بالصحة النفسية في اليمن، فلا تكترث أطراف النزاع للأرقام الواردة فيها. ومن ناحية أخرى، لا يبدو أن أحداً يأبه لتزايد أعداد من تؤول بهم الضغوط النفسية إلى الشارع أو إلى المستشفيات ومن ثم إلى المقبرة. عندما تُغفَل مخاطر من هذا النوع، فذلك يحيل الاستنتاجات المنطقية إلى أن أطراف الحرب تخوض هذه المعارك المدمرة، من أجل مستقبل لا يخص هؤلاء الملايين.

كل فرد في المجتمع اليمني احترق أو اكتوى بنار الحرب، والناجون من آتونها يتحملون وطأة أثرها شديد الثقل في نفوس لا تتذمر من أقدارها. يتحملون بقدرات عالية على الاصطبار، بينما يجد فائض الضغط الهائل طريقه في مسارين: اضطرابات الصحة النفسية وأسقام البدن، أو كلاهما.

بعيداً عن عينات الدراسات المتخصصة، هناك العينات التي تصادفها في الشوارع. ليس فقط من وصلوا إلى مرحلة الهذيان والصراخ والمبيت في العراء، بل أيضاً أولئك الذين ما زالوا يقاومون الانهيار الكامل. الشرود الطويل في العيون الغائرة والإنهاك الذي لم تعد الوجوه قادرة على إخفاء ملامحه. هؤلاء من الصعب معرفة السبب الذي يبقيهم عند ذلك الرمق الأخير من التماسك. أما من انفرط تماسكهم وصاروا يجوبون الشوارع مقهقهين أو صارخين أو متجهمين أو يتحدثون إلى لا أحد، فالحديث إليهم ينطوي على مخاطرة ما لم يطلبوا منك شيئاً. فيما يخص هؤلاء، لدي قصة أشاركها هنا، لنتعرف على ما يدور في ذهن عينة لم تدخل في أي دراسة علمية.

منتصف شباط / فبراير الفائت، كنت أجلس مع صديقي ريان الشيباني، على حافة رصيف لموقف سيارات في ميدان التحرير بصنعاء. كلانا كان صامتاً بينما نلتقط شمس الصباح الباكر لتبديد برد آخر الشتاء من عظامنا. اقترب منا شاب يبدو في منتصف الثلاثينات، وفي يده كأساً من الورق المقوّى. كانت هيئته لا توحي بأنه مضطرب نفسياً كما لا توحي بأنه متزن. سألني ما إذا كان بالإمكان أن أعطيه مئة ريال، فأجبته بالنفي بإشارة من رأسي، لكن ريان سأله وهو يلبي طلبه، ماذا سيفعل بالمئة؟ حينها انتبهت لفظاظة ردي عليه واستبقت رده: سيطلب لنفسه كأس شاي، أليس كذلك؟ لكنه فاجأنا بالقول إنه سيخبئها. كانت تلك صراحة غير مألوفة لدى من اعتادوا التسول، وزاد على ذلك أنه لا يشرب الشاي، وإنْ اضطر لشربه، فلا يزيد على رشفتين ثم يهرق بقية الكأس. استعذبت ذلك الصدق، ولم أقاوم رغبة الحديث إليه. سألته بالطريقة التي يخاطب بها أحدنا شخصاً متزناً: "لماذا لا تحب الشاي؟" "لأنه يضعف الذاكرة بشكل كبير"!

تتالت الأسئلة والردود حول هذه المعلومة التي سبق أن سمعتها من طالب ثانوية يطمح للالتحاق بكلية الطب. وأثناء محاولته شرح أضرار الشاي، لم يتمكن من نطق عبارة مكتملة. يترك العبارة في منتصفها ويحاول البدء بأخرى دون أن يستسلم. فقط، يصمت قليلاً ضاغطاً صدغه بأصابع يده، ثم يستأنف شرحه الذي لم ألاحظ كيف انتقل إلى الحديد. الحديد الذي يختلف بالنسبة له عن الفولاذ. قال إنه أمضى 16 سنة يبحث في تفاصيل الحديد والشاي. لقد حسم أمره مع أضرار الأخير، كما أنه يعتقد بأن الفولاذ "قاتل" كونه ذو طبيعة نارية وجليدية في الوقت نفسه، بينما الحديد لديه خاصيتين تجعله صديقاً للبشر: "السخونة والبرودة". ظل يكرر الحديث عن حالتي الحديد: السخونة والبرودة، وعن حالتي الفولاذ "القاتلتين"، النارية والجليدية، قبل أن يخلص إلى استنتاجه بأنه يفضل السخونة على الحالتين الأخريين، لأن الإنسان لا يستطيع العيش في النار أو في الجليد.

تصادف في الشوارع، ليس فقط من وصلوا إلى مرحلة الهذيان والصراخ والمبيت في العراء، بل أيضاً أولئك الذين ما زالوا يقاومون الانهيار الكامل. الشرود الطويل في العيون الغائرة والإنهاك الذي لم تعد الوجوه قادرة على إخفاء ملامحه. هؤلاء من الصعب معرفة السبب الذي يبقيهم عند ذلك الرمق الأخير من التماسك..

هذه الاستنتاجات البديهية بالنسبة لشخص "عاقل"، لا تشكل أهمية أيضاً لدى صاحبنا. هي فقط السياق الذي يحاول من خلاله الوصول إلى شيء آخر عادة ما يَغفل عنه "الأسوياء": التوازن. لم ينطق بهذه الكلمة خلال المحادثة التي امتدت قرابة الساعة، لكنه مهجوس باحتياجه العملي لها. وبعد أن انصرف فجأة مختفياً بين المارة الذين لم ننتبه قبل ذلك لتزايد أعدادهم في الشارع، رأيناه يمشي بمحاذاة حافة الموقف في الجهة الأخرى. كان يحاول المشي على ماسورة حديدية معلقة على حافتي مدخل السيارات، لكنها غير ثابتة. اقتربنا منه لنمسك الماسورة كي يتمكن من المشي عليها، لكنه رفض المساعدة، بينما قبل استئناف المحادثة.

لقد درس الكهرباء في معهد تقني لمدة سنتين، وهو ينتقد منهج المعهد في تخصص "كهرباء اللف" لكونه لا يتضمن مقررات أخرى تساعد الطلبة على فهم التخصص وتطبيقاته العملية قبل التخرج. هل واجه صعوبة في التطبيق العملي لدرجة إصابته بهذا القدر من انبتار الأفكار المزمن؟ هل ذلك سبب فقدانه القدرة على الربط بين السياقين النظري والواقعي؟ إنه يعي حالته عملياً ويحاول التوازن عملياً، وهو لا يحب التفكير النظري المطول، لأن ذلك "غباء" و"خداع للعقل"، كما أنه لا يثق بالأطباء لأن أحدهم وصف له دواء جعله عاجزاً عن الحركة. لمحت في جيب سترته الداخلي نسخة من كتيب "طبيبك الخاص".

حين أتذكر حديثه أسترجع ارتعاش أصابعه المغروزة في صدغه، وذلك البروز اللافت لعظام جبهته فوق الحاجبين، وأفكر: كم يوجد غيره ممن لم تشملهم دراسة أو بحث لواقع الصحة النفسية في اليمن؟

تشير دراسة "مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري" إلى أن عدد الأطباء النفسانيين في اليمن لا يتجاوز 46 طبيباً، وأن عدد العيادات النفسية الخاصة في البلاد لا يتجاوز 35 عيادة. مع ذلك، ليس كل المرضى أو ذويهم، قادرين على تحمل تكاليف العلاج الباهظة، بينما تَحول الوصمة الاجتماعية أو عدم الثقة بالأطباء، دون معرفة العدد الفعلي لمن يعانون اضطرابات نفسية، ناهيك عن التشخيص الدقيق لنوع الاضطراب.

من ناحية أخرى، لا ينتبه كثيرون إلى أن غالبية أعراض الاضطراب النفسي تترجمها الأجسام على شكل أمراض عضوية. ومنذ بداية الحرب في 2015، تزايدت حالات الشكوى من صعوبة التنفس لدرجة الفزع من النوم. ومع تكرار نوبات الاختناق، يرتفع منسوب المخاوف من الإصابة بأمراض عضوية أخرى، لاسيما في ظروف تفشي الأوبئة المصاحبة للحرب، كالكوليرا، الدفتيريا، انفلونزا الخنازير والأمراض الموسمية...

عدد الأطباء النفسانيين في اليمن لا يتجاوز 46 طبيباً، وعدد العيادات النفسية الخاصة في البلاد لا يتجاوز 35 عيادة.. بينما تعداد سكان اليمن هو حوالي 28 مليون نسمة.

وهكذا يندفع الناس إلى المستشفيات والعيادات الخاصة. في هذه المرافق الاستثمارية يُستنزف المريض مالياً بلا رحمة، ثم يوصف له الدواء الذي يعتمد توافقه مع حالته على حسن الطالع. لا نصيحة بنظام غذائي صحي يعزز الجهاز المناعي، ولا توعية بانعكاسات الكآبة وشدة الضغوط النفسية على الصحة البدنية. إنها مأساة ليست غير مرئية وحسب، بل تحجبها طبقات سميكة من الفولاذ والجليد اللذين تحدث عنهما الشاب الثلاثيني بصفتهما قاتلان متخفيان.

مقالات من اليمن