لا أنشط اليوم من سوق الفتاوى الدينية. يتزاحم «رجال الدين» ليكيل كلٌّ
منهم من مكيال علومه، معارفه ودراسته. ينغمس قسم كبير منهم في تبرير ما
يشتغلون به عبر الشاشات. كثيرون التقوا حول «الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر»، ووجب عليهم ردع «ضالّي» مجتمعاتهم عن ممارسة الرذيلة. لهذا، وبهدف
فكّ اعوجاج المجتمع، لا بدّ من الضرب بيد من حديد، فكانت طريقهم نحو
الفتاوى.
انشطر «رجال الدين». حتى الآن، سمع العالم ما هبّ ودبّ. فوضى
يصحّ عليها تسمية «عرمرميّة»، فلا أكثر فظاعة ممّا خرج ويخرج من فتاوى
محلّلة ومشرّعة ومحرّمة. في اطلالة سريعة على جديد «علمائنا»، ولو أن
إحصاءها مهمّة صعبة، يمكن الخروج بالأبرز:
- رجل دين سعودي يطلب تغطية وجه الطفلة في الثانية إذا كانت «مشتهاة».
- أستاذ جامعة الأزهر، محمود شعبان، يفتي بقتل معارضي الرئيس المصري محمد مرسي ويذكرهم بالاسم.
- تحريم تبادل التهاني مع الأقباط في أعيادهم أو تحيتهم وتناول الطعام معهم.
- تحريم اختلاء الأب بابنته، خوفاً من إمكانية إغوائه وتالياً تحرّشه بها.
-
شيخ أردني يفتي بوجوب التوجّه إلى صناديق الاقتراع، كواجب شرعيّ. وشيخ
أردني معارض يفتي بحُرمة الاقتراع، لأن الناخب لا يعرف المرشحين وقد ينتخب
من «لن يعمل بحدود الله».
- فتوى بحرمة جلوس المرأة وحيدةً على شبكات الانترنت، بل برفقة محرم خوفاً من وقوعها في المعصية.
في
الجهة الشيعية، تبدو الأمور أكثر ضبطاً وحكراً على المراجع الدينية
المعترف بها. وهؤلاء لديهم كم هائل من الفتاوى التي تتناول كل شيء، كبيره
وصغيره، حتى التفاصيل المدهشة. وعوضاً عن نشاط الإفتاء، يتسلى بعض مشايخ
الشيعة بالسباب الطائفي للجماعة «العُمَرية»، متبارين في هذا بجدارة مع
إخوانهم السنة وهجومهم على «الروافض». ولكن هذا باب آخر. تطول اللائحة،
ويحتاج جمعها إلى جلسات مطوّلة أمام شاشات التلفاز وبين المساجد، وفي
حسابات بعض المشايخ الذين باتوا يعتمدون على فايسبوك وتويتر لنشر
«معارفهم». بل ثمة كميّة من الحسابات المزوّرة الناشطة في تركيب بعض
الفتاوى التي تنتشر بسرعة قياسية بسبب غرابتها.
ومع دخول مصر مرحلة
الفتاوى الداعية إلى القتل والاقتصاص من المعارضين، خرجت الأمور عن
السيطرة. ولعل عشوائية ممارسات «رجال الدين» تنبع من قناعتهم بقدرتهم على
التلاعب بمجتمعاتهم. معظم «منظري» التلفزيونات ومعلني الفتاوى «المريبة»
يوحون بمعاناتهم من الهوس الجنسي. سوى ذلك، لا تبرير لرجل يخرج إلى العلن
ليقول «متى ما كانت الطفلة في عمر السنتين مشتهاة...».
ربما تصحّ تسمية
هذه الظاهرة «بالموضة». فلم يعد لفعل «الإفتاء» قيمة فعليّة. إصدار
الفتاوى مهمة خطيرة تتطلب شروطاً علمية عليا دينياً. ثم، وفي التعريف
الديني لكلمة فتوى، فهي الحُكم الإسلامي غير المُلزم. لكن حجّة مفتي آخر
زمان جاهزة: هم يقومون بتفسير أحاديث نبويّة «واضحة». وتخرج فتاويهم
مُلزمة، كونهم وكلاء الله وأنبياءه على الأرض.
هم الأفهم والأعلم
والأكثر دراسةً، مهمتهم التوجيه نحو الصراط المستقيم. الشيخ محمود شعبان في
فتواه لقتل المعارضين المصريين استند إلى الحديث الشريف «وَمَنْ بَايَعَ
إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ؛ فَلْيُطِعْهُ
مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُنَازِعُهُ؛ فَاضْرِبُوا عُنُقَ
الْآخَر».
ولكن من أخبر شعبان أن المعارضين بايعوا مرسي؟ ومن أسرّ له أن
مرسي إمام؟ والأفدح أن شعبان في دفاعه عن فتواه قال مؤخراً أن على
المعترضين عليها رفع دعوى على الرسول. أي أن الرجل يحل نفسه محل النبيّ،
أو، وفي أحسن الأحوال، يرى أنه لسان حاله!