رحلت لينا بن مهني وهي في ريعان العمر. ماتت في سن السادسة والثلاثين يوم 27 كانون الثاني / يناير 2020، أي بعد أيام قليلة من الذكرى التاسعة لثورةٍ حلمت بها وشاركت فيها وسعت إلى حمايتها عندما أريد وأدها، وتصويب مسارها عندما تمّ تحويل وجهتها. قتلها المرض، وربما الدواء. لينا ابنةٌ لمناضلَين يساريين وحقوقيين، واصلت طريقَهما وذهبت مسافات أطول رغم أنها أصيبت بفشل كلوي وأمراض أخرى منذ سنوات الطفولة، وعاشت بكلية واحدة مزروعة منحتها إياها أمها. صارعت المرض طيلة ربع قرن من عمرها القصير سناً والطويل نضالاً وحركة والتزاماً، وتعكرت حالتها في السنوات الأخيرة -حسب ما جاء في إحدى تدويناتها- بسبب دواء يستعمله المرضى ممن أجروا عمليات زرع أعضاء قبل أن يتبين أنه غير مطابق للمواصفات، وتسحبه وزارة الصحة من الصيدليات، ولكن بعد فوات الأوان. والدواء، سواء كان فاسداً أو غير متوفر، كان أحد القضايا التي ناضلت من أجلها لينا. مئاتُ القضايا "الصغيرة" و"الكبيرة"، وليس في الأمر مبالغة.
لمن لا يعرف لينا، فهي كانت أستاذةً درّست في الجامعة، ومترجمة ومدونة وبطلة رياضية (مسابقات خاصة برياضيين يعيشون بأعضاء مزروعة)، وفوق هذا مناضلة حقوقية ونسوية منذ أيام الديكتاتورية إلى حدود الأيام والساعات الأخيرة من حياتها. جرى تداول اسمها بقوة سنة 2011 كمرشحة لنيل جائزة نوبل للسلام قبل أن تُمنح إلى اليمنية كرمان توكل بالتناصف مع الليبيريتين إلين جونسون سيرليف، وليما غبوي. وآخر "إنجازاتها" حملةٌ جمعت عشرات آلاف الكتب لتوزيعها على السجون والمساجين. صاحبة مدونة "بنيّة تونسية" كانت حاضرة كمشاركة في الحدث وشاهدة عليه و/أو ناقلة له في أغلب المعارك الحقوقية والسياسية التي عاشتها البلاد منذ أواسط سنوات 2000: انتفاضة الحوض المنجمي، محاولات كسر الرقابة على الإنترنت زمن بن علي، الثورة، وضع مؤسسات الانتقال الديمقراطي، ملفات شهداء وجرحى الثورة، مسارات العدالة الانتقالية، العنف والتجاوزات البوليسية، قوانين المصالحة مع رجال الأعمال والموظفين الفاسدين وأعوان الديكتاتورية، فضح التحرش الجنسي بالمرأة والعنف المسلط عليها، الحريات الفردية، الخ... كل هذا في سنوات قليلة وبجسد ضئيل و"مريض" وبإمكانيات مادية بسيطة. طبعا امرأة بمثل هذا الحضور وهذه الروح والمواقف لا يحصل حولها إجماع - وهي لم تبحث عنه يوماً - والكثير من مواقفها أثار جدلاً وجلب لها العناء والعداء، خاصة من المحافظين والإسلاميين وخدام الديكتاتورية. حتى في موتها وبعده، فهي أزعجت الكثيرين.
منذ إعلان وفاتها، حزن الكثير من أصدقائها ورفاقها وحتى ممن لا يعرفونها شخصياً.. وبالكاد أخفى البعض شماتتهم، وآخرون لم يخفوها. هناك من استكثر عليها حب الناس وتأبينهم لها والاهتمام الإعلامي الكبير بخبر وفاتها، وانتقال رئيس الجمهورية إلى بيت والديها لتقديم واجب العزاء، وأمره بإقامة جنازة وطنية لها ودفنها في "مربع الشهداء" بمقبرة "الجلاز". هناك من حاول تشويه مسيرتها واتهامها بالعمالة للغرب، وآخرون غمزوا إلى حياتها الشخصية وكونها عاشت "متحررة". بعض مرضى النفوس نشروا لها صوراً شخصية اعتبروها محرجة و"فضائحية" لينتقموا منها بعد وفاتها. من المريع والمقزز أن تتخيل أشخاصاً يفتشون في حسابات ومدونات امرأة متوفية علّهم يجدون ما يبرر شماتتهم ويشفي غليلهم.
وسيزداد سعار هؤلاء بعد بث أولى صور وفيديوهات جنازتها. فقد قررت صديقات ورفيقات لينا – بعد موافقة عائلتها - المشاركةَ في حمل نعشها في قلب الطريق العام، وأن يرافقنها في مشوارها الأخير، ويحضرن عملية الدفن في المقبرة. ولم تكتفين بذلك، بل غنين لها أيضاً واحتفين بالفقيدة كما يليق بها.
هذه المشاهد صدمت عدة تونسيين وأثارت جنون بعضهم الآخر، وثار حولها لغط كبير ونقاش متشنج يتعلق بعدم احترام التقاليد الإسلامية للمجتمع. وهناك من كفّر الحاضرات ونعتهن ب"العاهرات"، بل واعتبر أنَّ الرجالَ الذين حضروا الجنازة، ولم يمنعوا هذا "المنكر" ديوثون" لا يغيرون لا على الشرف ولا على الدين. يكفي أن تدخل لتقرأ التعليقات الواردة على صفحات فيسبوك التابعة لوسائل الإعلام التونسية، التي غطت الخبر لتصيبك الدهشة والحزن من كثرة العنف والكراهية وسيل الشتائم المقززة.
لِمَ كل هذا الغضب؟ ماهي أسباب هذه الردود العنيفة؟
جنازة تخترق المربعات الأخيرة..
في تونس، كما في أغلب أرجاء العالم الإسلامي، لا تحضر النساء الجنازات ولا يرافقن موتاهن إلى المقبرة لوداعٍ أخير. أقصى ما يُسمح للمرأة هو أن تزور القبر بعد أيام من الدفن وفي المواسم الدينية، هذا لدى أكثر الفقهاء تفّتحاً، بينما البعض يقول أنه "مكروه" وآخرون يقولون أنه "يُستحب تركه" في حين يذهب الأكثر إلى تحريم الزيارة أصلاً ولعن الزائرات. النساء تنتابهن الهستيريا بسهولة كما "يعلم الجميع"، وهن ضعيفات لا تقدرن على حبس نواحهن وصرخاتهن، وكل هذا "يحرق" الميت كما يقول الرجال على هامش الجنازات. لكن ردة الفعل الغاضبة على حضور صديقات ومحبات "لينا" في جنازتها لا يمكن فهمها على أنها فقط غيرةٌ على الدين أو تشبث بالتقاليد. فهي تعبر أيضاً عن خوف وهشاشة بعض الذكور. خوف من اقتحام المرأة لآخر المناطق "المحرمة" عليها، وهشاشة رجال يعتبرون أن "رجولتهم" وامتيازاتهم و"قوامتهم" مهددة كل يوم أكثر.
"بنيّة تونسية"
07-02-2012
في العقود الست الأخيرة، استطاعت المرأة التونسية أن تخترق تدريجياً، وأحيانا بسرعة كبيرة، كل المجالات تقريباً، وتمكنت من الوصول إلى درجات علمية عالية ومناصب إدارية وسياسية حساسة، وحتى مارست مهناً كانت حكراً على الذكور. وإذا ما استثنينا الرئاسات الثلاثة (الجمهورية والحكومة والبرلمان) والمناصب العسكرية والأمنية الرفيعة، فإن نساء تونس وصلن إلى كل مكان. طبعاً يبقى الأمر نسبياً وما زال طريق المساواة طويلاً، والاعتراف المجتمعي بطيء. ولا يجب أن ننسى إن واقع المرأة التونسية يختلف حسب الوسط الاجتماعي (مديني - ريفي) والطبقة والمستوى التعليمي، وحتى مدى انفتاح وتقدمية كل عائلة. لكن هذه العقبات، وأشكال التفاوت بين النساء التونسيات لا تخفي حقيقة أن المرأة التونسية تتمتع بقدر عال من الاستقلالية تسمح لها بالتفاوض مع الذكور، وعدم البقاء طيلة حياتها تحت رحمة و"رعاية" الإخوة والآباء والأزواج والأبناء. وأنها تحتل حيزاً ما انفك يتسع في المجال السياسي والإعلامي والثقافي والعلمي، وتجد لها مكاناً في الفضاء العام على الرغم من زحمة الذكور.
أصبح للنساء التونسيات عموماً أجنحة تمكنها من الطيران، حتى وإن بعلوٍ منخفض، وهذا يثير قلق وخوف من يرون أن امتيازاتهم كرجال مهددةٌ، فتراهم يسعون إلى قصقصة هذه الأجنحة، أو على الأقل تطبيق "حظر جوي" حتى لا تحلق أخواتهم وزوجاتهم فوق آخر الحصون. وعندما تكون ممن يرون أن الهيمنة هي الأساس السليم للعلاقات بين الجنسين، فمن الطبيعي أن تستنجد بآخر أسلحتك لوقف زحف النساء على الفضاء العام: العنف الجسدي، أو التأليب والتحريض والوصم استناداً إلى الدين (بالأحرى تأويله) والأعراف الاجتماعية.
أغلب "الصحوات" الدينية في السنوات الأخيرة ليست شاملة أو عقائدية، بل محدودة وانتقائية تتمحور حول النساء. فكلما تمّ سن قانون أو اقتراحه، سواء لتمكين النساء من حقوقهن أو حمايتهن من العنف أو مساواتهن بالرجل، يتذكر كثيرون، ومنهم من لا يؤدي "الفروض" ولا يتعفف عن "الكبائر"، كلام الله وسنّة رسوله، ويغضب لأن "الإسلام في خطر".
حالات التحرش أصبحت خبزاً يومياً في تونس، سواء إن كانت جسدية أو لفظية، مباشرة أو عبر منصات التواصل الاجتماعي وتطبيقات التراسل الفوري. حتى الاغتصاب لم يعد جريمة بشعة تهز المجتمع، بل "أخباراً متفرقة" تحصل شهرياً وأحياناً أسبوعياً، وكثيراً ما تلام الضحية بسبب لبسها أو سهرها، على الرغم من أن ضحايا بعض حالات الاغتصاب كنَّ نساءً فوق الثمانين وفتيات تحت العاشرة، وبعضها وقع في قلب النهار. الأنكى من هذا أن بعض المغتصِبين (وهذا أمر لا تختص به تونس فقط) يعمدون إلى تصوير جريمة الاغتصاب وتنزيل الصور والفيديوهات على الإنترنت لمزيد من إذلال الضحية والتفاخر بفحولتهم الهشة التي لا تستطيع إقامة علاقة طبيعية ورضائية مع امرأة محبة ومحبوبة.
تقوى انتقائية..
المجتمع التونسي في عمومه محافظٌ باعتدال، وإن عرف موجات من التدين، كانت الأولى في الثمانينات مع انتصار "الثورة الإسلامية" في إيران، وظهور "المجاهدين الأفغان"، وتنامي شعبية الإخوان المسلمين مقابل تراجع التيارات اليسارية والعروبية. وجاءت الثانية في بداية الألفية الثالثة مع انتشار الفضائيات والمواقع الدينية الوهابية. أما الثالثة فأعقبت "الربيع العربي" ووصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في عدة دول. ومقارنة بأغلب المجتمعات العربية – الإسلامية، يُعتبرالمجتمع التونسي منفتحاً، خاصة في المدن الكبرى. فاستهلاك الخمور رائج بكثرة، وعدد المفطرين في رمضان كبيرٌ على الرغم من تضييق المجتمع والدولة عليهم، والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج منتشرة على الرغم من إنكار المجتمع لها، وأغلب الأماكن العامة الحكومية والخاصة مختلطة. طبعاً هناك حدود، والأهم "السترة" و"السمعة الطيبة". حتى الحركات الإسلامية في تونس يعتبرها الكثيرون أقل تشدداً من معظم "أخواتها" في المنطقة (ربما هي أكثر تقية!).
لكن من غرائب "الصدف"، أن الجزء الأعظم من "الصحوات" الدينية المباغتة التي عاشتها البلاد في السنوات الأخيرة ليست شاملة أو عقائدية صلبة، بل هي محدودة وانتقائية تتمحور أولاً وأخيراً حول مسائلَ تتعلق بالنساء. فكلما تمّ سن أو اقتراح قانون في صالح المرأة، سواء من ناحية تمكينها من حقوقها أو حمايتها من العنف أو مساواتها بالرجل، يتذكر الكثيرون - ومنهم من لا يؤدي "الفروض" ولا يتعفف عن "الكبائر"- كلام الله وسنّة رسوله وأثر الصالحين، ويغضب غضباً شديداً لأن الإسلام في خطر. هذا الغضب الشعبي شاهدناه عندما تم إلغاء منشور وزاري يمنع عقد قران تونسية بأجنبي غير مسلم، وعندما أقر حقها في اصطحاب أبنائها إلى الخارج دون ترخيص مسبق من الأب، وعندما سنّ قانون حماية المرأة من العنف، وعندما أثيرت مسألة المساواة في الإرث، وعندما انطلقت في الأشهر الأخيرة حملات "نسوية" لفضح التحرش، والتنديد بتزايد جرائم الاغتصاب، والمطالبة بالحق في فضاء عام مختلط وآمن. ولعل "أطرف" ما يدل على هذا الخوف، ما وقع عندما تم ترشيح السياسية "سعاد عبد الرحيم" لتصبح أول "شيخ" (رئيس بلدية) لعاصمة البلاد (وهو منصب بأهمية واعتبارية وزير أو محافظ). حيث أن هناك من اعترض على تولي امرأة لهذا المنصب، لا لنقص في الكفاءة أو مبررات منطقية أخرى، بل لأنها لن تكون قادرة على حضور احتفال ليلة 27 رمضان والأعياد والمولد النبوي الشريف في جامع الزيتونة والإشراف عليها كما جرت العادة. الأمثلة كثيرة ومتعددة (وإن تشابهت في جوهرها) وآخرها جنازة لينا بن مهني، التي كشفت مدى هشاشة هذه الذكورة الخائفة ومدى الخلط بين الدين والعرف الاجتماعي، وخاصة، مدى نفاق جزء كبير من المجتمع.
يسكت المجتمع عن الفساد الذي ينخر الدولة والبلاد، وهو ليس حكراً على أقلية بل رياضة جماعية تمارسها الأغلبية وتجد لها مبررات بكل أريحية. ولا تزعجه المحسوبية بل يراها أمراً طبيعياً ونوعاً من التضامن الأسري والقبلي. ويغمض عينيه عن إهدار المال العام، والحيف الاجتماعي المتمثل باختلال التوازن بين الجهات، ورداءة البنى التحتية الصحية والتربوية، ويطبّع مع جرائم الاغتصاب والتحرش، ولا يغضب عندما تتجاوز الدولة وقواها الأمنية حدودها وتنتهك الحرمات والحريات.
... ثالث التفسيرات يتعلق بظهور ما يمكن أن نسميه "ذكورية جديدة" نجدها أساساً عند الشباب الغارقين في الإنترنت والفضاء الافتراضي، والمتشبعين بثقافتين يُفترض أنهما متناقضتين لكنهما تصبان في وادٍ واحد: البورنوغرافيا والوهابية. كلتا "الثقافتين" تقومان بشكل كبير على تحقير المرأة، وإخضاعها مقابل تعظيم "الفحولة" وإعلاء شأن الذكور.
أما عندما يتعلق الأمر بحقوق النساء وكرامتهن ووجودهن فيغضب المجتمع. ليس الذكور فقط، بل حتى نساء لا تقلِن ذكورية عن إخوتهن وأزواجهن وآبائهن، ربما سعياً منهن لإظهار مدى خضوعهن وكسب الرضا والاعتراف بهن كزوجات وأخوات وبنات "صالحات". ولا تستغرب عندما تجد مواطنين ذوي مستوى تعليمي جامعي يربطون بين انحباس المطر واللباس والسلوك "المتحررَين" للتونسيات.
ردات فعل متأخرة ؟
هناك تفسيرات إضافية يمكن أن نسوقها كي نفهم كل هذا التشنج إزاء النساء وقضاياهن في تونس. أولها مرتبط بزمن الديكتاتورية، حيث كان النظام التونسي في عهد كل من الرئيسين بورقيبة وبن علي يسوّق نفسه في صورة الحداثي والمنفتح. وكانت حقوق المرأة من بين الثيمات الحاضرة بقوة في الخطاب الرسمي، خاصة الموجه إلى الغرب. حساسية التونسيين تجاه عقود من الخطاب السلطوي الأجوف جعلهم يتحسسون أيضاً من مفرداته، خاصة تلك التي تتكرر بكثرة ومنها قضايا المرأة. كما أن الكثير من التونسيين يعتبرون أن النظام التونسي كان معادياً للإسلام أو على الأقل مقصراً في حقه، فهو من قام بإلغاء التعليم الديني، وتعدد الزوجات، وهمّش رجال الدين ودجنهم، ومنح النساء عدة "امتيازات" ضربت "قوامة" الرجال والبنى العائلية التقليدية. وهذا خطاب يروج له الإسلاميون بقوة. وعندما سقط النظام (أو بالأحرى رأسه) اعتقد هؤلاء أنها فرصة لتصويب الأمور ونصرة الإسلام.
ثاني التفسيرات مرتبط بفترة ما بعد الثورة، والتي شهدت في أغلب الأحيان استقطاباً أيديولوجياً حاداً بين الإسلاميين و"الحداثيين"، وكانت المرأة في قلب هذا الصراع، سواء كهدف للقصف أو كدرع، وأحياناً كوقود للمدافع. مرة أخرى، سيتسبب الحضور المكثف للمرأة في الخطاب السياسي في تحسس البعض وحتى سأمهم وازدياد عدائهم لهذه المرأة التي تستأثر بالاهتمام، ولا حدّ لطموحاتها.
أما ثالث التفسيرات فيتعلق بظهور ما يمكن أن نسميه "ذكورية جديدة" نجدها أساساً عند الشباب الغارقين في الإنترنت والفضاء الافتراضي، والمتشبعين بثقافتين يفترض أنهما متناقضتين لكنهما تصبان في وادٍ واحد: البورنوغرافيا والوهابية. كلتا "الثقافتين" تقومان بشكل كبير على تحقير المرأة وإخضاعها مقابل تعظيم "الفحولة" وإعلاء شأن الذكور. ومع تردي حال التعليم في البلاد والتراجع الكبير لدور المثقفين والمفكرين والمبدعين في صناعة الرأي العام لصالح "مهرجين" بائسين تصنعهم وسائل الإعلام التقليدية و"السوشيال ميديا"، فإن جزءاً كبيراً من الشباب، الفخور بجهله وضحالة تكوينه، أصبح لا يتوانى عن صياغة خطابات كراهية وعنصرية وتشدد ديني وعداء للنساء، وبثها في مختلف وسائل التواصل المتاحة بلا عقد أو خوف. ولا تتعجب عندما تجد أن عدداً لا بأس به من هؤلاء الشباب المدافعين عن الإسلام، والمتعصبين تجاه الأديان الأخرى، والحالمين بإخضاع كل النساء، يرتادون المواقع الإباحية أكثر من المساجد، ومستعدون للزواج بنساء أجنبيات في أعمار أمهاتهم وحتى جداتهم، فقط للحصول على أوراق الإقامة في بلد غربي "كافر" و"معادٍ للمسلمين" تجوب شوارعه نساء "كاسيات عاريات".
***
رحلت لينا بن مهني بعد أن شغلت "الدنيا" في حياتها ومماتها وجنازتها. وتركت ما تركت من أثر جميل. سيتذكرها كثيرون بعد سنوات طويلة، لكن الأكيد أنهم لن يتذكروا أحد أسماء الشامتين بموتها والعابثين بخصوصيتها وسمعتها. وهذا بعض من عدالة التاريخ المحدودة. ماتت في سن السادسة والثلاثين، وهو السن نفسه الذي توفي فيه طاهر الحداد (1899-1935) الكاتب والمناضل الوطني والنقابي التونسي الذي عرف بتقدمية فكره ومواقفه، خاصة في قضايا مناهضة الاستعمار وتحرر المرأة وحقوق العمال.
الحداد كان خريج جامع/جامعة الزيتونة، لكنه سحبت منه شهادته، وكفّره رجال الدين وألبوا عليه المجتمع التونسي بسبب مواقفه الجريئة والمناصرة لحقوق النساء في كتابه: "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" (1930). قضى الحداد السنوات الأخيرة من حياته في وضع يشبه الجحيم، فقد نُبذ اجتماعياً، وطرد من العمل، ومنع من الزواج، ورشق بالحجارة. حتى جنازته كانت موحشة وحزينة، ولم يسر فيها إلا بضعة أنفار يعدون على أصابع اليد. بعد الاستقلال أعيد الاعتبار لطاهر الحداد في التاريخ الرسمي والذاكرة الجمعية. واليوم، بعد قرابة القرن، ما زالت قضايا المرأة في قلب الصراع المجتمعي والسياسي في تونس، والمعركة مفتوحة.
الحداد كان قد نشر كتاباً آخر قبل كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"،لا يقل عنه أهمية ولا جرأة (بمقاييس ذلك الوقت): "العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية" (1927). وهو كتاب منعته السلطات الاستعمارية الفرنسية آنذاك ولم يحظَ إلى اليوم بالاهتمام الذي يستحقه، ونادراً ما يتم ذكره عند الحديث عن الرجل. وهذه مسألة أخرى تستحق البحث والفهم..