واحدة من مفاجآت "ثورة تشرين" العراقية، كانت حالة الطلاق البائن بين المتظاهرين في الساحات وبين ذوي "القبعات الزرق" التابعين لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، فبعد أن كان التماهي بين الطرفين في ساحات الاحتجاج واضح المعالم، صار الفصل بينهما أكثر وضوحا، فقد تدهورت الأمور الى مواجهة دموية بلغت ذروتها يوم الأربعاء الماضي (5 فبراير الحالي) في مدينة النجف، حيث راح ضحيتها العشرات بين صرعى وجرحى.
وإذ كسب الصدر جولة بتنصيب مرشح مقبول من قبله لرئاسة الحكومة "الانتقالية"، وهو محمد توفيق علاوي (كما أظهر ذلك في تغريدة على حسابه الشخصي بتويتر)، فان شباب "الثورة" خسروا جمهور الصدر وما يملكه من نفوذ وحماية في مواجهة سلطات وجماعات تتربص بهم طوال أربعة أشهر، بعد قرار الزعيم الديني والسياسي المثير للجدل بفك الارتباط مع الساحات احتجاجا على مواقف وسلوكيات لا تتوافق مع متبنياته الفكرية، وهو ما فهمه المتظاهرون كخطوة براغماتية حصلت بفضل حصوله على منصب رئيس الحكومة، مفضلين مواجهة المخاطر لوحدهم، كون غايتهم لم تتحقق بعد.
هذان المساران المختلفان تماما كادا يشكلان ملامح النهاية لحراك احتجاجي هو الأول من نوعه منذ 2003، لولا ديناميكية هذا الحراك الذي ما إن شعر أفراده بالخذلان وفقدان الحماية، حتى نجحوا بسهولة وعنادٍ انتقده الصدر في تغريدة أخرى سابقة، بجمع الحشود المطلوبة لتمتينه مرة أخرى، وتأجيل مخططات القضاء عليه (من قبل الجهات المتضررة)، وبذلك كسب الحراك زخما شعبيا جديدا نجح في تعويض خسارة "الصدريين"، ومنحه شيئا من الثقة وإعادة التموضع داخل المشهد السياسي العراقي.
لم يتوقع الصدر أن خروج أنصاره من الساحات سيزيدها زخما ومعارضة، ما جعله يعود عن قراره الذي اتخذه بالانسحاب منها في غضون أيام، لكن العودة هذه المرة اتسمت بالعدائية والعنف بين الطرفين، فازدادت مشاهد القمع في أكثر من موقع، وهنا تغير موقع الصدر ومكانته بنظر المحتجين من حامٍ لـ"الثورة" الى عدوها الأول في مفارقة مؤلمة لكلا الطرفين، حتى خلعت الأطراف السياسية المتضررة من الحراك أسلحتها، وتنحت جانبا للاكتفاء بالتفرج، ومال بعضها لصب الزيت على نيران المعركة، فدخل ذوو القبعات الزرق (الصدريون) في مواجهة مباشرة مع شباب "الثورة" العزل، وتورطوا بطردهم من بعض ساحات التظاهر (النجف وكربلاء وقبلهما من المطعم التركي أحد أبرز معالم الثورة في بغداد)، بذريعة تنقية التظاهرات من المندسين والمخربين، ما أشعل حملة غير مسبوقة ضد الصدر في مواقع التواصل الاجتماعي، آخرها حملة الإبلاغ على حسابه الوحيد في تويتر.
أهي حقاً "فوضى" في العراق؟
07-02-2020
وكاد مسلسل الطرد والدماء يستمر لولا عناد المنتفضين ونجاحهم في استحصال خطاب داعم لهم من قبل المرجع الديني الأعلى في النجف علي السيستاني، وهو الرجل الأكثر تأثيرا دينيا وسياسيا خلال العقدين الأخيرين في العراق، إذ أكد في خطبة الجمعة الماضية على عدم أحقية أي جهة بالحلول محل القوات الرسمية، وهو ما ساهم الى حد كبير في إصدار الصدر قرارا بسحب أتباعه من الساحات والمواقع المذكورة، وإرسال ممثله للتفاوض مع المتظاهرين، الأمر الذي أحرج المؤسسة العسكرية (وزارة الدفاع)، فقامت بإصدار بيان شددت خلاله على مراقبتها الوضع واستعدادها للتدخل بهدف حماية الساحات، وهو ما انعكس في تظاهرات ساحة الصدرين وسط النجف يوم أمس، حين منعت القوات الحكومية أي احتكاك بين الطرفين بُعيد هتافات ضد الصدر.
أين أخطأ الصدر؟
خلال العقد الأخير أظهر الصدر براعة في لعب الأدوار السياسية، لكن المنزلق الأخير شكّل بالنسبة له غلطة الشاطر التي وضعته في أكثر المراحل صعوبة بتاريخه، والسبب كان هو الاستعجال في حسم المعركة، والوصول الى الأهداف السياسية بسرعة ودون مراعاة أو إقناع لرواد الاحتجاج الذين تصرف معهم كأتباع وليسوا شركاء لهم آراؤهم التي ينبغي احترامها، في ظل تورط تياره بتاريخ طويل من الصفقات السياسية، ما زاد من حجم المعارضة لأهدافه داخل ساحات التظاهر.
هذا الأمر فاقم حالة المواجهة بين الطرفين، فازدادت معه حملة الاستهداف المتبادل: الصدريون ضغطوا ميدانيا على الساحات، والمحتجون ردّوا على مواقع التواصل الاجتماعي، في حملة غير مسبوقة على الصدر منذ 2003 فشلت خلالها معظم محاولات أنصاره في صدّها، لا لعدم استعدادهم، بل لأنهم لم يملكوا إجابات حقيقية لتبرير قرار "الانقلاب" عليهم، كونهم يعتمدون نهج الطاعة وليس القناعة لقائدهم، وهو أمر لم يفلح مع "الثوار" الآخرين الذين يؤمنون بالمساواة والحرية في التعبير وكل مصاديقها، الأمر الذي أظهر الشرخ الفكري والمنهجي العميق بين الطرفين.
الانقلاب في الموقف (من وجهة نظر المحتجين)، جعل الصدر يخسر شرائح مهمة كانت متعاطفة معه داخل المجتمع، تنتمي الى الطبقة الوسطى التي ينشط فيها مدونون وصحفيون ومثقفون وأكاديميون ونقابيون ورجال أعمال وأطباء وغيرهم، فضلا عن الشرائح الكادحة التي تضررت بسبب الفساد المالي، ما شكل خسارة فادحة مضافة الى الانشقاقات العديدة التي تعرض لها التيار الصدري لأسباب تتعلق بتأييد استمرار الحراك الثوري، الأمر الذي جعل المشهد قاسيا عليه جدا.
وكما هي عادة الصدر في الهروب الى الأمام، فانه لم يشأ الاستسلام، ومغادرة موقعه كـ"قائد" وموجّه للثورة، رغم الاحتفاظ بنفوذ داخل السلطة، فأصدر مؤخرا بيانا أسماه بميثاق ثورة الإصلاح، تضمن بنودا لاشك أن بعضها كان جيدا، وجاء بعد مفاوضات عقدها مستشاره الأمني (أبو دعاء العيساوي) مع المتظاهرين في ساحة التحرير وسط بغداد لترطيب الأجواء، أبرزها سحب ذوي القبعات الزرق من تلك الساحات، لكن بعضها استفز الساحات المجروحة مجددا، لاسيما تلك التي ساوت بين اختلاط الجنسين (وهو أمر شائع منذ بداية "الثورة") بتعاطي المخدرات والمشروبات الكحولية في الحظر داخل الاعتصامات المستمرة منذ 25 أكتوبر الماضي، فضلا عن بند غريب آخر هو عدم رفض التعيينات السياسية، الأمر الذي جعل معظم هتافات المحتجين توجه ضده في تظاهرات الطلبة أمس الأحد.
يظل تغيير موقف الصدر من الساحات غامضا، وسواء صدقت أم أخطأت التكهنات والتسريبات التي أشارت الى تأثير إيراني بسبب تواجده داخل الجمهورية الاسلامية منذ بدء الاحتجاجات، إلا أنه كان لاندفاعه الكبير نحو حسم الأوضاع بسبب انتصاره على جميع الفرقاء السياسيين، أثرا كبيرا بهذا التسرع، فهو حين أراد تتويج مهاراته الثورية والسياسية بمكسب جديد، اصطدم بالموج البشري الرافض، وبتصرفات بعض أنصاره التي خرجت عن السيطرة، ولم تكن مورد قبوله بحسب تسريبات مقربين منه، الأمر الذي جعله أقرب لعدّاء ماهر دخل سباق المسافات الطويلة من دون "إحماء"، فتعرض للإصابة قُبيل الوصول الى خط النهاية.
من كل ذلك ومن خلال هتافات المحتجين، يظهر أن الثورة خسرت جمهور الصدر، وهو جمهور مطيع وغير منضبط في بعض الأحيان، لكنها كسبت الثبات (العنوان الذي حملته تظاهرات أمس) والاستمرار، واستفادت من اندفاع شرائح المجتمع التي كانت ترى في وجود الصدريين مثلبةً بسبب اعتبارهم كجزء من الطبقة السياسية، لكن هذا لا يعني غلق الباب بوجه الصدريين الى الأبد، إلا أن عودتهم هذه المرة سوف تكون وفق قواعد جديدة، وأما مكاسب الصدر التي حققها فتتمثل (في نظر المحتجين على الأقل)، بالحصول على رئاسة الحكومة، رغم إنكار ممثليه ذلك، إلا أنه في المقابل، خسر شرائح مهمة داخل المجتمع كانت تراه الأقرب لهاجس الشارع، وهذا ما ستظهر نتائجه في الانتخابات المبكرة القادمة.