مستقبل التيار المدني في مصر بعد صعود الإخوان إلى السلطة

تتوزع خريطة التيار المدني المصري وفق سبيلين. واحد منظم، ذو بنية وهيكل وصورة اجتماعية محددة القوام. وآخر ذائب في الرؤوس والقلوب، قوامه أفكار وقيم يؤمن أصحابها بالطريق المدني في السياسة والاجتماع والثقافة، ويرومون طيلة الوقت دولة عصرية تعيش زمانها الآني. ويسير التيار المدني المنظم في اتجاهات ثلاثة، الأول توجده الأحزاب السياسية، والثاني يرتبط بالحركات الاجتماعية الجديدة، الثالث يتمثل في جماعات
2012-09-05

عمار علي حسن

روائي وباحث في علم الاجتماع السياسي من مصر


شارك
جسرٌ من البشر في القاهرة

تتوزع خريطة التيار المدني المصري وفق سبيلين. واحد منظم، ذو بنية وهيكل وصورة اجتماعية محددة القوام. وآخر ذائب في الرؤوس والقلوب، قوامه أفكار وقيم يؤمن أصحابها بالطريق المدني في السياسة والاجتماع والثقافة، ويرومون طيلة الوقت دولة عصرية تعيش زمانها الآني. ويسير التيار المدني المنظم في اتجاهات ثلاثة، الأول توجده الأحزاب السياسية، والثاني يرتبط بالحركات الاجتماعية الجديدة، الثالث يتمثل في جماعات الضغط.
عاشت الأحزاب المدنية (يسارية ويمينية) عقوداً من الزمن تكافح من أجل ديموقراطية قوامها التعدّد الحزبي وتبادل السلطة واتساع قيمة الحرية وترسخها في المجال العام. وهنا يطلّ برأسه كل من حزب الوفد الجديد، وحزب التجمع، والحزب العربي الناصري، وإلى جانبها العديد من الأحزاب الصغيرة التي لم يكن لها تأثير ملموس قبل ثورة 25 يناير، وظلت في مجملها العام جزءاً من المظهر الديموقراطي الخادع الذي حاول النظام به استرضاء الناس في الداخل وتضليلهم في الخارج.
ثم جاءت الثورة لتفتح الباب واسعا أمام قيام أحزاب، في مقدمتها "المصريين الأحرار" و"المصري الديموقراطي الاجتماعي" و"العدل"، وإلى جانبها نحو عشرين حزبا جديدا رأت النور عقب ثورة يناير، بعضها خرج من عباءة الحزب الوطني الديموقراطي (الحاكم) الذي أسقطه الثوار وحلَّه القضاء.
أما الحركات الاجتماعية فتتوزع بين هذه التي قامت قبل الثورة واستمرت بعدها مثل "كفاية" و"الجمعية الوطنية للتغيير"، وتلك التي نشأت بعدها مباشرة وفي طليعتها الائتلافات والاتحادات الثورية التي شكلها الشباب وأصبحت بالعشرات، بعضها ينتمي إلى روح الثورة قلبا وقالبا، وبعضها تم دسه عليها في سياق الخطة المنظمة التي رامت تفريغا التدريجي من مضمونها، وبناء جدار عازل بين الطليعة الثورية والقاعدة الشعبية.
وبالنسبة لجماعات الضغط المتمثلة في النقابات المهنية والعمالية ومختلف الاتحادات والروابط، فهي تستعيد عافيتها في الوقت الراهن، بعد طول إلحاق بالسلطة التنفيذية بفعل قوانين وقرارات تعسفية. وهذه التكوينات الاجتماعية تشكل البنى الوسيطة التي تعد شرطا أساسيا للديموقراطية، لأنها تؤكد وتعزز استقلال المجتمع، وتجمع مصالح ملايين الأفراد، وتنظم جهودهم بغية الضغط على أهل الحكم، ودفعهم إلى الاستجابة لمطالبه.

النزوع الى التمدين هو الأقوى حتى داخل التيار الديني

ويتزاوج "المدني" و"الديني" في كثير من الكيانات والمؤسسات المصرية، لكنها في الغالب الأعم تشكل جزءا أصيلا من المجتمع المدني. ونظرا لارتباطها بالمصالح المباشرة للأفراد فإن نزوعها إلى "التمدين" أعلى من نزوعها إلى "التديين". وهي بحكم وظيفتها تنشغل بمسائل دنيوية حتى لو كان القائمون عليها أو المتصدرون لها ينتمون إلى التيارات السياسية ذات المرجعية الإسلامية.
وإلى جانب هذه التنظيمات الموزعة على مجتمع "أهلي" يعمل في مجال "النفع العام"، هناك التشكيلات والتجمعات الحديثة التي تعمل في مجال حقوق الإنسان وتعزيز الديموقراطية وتمكين المرأة والدفاع عن حقوق المهمشين ... الخ.
ورغم الخريطة المركبة أو المعقدة للتيار المدني في مصر، فإنه ليس عاجزا، إن توافرت الإرادة القوية والإدارة الرشيدة، عن إيجاد المسار الواضح الذي يسلكه في طريقه إلى التمكين، أو حتى تسيد المشهد السياسي والاجتماعي. فالتيار المدني أثبت غير مرة أنه قادر على تجميع الأنصار واستعراض القوة. وفي كثير من "الجمع" التي قاطعها التيار الإسلامي، تمكن المدنيون، وفي سياق مشبع بالتحدي والمنافسة الشرسة، من أن ينظموا مظاهرات في أغلب المدن المصرية، وملأوا العديد من الميادين بمئات الآلاف من المتظاهرين. وراح عدد أنصار التيار المدني يتزايد بمرور الوقت وتَوالي موجات الثورة، وبرهن المدنيون على أنهم ضلع قوي ومستقيم في المعادلة السياسية، لا يمكن تجنبه أو القضاء عليه.
ومع أن الطليعة التي أطقت ثورة يناير المصرية تنتمي إلى "التيار المدني"، فإن نصيبه من "الشرعية الدستورية" لا يتناسب مع ما له من "الشرعية الثورية". بمعنى النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات التي شهدتها مصر عقب الثورة، وكذلك الاستفتاء على التعديلات التي تم إدخالها على الدستور.
فقد خرج التيار المدني من الموجة الأولى للثورة دون أن يتخلص من أمراضه التي عاني منها في العقود الخالية، مثل غياب التنظيم القوي، سواء عبر الأحزاب أم الحركات الجديدة، وعدم وجود شبكة اجتماعية راسية على الأرض من لحم ودم ومصالح مادية ومعاني ورموز وقيم، وضعف التمويل بل تهالكه.
كما أن الأحزاب المدنية التي رأت النور في ركاب الثورة، لا تزال هشة وبلا قواعد جماهيرية عريضة، وفشلت، حتى الآن، في استغلال النزوع الشديد إلى المشاركة السياسية الإيجابية عقب الثورة. فقد انشغل بالسياسة وقضاياها ملايين المصريين، بعد أن تم تغييبهم عن هذه الدائرة. وسعى كثيرون إلى تحصيل معرفة بكل ما يخص المجال العام، باختلاف المسائل والقضايا التي تشكله، وكانوا ينتظرون على باب الرغبة في الانخراط داخل الأحزاب السياسية، لا سيما الجديد منها. لكن الأخيرة لم تكن تمتلك خطة للتعبئة والحشد، لذا بقيت على حالها من التكلس والضعف.
وهذا العيب لا يقتصر على الأحزاب المدنية فحسب، بل يمتد إلى الأحزاب الدينية أيضا. فرغم أنها حازت أغلبية في البرلمان، إلا أن حجم عضويتها لا يزال أقل بكثير من تمثيلها السياسي. وهي اعتمدت في تحصيل الأغلبية على المتعاطفين معها، وعلى القدرة على إقناع المترددين للتصويت لها، أكثر من اتكائها على الأعضاء العاملين فيها.
ويعاني التيار المدني أيضا من تدني خبرته في التعامل المباشر مع الشارع. فقد حوصر المدنيون في مراكز انطلاقهم بفضل الاجراءات الصارمة لقانون الطوارئ البغيض. واستسلم التيار المدني لهذا الحصار، وافتقد بمرور الوقت أساليب وآليات الالتحام بالناس، وربطهم برموز هذا التيار من خلال علاقة الوجه للوجه، وليس من خلف الكاميرات أو بين سطور الكتب والصحف والمجلات. كما يعاني التيار المدني من التشرذم، إذ يبدو عاجزا أو متراخيا في توحيد صفه، وتجميع قواه. وقد ظهرت هذه النقيصة في انتخابات مجلسي الشعب والشورى، فبينما كان الإسلاميون ينافسون عبر كتلتين محددتين على "القوائم" ولهم مرشحان اثنان فقط في الدوائر الفردية، أحدهما عن "الحرية والعدالة" والثاني عن "النور"، فإن التيار المدني خاض غمار الانتخابات مبعثراً، في أكثر من قائمة، وكان العشرات من بين المنتمين له يتنافسون على كل مقعد بالنسبة للفردي. وأدى هذا العيب، إلى جانب عوامل أخرى، إلى تدني حصاد المدنيين من مقاعد البرلمان بغرفتيه. وعلى ذلك، فالتيار المدني مُصاب بغياب فضيلة "إنكار الذات" لدى قادته، فكل منهم يرى نفسه الأحق بحيازة الصدارة، ولا يقبل العمل خلف آخر. وقد كان لهذا العيب دوره في تفكيك وإضعاف "الحركة المصرية من أجل التغيير" (كفاية) وكذلك "الجمعية الوطنية من أجل التغيير"، جنباً إلى جنب مع الأهواء الشخصية والمصالح الذاتية الضيقة التي غلبها البعض على المصلحة العامة.
ويبدو المستقبل في مصلحة التيار المدني شريطة أن يعي هو ذلك ويعمل من أجله بأسلوب يتسم بالجرأة، ويمتلك المغامرة، ويراهن على تعزيز الثقافة المدنية بين الناس، ويدرك بشكل جلي مدى "نزيف المصداقية" الذي بدأ يعاني منه التيار الإسلامي.
ولا يعني هذا أن المستقبل هو للتيار الغارق أو الصارخ في العلمانية الشاملة والكلية، أو ذلك الذي ينادي بإبعاد الدين عن الحياة. فمثل هذا التيار غير متواجد إلا في أفراد قلائل من بين المدنيين، والأغلبية الكاسحة تؤمن بدور الدين في الحياة، لكنها تريد إبعاده عن السلطة، وخلافها مع التيار الإسلامي ليس خلافاً في "التنزيل" إنما خلاف في "التأويل".
فالمدنيون يمتلكون بمرور الوقت قدرة على التعبئة والحشد، ويستفيدون من اهتزاز صورة التيار السياسي المتخذ من الإسلام أيديولوجية له، وتآكل مصداقيته لدى الشارع، ليحوزوا أدوات التغلغل في أروقة المجتمع.
فضلا عن ذلك، لم يعدم المدنيون القدرة على التأثير في "التيار الإسلامي" ذاته. فكثير ممن ينتمون إلى جماعة الإخوان أخذوا في الخروج عنها منجذبين إلى التيار المدني في أغلب أفكاره، بعضهم كوّن أحزاب مثل "النهضة" و"الريادة" و"التيار المصري" وبعضهم يتحلق حول رموز مثل الشباب المحيطين بالدكتور عبد المنعم أبو الفتوح عضو مكتب الإرشاد سابقاً.
والأهم من هذا أن التيار الإسلامي، بما فيه السلفيون، يمارسون السياسة، وخاضوا الانتخابات على خلفية "المشروع المدني" حتى ولو أنكروا هذا أو تنصلوا منه.
فبعد تحريم العمل الحزبي وتفسيق الديموقراطيين ونبذ البرلمان، ها هم يكوِّنون الأحزاب السياسية وليس "الفرق"، ويتحدثون عن "الديموقراطية" وليس "الشورى"، ويسعون إلى الدخول للبرلمان وليس تكوين "أهل الحل والعقد"، وذلك عبر "الانتخابات" وليس "البيعة". وفي هذا توسل بالمشروع المدني، فكراً وآليات، من أجل التمكين. ورغم حديث أركان التيار الديني بمختلف تعبيراته عن اضطرارهم للإقدام على هذه الخطوة، فإن الواقع الممارَس سيغيّرهم، ولا مجال للقفز عن المكتسبات التي حازها المصريون، وليس بوسع أحد أن يفرض الآن مشروعاً سياسياً قديماً على دولة حديثة. لكن تقدم المدنيين مشروط أكثر بترسيخ الآليات التي تضمن تداول السلطة، وتقوم على نزاهة الانتخابات وحريتها وشفافيتها واستقلالية الجهة التي تشرف عليها.

الحياة المدنية معسكرة
وهناك شرط آخر لا يقلّ أهمية عن السابق يتعلق بسبل وغايات التخلص من "عسكرة الحياة المدنية"، وهي آفة أصابت مصر منذ حركة الضباط الاحرار في يوليو 1952. فالعسكريون تسللوا إلى المجتمع العام بصورة ظاهرة، مستغلين تعاقب أربعة رؤساء من بينهم على عرش مصر. وتوزع هذا التسلل على مختلف جوانب المعيشة، فللعسكريين حصة مهمة من المحافظين، وهم بمنزلة حكام الأقاليم، وكثيرون منهم يتم توظيفهم بعد التقاعد في إدارة كبرى شركات القطاعين العام والحكومي، أو في وظائف فرعية. وهناك من يتولون إدارة الأندية الرياضية وبعض أجهزة الخدمة المدنية على اختلاف أنواعها...
هناك بالتأكيد ثقافة مدنية في مصر. فروح هذه البلاد الوثابة تميل إلى الوسطية والتحضر وتجفل من الفظاظة والغلظة والتشدد والتزمت والتخلف. وأهلها في الغالب الأعم يتصرفون طيلة الوقت وفق ما يقتضيه عصر العلم المتجدد، بينما التصورات الدينية الجامدة تجافي هذا، ويرفضون أي رؤى فقهية وفكرية مغلوطة تخاصم المعرفة والتقدم. وهم، وإن كانوا حريصين على دور الدين في الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي والنفع العام، لا يقبلون تحويله إلى أيديولوجيا سياسية تحمل كل ما في السياسة من عوج وتلاعب ومخاتلة وعوار وتناقض، وهذا ما لم يفهمه الإخوان والسلفيون حين ظنوا أن التصويت لهم في الانتخابات البرلمانية احتفاء واحتفال بمشروعهم السياسي واحتضان شعبي جارف لمسلكهم ومنظورهم، وليس مجرد اطمئنان إلى قوة سياسية منظمة يمكن أن تسهم في حل مشكلات الناس الحياتية، وتخرج البلاد من حالة الارتباك، وتكون أمينة على المال العام.
وفيما يتعلق بالعسكر فإن وجودهم في الحياة المدنية أرسخ وأبعد مما يُظن. فالثقافة الإدارية والبيروقراطية المصرية تعسكرت حين منح المديرون ورؤساء مجالس إدارات الهيئات والمؤسسات صلاحيات مطلقة تضمنها لوائح "شبه عسكرية". وكثير من المناصب التنفيذية والاقتصادية الكبرى في البلاد مسندة إلى الجنرالات، وهناك شركات الجيش المتصلة بشركات لرجال أعمال وأخرى متعددة الجنسيات، كما لهم حضور في مجال الأمن والتخطيط والإعلام. ومن هنا فإن السلطة ليست حقيبة يمكن أن يسلمها فرد إلى فرد أو جهة إلى جهة في لمح البصر، إنما هي مصالح ومكتسبات وعلاقات وخطابات وتشريعات وشبكات اجتماعية تحتاج تصفيتها إلى وقت وجهد وصبر، ويجب أن يتم هذا بصيغة متدرجة تسمح بـ"تخارج" العسكر من الحياة المدنية بمختلف جوانبها من دون الانزلاق إلى العنف، ولنا في التجربتين التركية والإندونيسية نماذج تحتذى.

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

أسباب فقر الخيال عند جماعة الإخوان

لا تمتلك جماعة الإخوان المسلمين قدرة على «التخيل». وهي تجري مدفوعة كعربة طائشة نحو نهاية فكرتها، وتحولها إلى سلطة غاشمة متجبرة وغبية. لم تقدم الجماعة للحياة على مدار تاريخها مفكراً...