هناك وهم سيطر على أذهان كثير من المتعجلين والمنافسين والمغرضين، بأن الحركة الإسلامية، دعوية كانت أم مسيسة، هي نسيج واحد، أو كتلة واحدة صماء، لا فرق بين أجزائها ولا أشتاتها.
ولكن العلاقة بين الإخوان والسلفيين في مصر بحاجة ماسة إلى المراقبة الدائمة، حتى نشهد تبدلاتها، عناقا وفراقا، مع توالي الأحداث والوقائع، وتغير المصالح، لا سيما في ظل عملية السيولة السياسية التي أعقبت ثورة 25 يناير.
ملاحظات أولية
هناك أربع ملاحظات أساسية يجب ذكرها أولا قبل الإجابة عن السؤال المركزي في هذا المقام وهو: ما طبيعة العلاقة بين الإخوان والسلفيين في مصر؟
1 ـ إن السلفية في مصر، كما هي في غيرها من البلدان الإسلامية، ليست طريقا واحدا، سواء من حيث دوائر الاعتقاد، أو المناهل الفقهية التي تغرف منها، أو توجهاتها حيال القضايا الحياتية المطروحة، وموقفها من الجماعات والتنظيمات والفرق الإسلامية الأخرى.
2 ـ إن الإخوان أيضا لم يعودوا، على المستوى الواقعي، جماعة واحدة، برغم أن الظاهر يطرح هذا ويلح عليه دوما. فهناك مجموعة «محافظة» أقرب إلى «الفكر السلفي» و«القطبي» (نسبة إلى سيد قطب) باتت متحكمة في الجماعة. لكن هذا لا يمنع أن هناك من لا يزال مخلصا للفكرة الرئيسية التي ولدت الجماعة في رحابها، وتأسست عليها، والتي وضعها وهندسها حسن البنا. وهذا الفريق يميل إلى سلفية رشيد رضا المعتدلة.
3 ـ لا يقف السلفيون والإخوان بمفردهم في الساحة الاجتماعية والدينية والسياسية، إذ هناك أنماط أخرى من التدين والتوجه السياسي، تتجاور مع هاتين الكتلتين، وبينهما حدود للتجاذب والتنافر، مثل الطرق الصوفية، التي باتت نازعة إلى السياسة عقب الثورة، والجماعة الإسلامية التي راجعت أفكارها وتخلت عن العنف وانتهجت سبل التغيير السلمي، وتنظيم الجهاد الذي لا يزال بعضه يميل إلى حمل السلاح، وجماعات وأحزاب تتبنى تصورا إسلاميا معتدلا، لا ينفر من الثقافة المدنية.
4 ـ إن الحدود مفتوحة أمام الأفراد للتحرك داخل رقعة الحركة الإسلامية أو الاستدفاء بنسيجها العريض، لا سيما بعد أن صار لها تمثيل سياسي شرعي. فالإخواني يمكن أن يتزحزح دينيا تدريجيا إلى التصوف مغبونا من التيار المحافظ الذي يسيطر على الجماعة، أو سياسيا إلى «التيار المدني» الذي يتفاعل معه إيجابيا قطاع من شباب الإخوان، الذين كوّنوا ما يسمى بـ«التيار المصري» أو الذين تحلقوا حول القيادي الإخواني عبد المنعم أبو الفتوح الذي خرج عن طوع الجماعة، وكونوا حزب «مصر القوية».
كما يمكن للسلفي أن يتزحزح قليلا، ولو من باب الانتفاع، نحو جماعة الإخوان، التي تفضل أن يكون المنضمون إليها من الشباب الصغار حتى يمكنها أن تربيهم على يدها، أو نحو ذراعها السياسية حزب «الحرية والعدالة» المفتوح من الناحية القانونية أمام كل المصريين. وهذا الأمر يمكن أن ينطبق على بعض المتصوفة الباحثين عن منفعة، أو المقتنعين بأن الالتفاف حول المجموعة التي وصلت إلى السلطة من بين فصائل التيار الإسلامي وجماعاته بات أمرا ضروريا.
هندسة العلاقة بين الإخوان والسلفيين
علاقة السلفيين بالإخوان في مصر تتوزع إذاً على ثلاثة أشكال هندسية:
أولا/ التوازي: لم تكن النشأة الأولى لبعض دعاة السلفية بعيدة عن جماعة الإخوان، سواء فكريا أو تنظيميا، لكنهم افترقوا عنها تباعا، من منطلق أن ما هي عليه من تصورات لا تعبر من وجهة نظرهم عن صحيح الإسلام. وقاد هذا الموقف إلى وقوع صدامات بين الطرفين عام 1980، لا سيما في جامعة الإسكندرية، التي كان التيار السلفي قد بدأ يشق طريقه فيها. وبعدها، أخذ كل من الإخوان والسلفيين يتصرفون في كثير من الأحيان على أنهما فريقان متنافسان، يوازي كل منهما الآخر، ويسعى إلى الانتصار الدعوي عليه في نهاية المطاف، حتى ظهر هذا بجلاء خلال الانتخابات التشريعية التي أعقبت ثورة يناير.
وكان أحد أهداف السلفيين من الدخول إلى غمار الساحة السياسية المباشرة، التي كانوا يفضلون الابتعاد عنها في ما سبق، هو عدم تركها كلية للإخوان، نظرا لمخاوف مبررة لديهم من أن استيلاء جماعة الإخوان الكامل على السلطة سيجعلها بالضرورة نازعة إلى الاستيلاء على منابر الوعظ، لنشر دعوتها، وحرمان السلفيين من هذه المزية التي تمتعوا بها طويلا في مقابل ابتعادهم عن السياسة في مرحلة ما قبل ثورة يناير. ويعزى هذا التوازي بالنسبة للسلفيين إلى مسائل فقهية أو فكرية، إذ يرون أن الإخوان تخلوا عن الكثير من مقتضيات الدين في سبيل تحصيل المكاسب السياسية، ويوجهون نقدا لاذعا إلى مؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا، الذي يبدو في نظر غلاة السلفية «رجلا ضل وأضل». وفي مجال السياسة يبلغ الخلاف بين الطرفين أشده في قضيتي ولاية المرأة والمسيحي، فبينما يبدي الإخوان مرونة في هذا الصدد، يتشدد السلفيون حيالهما إلى أقصى حد، مرجعين هذا إلى مسائل عقدية وفقهية لا تفريط فيها بالنسبة لهم.
ويمتد الأمر إلى السياسة الخارجية، حيث يضغط السلفيون دوما بغية تصليب الموقف الإخواني المستعد لإبداء مرونة حيال إيران. كما لا تروق لهم سياسة الرئيس الإخواني محمد مرسي إزاء إسرائيل والغرب عموما.
وفي ظلال هذه المواجهة ينظر الإخوان إلى السلفيين باعتبارهم من أبرز القوى المهددة لهم في المجتمع المصري، إن لم تكن أقواها على الإطلاق في المرحلة الراهنة، وينظرون باندهاش وخوف إلى المكسب الكبير الذي حققه السلفيون في الانتخابات البرلمانية، رغم أن عملهم في المجال السياسي المباشر لم يكن قد تعدى بضعة شهور. ويرتاب الإخوان في أن السلفيين تقدموا في زمن قياسي ليخطفوا جزءا كبيرا من الحصاد الذي ظلت الجماعة تزرعه وترعاه على مدار ثمانية عقود من الزمن. ويخشى الإخوان من أن تؤثر امتدادات السلفيين خارج مصر، بحكم الروابط التي تصلهم بالوهابية وغيرها، على توظيفهم كأداة في أيدي جهات أجنبية، لا سيما خليجية، لا يروق لها حكم الإخوان، وليس من مصلحتها تقدم مشروعهم ونجاحهم، لأن هذا سيدفعهم ويغريهم إلى تحريك المجموعات الإخوانية، الطافية على السطح والغاطسة في تلك الدول ضد الأنظمة الحاكمة هناك.
علاوة على أن بعض الموسرين في الخليج ممن يعتنقون التصور السلفي يغبنهم سيادة الرؤية الإخوانية وانتصارها في العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه. وهذا صراع على نشر الرؤية والمسار، وتجنيد الأتباع، ومن ثم تحصيل السلطة والثروة، وتمثيل الإسلام أمام العالم.
ثانيا/ التقاطع: وهذا التقاطع أو التلاقي يعود إلى أمور فكرية وحركية في آن، وكلاهما يتعرض للتغير المستمر والدائب، وفق ما يتم تداوله في المجال الفقهي من ناحية، والمصالح المتجددة من ناحية ثانية.
فهناك تلاقٍ بين الإخوان والسلفيين في قضايا عدة، منها التوجه الاقتصادي ذو الطابع الرأسمالي، والذي يتبناه الطرفان مدللين على هذا بنصوص وإحالات وتأويلات مفرطة، منطلقين من أساس وهو «حق الملكية الخاصة» من دون وضع حدود لها وعليها سوى ما على المسلم من زكاة وصدقة.
ويتلاقى الجانبان أيضا في سعيهما إلى تحقيق هدف واحد، وإن اختلف تصور كل منهما له، ألا وهو «أسلمة المجتمع»، وتتشابه رؤيتهما للعالم إلى حد كبير، لا سيما بعد أن زحف الفقه السلفي إلى النفس الإخوانية، وأصبح معتنقو أفكار سيد قطب متحكمين في رقبة الجماعة.
غلب على المقررات الثقافية للجماعة وفق قرار البنا النهج الصوفي، حيث كانوا يدرسون الكثير من كتب التصوف البارزة. ثم أخذت الكتب التي يعتمد عليها السلفيون في دراستهم وتعاليمهم تتسرب في ثقة وقوة إلى مقررات الإخوان منذ نهاية الستينيات، وذلك في ظل لجوء الإخوان إلى بلدان الخليج هربا من النظام الناصري.
ثالثا/ التعامد: فكل من الفريقين يسعى إلى استغلال ما غرسه الآخر في تربة المجتمع من قيم وأفكار وخبرات، حتى يمكنه تعزيز موقعه باتجاه التحكم في مفاصل الدولة، ولا يشغله في هذا المقام ما يلاقيه من نقد مبطن من قبل الفريق الآخر، فالمهم أن يحقق هدفه.
فالسلفيون لم يطرحوا مشروعا سياسيا من قبل. إذ إن جهد جمعياتهم وجماعاتهم كان منصرفا إلى الدعوة والنفع العام، ومن ثم فهم بلا خبرة سياسية ولم تنظر إليهم جموع الشعب قبل الثورة باعتبارهم طرفا قادرا على أن يطرح رؤية، ويقدم كوادر تدير الدولة. لكنهم يحاولون من خلال التماهي النسبي مع مشروع الإخوان والاتكاء عليه أحيانا، أو التحالف المؤقت والمحسوب معهم في بعض المواقف السياسية المتتالية، أن يبرهنوا للرأي العام على أن بوسعهم أن يخوضوا غمار العمل السياسي باقتدار.
وهم يدركون في هذه الناحية أن الأغلبية الكاسحة من الشعب المصري لا تفرق، حتى الآن، بحدة وجدية بين الفريقين، إذ إن الناس ينظرون إلى الإخواني والسلفي على أنهما ينتميان إلى «جماعة واحدة» ولا يعنيهم ما يدركه ويكتبه ويقوله المختصون من أنهما شخصان مختلفان لجماعتين منفصلتين.
من جانبها، تدرس قيادات الإخوان دوما كيفية تحويل السلفيين إلى قوة مضافة إلى رصيد الجماعة، بدلا من أن تكون خصما منهم، وذلك في ظل واقعيتهم السياسية المفرطة، التي تقدر، من دون شك، أن السلفيين تمكنوا من جذب قطاع عريض إلى فكرهم.
ويحدث هذا أحيانا بالاتفاق بين الطرفين، حال وجودهم في خندق واحد في مقابل القوى «المدنية»، يسارية كانت أو ليبرالية، مثلما حدث خلال الاستفتاء على التعديلات الدستورية في 19 آذار/ مارس 2011، والذي كان الخطوة الأولى على طريق وصول الإخوان إلى السلطة.
ويصنع القيادي الإخواني النافذ، خيرت الشاطر، الذي ينظر إليه باعتباره المرشد الحقيقي لجماعة الإخوان، حبلا سريا غليظا بين جماعته وقطاع من التيار السلفي، لا سيما من خلال ما يسمى «الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح». وما يجعل هذا الحبل متينا أن الشاطر نفسه يميل إلى الفكر السلفي، ويعتبره بعض السلفيين منهم، وإن كان قياديا في الإخوان.
كما يمكن أن يحدث هذا التعامد بالخديعة، ما يدل عليه اتهام السلفيين للإخوان خلال الانتخابات البرلمانية التي جرت في نهاية 2011 بأنهم ضللوا الجماهير الذاهبة للتصويت لمصلحة حزب النور، وكان رمزه الفانوس، وحملوهم على التصويت للإخوان، ورمزهم الميزان.
ويتعامد المشروع الإخواني على جسد السلفيين عبر استعمالهم كفزاعة جديدة للداخل والخارج، سائرين في هذا على درب نظام مبارك، الذي طالما استخدم الإخوان كفزاعة للغرب تارة، وللداخل المصري تارة، ونجح في تمرير هذه الصورة، ما منحه فرصة جيدة لإطالة عمره.
فالغرب أعلن غير مرة، أنه لا مانع يحول دون تفاعله الإيجابي مع الإخوان، بوصفهم في رأيه جماعة دينية معتدلة يمكن التفاهم معها وترتيب كل ما يجعل المصالح الغربية في مأمن. وحين يرى المسؤولون في الغرب، بل سائر الشعوب هناك، ما يطرحه التيار السلفي من أفكار وآراء وما يبدر عنه من أفعال وتصرفات، سينحازون إلى المنطق القائل: «نار الإخوان ولا جنة السلفيين». وهذه مقولة بدأت تأخذ طريقها إلى التردد داخل المجتمع المصري ذاته.