فارق كبير بين النص الإسلامي والممارسة الحياتية، بين الإسلام والمسلمين، وبالتبعية بين ما تخطّه جماعة الإخوان على الورق من تعاليم ووصايا وأفكار وتصورات، وبين السلوك العملي الذي يتماهى مع التقاليد السائدة تارة، والبحث عن المنفعة أو المصلحة طوراً، علاوة على الظروف الحياتية التي تضغط على أعصاب قيادات الجماعة وتجعلهم يذهبون في أحيان كثيرة صوب دروب بعيدة عما يحملونه في رؤوسهم من تصور عن «مجتمع مثالي» يقوم على العقيدة الصافية والأخلاق الحميدة، وينزع إلى إقامة المشروع الذي بشَّر به مؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا، والذي يخرج عنه بوضوح الإخوان حالياً.
هذا الفصام انعكس على الرؤية الاقتصادية للجماعة بعدما أوصلت أحد قادتها إلى سدة الرئاسة في مصر، وكذلك على البنية الداخلية للإخوان التي تعاني من تفاوت طبقي، تزكّيه حالة التريف التي تعززت في العقود الأخيرة وغيرت إلى حد ما من تركيبة جماعة لم تفارقها سماتها «المدينية» لسنوات طويلة، في المنشأ والمسار. وتتم إحالة كل هذا إلى سند ديني وسط تأويل مفرط للنص أو اتكاء على الظروف التي تجعل «الضرورات تبيح المحظورات»، والتي قادت في الحقيقة إلى تركز «ثروة الإخوان» المحصّلة من تبرعات أعضائهم العاملين وهبات الموسرين في الخليج وأرباح مشروعاتهم في مناطق مختلفة من العالم، في أيدي قلة وظفتها في شراء الولاءات وتوجيه دفة الجماعة لتبتعد بمرور الوقت عن طريق حسن البنا وتنزلق إلى طريق سيد قطب، رغم أن قادة الجماعة الأقدمين تبرأوا منه، وقالوا إنه لا يمثل جماعتهم.
حسن البنا أم سيد قطب
نادى سيد قطب بتوفير حد الكفاية وكتب من أجل هذا كتابه الأثير «العدالة الاجتماعية في الإسلام». لكن ذلك كان في مرحلته الثانية التي لم يلبث أن فارقها وتنصّل مما ألفه خلالها تماماً. ورغم أنه كتب «معركة الإسلام والرأسمالية»، إلا أن قضيته لم تكن مواجهة الرأسمالية الاستعمارية المتوحشة برؤية تنزع إلى الانتصار للطبقات الفقيرة بقدر ما كانت تواجه رأسمالية الغرب برأسمالية تتكئ على النصوص الإسلامية، إما بتأويل للقرآن الكريم يلائم افكاره، أو بانتقاء الأحاديث النبوية أو بالتقاط لمواقف من سير الأقدمين.
أما حسن البنا، ورغم تأكيده على الملكية الخاصة، إلا أن رؤيته الاقتصادية انطوت على مطالب أساسية، تبدو مصر في حاجة ماسّة إليها في الوقت الراهن، وهي: استقلال النقد واعتماده على رصيد ثابت من موارد الأمة ومخزونها لا من البنوك الدولية، وحماية الجمهور من عسف الشركات المحتكرة وإلزامها حدودها بما يؤدي إلى الحصول على كل منفعة ممكنة للناس، وتنظيم الضرائب الاجتماعية على أساس النظام التصاعدي بحسب المال لا بحسب الربح، وأولها الزكاة، ومحاربة الكَنز وحبس الأموال عن التداول، والاستعانة بها في المشروعات الاقتصادية وكذلك الخيرية، وأخيراً تحسين حال الموظفين الصغار برفع مرتباتهم وعلاواتهم وتقليل مرتبات الموظفين الكبار. كان البنا في تلك الأيام يقود مجموعة من صغار الموظفين والحرفيين، الذين كونوا النواة الأولى لجماعة الإخوان، ولذا كان ملتفتا إلى رقة حالهم، وراغباً في تحسين أحوالهم. لكن بمرور الزمن، راحت الجماعة تجذب قطاعات من «البرجوازية الصغيرة» وتتمسك بشروط صارمة لمن ينضم إليها، ومنها ضرورة أن يكون له عمل يتكسب منه. ثم انفتح باب واسع لتراكم رأسمالي جاد، من التبرعات والهبات والاستثمارات، وباتت الجماعة مصدراً لخلق طبقة من رجال الأعمال، كلَّفتهم بتدوير أموالها في تكتم بعيداً عن ملاحقة ومطاردة الأنظمة الحاكمة التي كانت تستهدف الإخوان.
سمات الرأسمالية الاخوانية
وقد انتهت دراسة استقصائية معمقة أعدها باحثون في مركز النيل للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية تحت إشراف الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق، إلى خلاصات حول سمات «الرأسمالية الإخوانية»، منها أن بعض الإخوان يمتلكون «إمبراطوريات مالية صغيرة» لا يقل رأس مال الواحدة منها عن خمسمئة مليون جنيه، إلى جانب امبراطوريات أكبر في الخارج يبلغ رأسمالها مليارات الدولارات. وينكر الإخوان هذا بالطبع، ويسربون أحياناً أرقاماً متواضعة عن حجم ثروات بعض رجال أعمالهم في مصر مثل خيرت الشاطر وحسن مالك. وأغلب هذه القدرات الرأسمالية الإخوانية غير تنموية، لأنها تقوم بالأساس على التجارة التي يكرر بشأنها كبار رأسماليي الإخوان دوما الحديث المنسوب إلى الرسول الكريم «تسعة أعشار الرزق في التجارة» من دون مراعاة السياق الذي قيل فيه هذا القول، حيث لم يكن هناك مورد رزق أمام عرب شبه الجزيرة سوى البيع والشراء في موسم الحج، وليس بالطبع الزراعة والصناعة. وفي هذا عدم إمعان للنظر أو التدبر في القرآن الكريم الذي يقدم نموذج النبي يوسف، عليه السلام، الذي أنقذ مصر من المجاعة بزراعة القمح، وليس باستيراده من الخارج كما يجري الآن.
وينصرف جزء كبير أيضاً من هذه الأنشطة إلى التوزيع والخدمات، وليس بالقطع إلى استصلاح الأرض وفلاحتها، وتشييد المصانع، وتعزيز اقتصاديات المعرفة. وقد كان الإخوان في مصر معذورين في توجههم هذا قبل ثورة يناير، نظراً لأوضاعهم الأمنية التي لم تمكنهم من إظهار قدرتهم الرأسمالية في أنشطة اقتصادية كبيرة وراسخة وظاهرة. لكن لا يبدو، حتى الآن، ما يدل على أنهم سيغيرون هذا التوجه، ويجلبون رؤوس أموالهم المستقرة في الخارج ويستثمرونها في الداخل. ومن سمات الاقتصاد الاخواني أيضا أن بعض رجال أعمال الإخوان شركاء لبعض نظرائهم ممن ينتمون إلى نظام حسني مبارك. وهذه الشراكة قامت في الغالب الأعم على «محلل» أو «شريك وسيط» من خارج مصر، لاسيما من بلدان دول مجلس التعاون الخليجي. ويسعى رجال أعمال الإخوان حاليا إلى اختراق مؤسسات الدولة بسرعة هائلة، فمن بينهم اثنان في التشكيل الوزاري، وبعضهم يحيط برئيس الدولة ويداوم في قصر الرئاسة، أو يقع من بين المستشارين السريين للرئيس، وبعضهم مستشارون لوزراء، وهو النهج ذاته الذي سلكه نظام مبارك.
وهناك حول رجال الأعمال الكبار في جماعة الإخوان طبقة تالية من التجار الصغار، الذين أفادهم الممسكون بأموال الجماعة من خلال إقامة مشروعات صغيرة ومتوسطة لهم، على هيئة متاجر ومطاعم وورش، في سبيل تدوير رأس المال، الذي يفقد قيمته أو قوته الشرائية بمرور الوقت نظراً لارتفاع معدل التضخم، وكذلك جلب المنفعة لقطاعات أعرض من الجماعة، التي تحوّلت بمرور الوقت إلى كيان اجتماعي له قوام خاص، عليه أن يواجه التضييق عليه بتصريف أموره داخلياً، جنباً إلى جنب مع امتلاك الأموال التي تخدم الأدوات والآليات التي تنتهجها الجماعة في سعيها الدائم والدائب نحو التمكن من المجتمع والدولة. وأموال الإخوان هي جزء من أدوات ربط الفرد بالجماعة، ومساعدة «الأسرة الإخوانية» في امتلاك القدرة على المواجهة المستمرة، لاسيما في سنوات التضييق. فمنها كان يتم دفع النفقات الشهرية للأسر التي تم اعتقال عائلها، ومنها تساعد الجماعة بعض المنتمين إليها في رحلات تعليمهم أو مواجهة ظروف صحية صعبة، ومنها أيضاً تقوم الجماعة بدورها في تطبيب المجتمع المعوز، من خلال الاهتمام بمساعدة الأيتام والفقراء عبر الصدقات الدائمة أو الموسمية المتقطعة. وهي قوة اجتماعية طالما تمكّن الإخوان من حشدها للتصويت لمصلحة مرشحيهم في مختلف الانتخابات التي خاضوها. وقد ظهر الأمر بجلاء عقب الثورة، حين قام الإخوان بتوزيع سلع تموينية على الفقراء في بعض المدن أملاً بالحصول على أصواتهم.
خدمات بمقابل
كما استغلّ الإخوان شبكة النفع العام التي قامت بها بعض الجمعيات السلفية الدعوية، وفي مقدمتها «الجمعية الشرعية للعاملين بالكتاب والسنة» للتمدّد والتوغل داخل أوردة المجتمع عبر تقديم الخدمات، خصوصاً في ظل انحسار الدولة تدريجياً عن فعل هذا. وفضلاً عن رغبة الإخوان في الاستفادة من آلاف الفروع التي تمتلكها هذه الجمعية، فإنهم كانوا مضطرين إلى أن يسلكوا هذا السبيل للتعمية على الأجهزة الأمنية التي تتعقب أنشطتهم، بوصفها وسائل للتجنيد والتعبئة والحشد. وما يستخدمه الإخوان من أموال في هذه العملية هو النزر اليسير مما يملكون، لأن أغلب أموالهم في الخارج، ما يعني أن الجزء الأكبر من طاقة الجماعة الاقتصادية منصرفة إلى «التجارة» وفق أحدث وأقسى الأساليب التي تنتهجها النظم الرأسمالية. وربما خلق هذا الوضع تصوراً راسخاً لدى الإخوان لا يستطيعون مفارقته حتى بعد أن وصلوا إلى قمة هرم السلطة، وهو تعزيز «الملكية الخاصة» بمقابل الاقتصار على تقديم الصدقات للفقراء، وهو تعبير عن عدم الإيمان بأن لهم حقوقاً أصيلة وأساسية في المال العام يجب أن توفر لهم حد الكفاية.
مشكلات طبقية
وقد حاولت الجماعة أن تعالج الآثار النفسية لهذه المعضلة داخل صفوفها، من دون أن تكون معنية بالبحث عن علاج أو حل للمجتمع العريض الذي يقع خارج الإخوان، وهو الأكبر عدداً. فالجماعة تحاول أن تفصل بين «الشُعَب» التي تقيمها في الأحياء الفقيرة وبين نظيرتها المقامة في الأحياء الثرية، حتى لا تخلق «حقداً طبقياً» بين أعضائها قد يعجل بتفجر صراع اجتماعي داخلي، سيؤثر من دون شك على استقرارها، وقدرتها على التماسك، أو يظهر لدى الإخواني رقيق الحال مدى الهوة بين القول والفعل داخل الجماعة العجوز. وأيام المحنة كان ينظر إلى الإخواني المتقدم في مراتب الجماعة باعتباره الأكثر استعداداً للتضحية، نظراً لأن النظام كان يستهدف الكبار في سبيل تعويق تقدم الإخوان إلى الأمام في الحياة السياسية والاجتماعية. ولذا كان ينظر إلى ما لدى هؤلاء من إمكانيات مادية بوصفه تعويضاً عن الثمن الذي يدفعونه من حريتهم وحياة أسرهم. لكن بعد وصول الإخوان إلى السلطة سيختلف الأمر تماماً، إذ إن التقدم هذا سيمنح صاحبه مزايا من دون أن تقع على عاتقه أية أعباء أو يدفع أي ثمن. ومن ثم سيحدث تزاحم حول المنافع بمرور الوقت، لاسيما بين القيادات العليا للجماعة، وهي حالة تجري الآن في الخفاء وفي صمت أو بأنين مكتوم، لن يلبث أن يعلو ويصير صراخاً.
وهذه الأوضاع الطبقية المختلة، تلقى إنكاراً على المستوى النظري من جماعة تزعم دوماً أن مثل هذه المسألة لا تعنيها، وأن العلاقات بين أفرادها قائمة على التواد والاحترام والأخوة، متكئة في تبريرها هذا إلى نصوص قرآنية ونبوية، أو ما خلّفه مؤسسها حسن البنا من تعاليم ووصايا. ومن المرجح أن يزداد في السنوات المقبلة تنافس قادة الجماعة على المناصب والنفوذ داخل الدولة، وكذلك على إدارة الثروة وفق طريق يجعل النجاح قريناً بتعظيم الربح لا بالاستجابة لحد الكفاية، أو التصرف وفق القاعدة الذهبية التي تقول «المال مال الله». وفي الحقيقة فإن تجربة الإخوان الاقتصادية لا تقدم ملامح تتجاوز تجميل الرأسمالية الغربية بمساحيق فقهية يطلق عليها زوراً وبهتاناً إنها الرؤية الاقتصادية للإسلام، من زاوية «الاستمتاع بزينة الدنيا» و«التحدث بالنعمة» و«حق التملك الخاص»، ليبقى للفقراء مجرد صدقات وليست حقوقاً، متجاهلين أن «الفقر كاد أن يكون كفراً» وأن «ليس منا من بات شبعاناً وجاره جائعاً وهو يعلم»، كما يقول الرسول الكريم. وفي ذلك تجسيد للانتقائية في النصوص الدينية. وسيمضي الإخوان في سياسات اقتصادية مطابقة لتلك التي كان ينتهجها نظام مبارك، حيث تمييز القلة المحتكرة، وتشجيع الاقتصاد الترَفي، والاقتراض من المؤسسات الدولية.