الحرب ما زالت هناك.. الموصل: مدينة الجثث والكلاب السائبة

الجثث في الموصل لها ظل ورائحة، وذاكرة الناجين من الحرب يؤثثها مشهد الموت اليومي، الدال على هول الخراب ونكبة المدينة، بعد حرب هُزِم فيها تنظيم داعش، وانتصر فيها العراق. لكنَّه نصرٌ كلفته كانت المدينة كلها.
2020-02-17

ميزر كمال

كاتب وصحافي من العراق


شارك
أحمد السوداني - العراق

تحت كل بيت مدمر جثة! وفي كل زقاق أو شارع تداعى، هناك أشلاءٌ لأُناسٍ قضوا في المعركة. معركة الموصل هي الأكثر موتاً وبشاعةً في تاريخ العراق الحديث، فالجثث هناك لها ظل ورائحة، وذاكرة الناجين من الحرب يؤثثها مشهد الموت اليومي، الدال على هول الخراب ونكبة المدينة، بعد حرب هُزم فيها تنظيم داعش، وانتصر فيها العراق. لكنَّه نصرٌ كلَّف المدينة كلها.

كابوس الجثث والأشلاء

انتهت الحرب في مدينة الموصل، لكنَّ معارك أخرى بدأت. ففي المدينة القديمة يخوض العائدون معارك مع الفقر والأمراض، ومع الجثث مجهولة الهوية التي تملأ الأحياء المدمرة، والتي ترقد تحت أنقاض المباني المهدمة والملغمة حتى هذه اللحظة.. حتى بات انتشال الجثث في الموصل حدثاً يومياً، وعادةً لا تستدعي تداولها على محمل الخبر.

تسعة أشهر من المعارك الطاحنة (16 تشرين الأول/ أكتوبر 2016 – 20 تموز/ يوليو 2017) انتهت عندما رفع رئيس الوزراء العراقي حينها، حيدر العبادي، العلم العراقي في المدينة، معلناً طيَّ صفحة الحرب، وهزيمة التنظيم الذي حكمها لثلاث سنوات، متخذاً إياها عاصمةً لخلافته التي أعلن قيامها أبو بكر البغدادي من جامع النوري الكبير فيها.

الموصل ثاني أكبر مدن العراق بعد بغداد، وأكثر المدن خراباً، حيث وصل عدد المباني المدمرة فيها إلى 32 ألف مبنى، كما أن نصف أحيائها السكنية الـ 54 في الجانب الأيمن لدجلة غير صالح للسكن والحياة، بينما هناك 150 ألف عائلة ما تزال نازحة في المخيمات والشتات.

في حينها (2017) أعلنت الحكومة العراقية أنَّ حصيلة ضحايا معركة الموصل بلغت 3176 قتيلاً، منهم 1429 مدنياً، كما قالت وقتها خلية الإعلام الحربي المخولة بإصدار بيانات وإحصائيات الحرب ضد تنظيم داعش. لكنَّ قوائم الجثث مجهولة الهوية التي كانت -وما زالت- تُنتشل من المدينة القديمة تشي بأنَّ العدد المعلن غير حقيقي، وأن فاتورة الموتى أكبر بكثير من ثلاثة آلاف ومئة وبضع عشرات.

على سبيل المثال لا الحصر: في 28 تشرين الثاني / نوفمبر 2018، أعلن الدفاع المدني في محافظة نينوى، أنَّ فرقه في الموصل انتشلت 1900 جثة منذ تحرير المدينة، وهذا الرقم يخص فقط المدينة القديمة بالجانب الغربي لمدينة الموصل. لكن، وبعد أسبوع فقط، جاءت المفوضية العليا لحقوق الإنسان بالعراق، وهي مؤسسة حكومية تابعة للبرلمان العراقي، برقم آخر، أكبر وأكثر تفصيلاً: 4720 جثة انتُشِلت من المدينة القديمة، 2666 جثة منها معلومة الهوية، و2054 مجهولة الهوية، وهنالك 851 جثة من العدد الكلي هي لأطفال معلومين.

كانت هذه آخر إحصائية رسمية لعدد الجثث المنتشلة في مدينة الموصل، وبعدها توقفت الحكومة عن تحديث الأرقام، وتوقفت فرق الدفاع المدني عن البحث -في المدينة المنكوبة عن الجثث، على الرغم من أنها على مرأى الجميع، ورائحتها تفوح من تحت حطام البيوت، وفي زوايا الأزقة والدرابين الضيقة.

4720 جثة انتُشِلت من المدينة القديمة، 2666 جثة منها معلومة الهوية، و2054 مجهولة الهوية، وهنالك 851 جثة من العدد الكلي هي لأطفال معلومين. كانت هذه آخر إحصائية رسمية، وبعدها توقفت الحكومة عن تحديث الأرقام، وتوقفت فرق الدفاع المدني عن البحث، على الرغم من أن الجثث على مرأى من الجميع، ورائحتها فائحة.

أحياء القليعات والشهوان والميدان، أكثر أحياء المدينة دماراً وجثثاً. ما تزال عمليات رفع الأنقاض فيها بطيئةً جداً، أو تكاد تكون معدومة، وحجة الحكومتين (المحلية والمركزية) أنَّ الركام يضمُّ ألغاماً وقنابلَ غير منفجرة، وهذا ما يجعل مهمة إزالة آثار الحرب صعبة، أو مستحيلة. لكنَّه أيضاً –الركام- يضم جثثاً يريد ذويها التعرف إليها، والتأكد مما إذا كان أحبتهم ماتوا أو ما يزالون مفقودين. وهذا وجهٌ حزينٌ آخر من وجوه المأساة. فسكان الموصل الذين نجوا، ونزوحوا، ثم عادوا إلى المدينة عام 2017 أبلغوا عن المفقودين من ذويهم. وبحسب القانون العراقي فإنه يحق لعائلة المفقود إصدار شهادة وفاةٍ له بعد خمس سنوات من أول إبلاغ للسلطات بفقدانه، أي ما يزال هناك وقتٌ للوجع والانتظار.

في الموصل وحدها، وبعد معركة استعادتها، وثَّق مجلس محافظة نينوى 5000 آلاف مفقود، وما يجعل الأمر غاية في الصعوبة والتعقيد في هذا الملف، هو أنَّ الحكومة المحلية لا تمتلك قواعد بيانات خاصة بالمفقودين، ولا يُعرف مصيرهم؛ سواءٌ كانوا مختطفين ومغيبين قسرياً عند تنظيم داعش، أو عند المليشيات التي شاركت في المعركة، أو معتقلين عند القوات الأمنية، أو قد يكونون تلك الجثث المنتشرة في الأزقة وتحت ركام المنازل.

مقبرة جماعية للجثث والتاريخ

منطقة القليعات، أقدم مناطق مدينة الموصل، سكنها الآشوريون بعد سقوط إمبراطورتيهم(عام 612 ق.م) على يد الميديين والكلدانيين، وأسسوا فيها مِلْكهم الصغير بعد أن خسروا ممالكهم وزعامة العالم القديم. حدثت في هذه المنطقة الأثرية الواقعة على ضفاف نهر دجلة الذي يشطر الموصل إلى جانبين، آخر معركة بين التشكيلات العسكرية العراقية (جيش وشرطة) وتنظيم داعش، في معركة طاحنة أُطلق عليها اسم "معركة الميل الأخير"، هناك حيث تجمَّع من بقي من مقاتلي التنظيم وكذلك عوائلهم، بالإضافة إلى المدنيين من سكان تلك المنطقة الذين لم يستطيعوا الخروج وظلوا محاصرين.

في الموصل وحدها، وثَّق مجلس محافظة نينوى 5000 آلاف مفقود، لكن الحكومة المحلية لا تمتلك قواعد بيانات خاصة بالمفقودين، ولا يُعرف مصيرهم، سواءٌ كانوا مختطفين ومغيبين قسرياً عند تنظيم داعش، أو عند المليشيات التي شاركت في المعركة، أو معتقلين عند القوات الأمنية.. أو قد يكونون تلك الجثث المنتشرة في الأزقة وتحت ركام المنازل.

القليعات اليوم أثراً بعد عين، دُمرت بالكامل، سواءٌ بالقصف المدفعي لقوات الأمن العراقية، أو بغارات قوات التحالف الدولي، الذي كان يدعم العراق في حربه ضد تنظيم داعش، أو بالألغام والقنابل التي غرسها التنظيم في المنازل والشوارع. ومن المنطقة الأثرية وحدها انتشل الدفاع المدني 500 جثة غالبيتها لنساء وأطفال، لكن تَوقُف البحث وانتشال الجثث جعل القليعات مقبرة جماعية كبيرة لمئات أو ربما لآلاف الجثث التي ما زالت هناك.

كانت من بين قرارات محافظ نينوى الأسبق، الذي أقيل من منصبه بتهم فساد وسوء إدارة، طمر القليعات وتسويتها بالأرض، وعرضها فيما بعد للاستثمار. وبالفعل توجهت الجرافات والمعدات الثقيلة إلى هنالك، وطحنت رفات الميتين وطمرتها مع التاريخ الممتد بعيداً في أرض الموصل.

حياة رديئة

حادثة أخرى وثقتها مفوضية حقوق الإنسان في العراق، تتعلق بعمل لجنة خاصة برفع الجثث شكلتها الحكومة العراقية بُعيد استعادة الموصل، وامتد عملها بين عامي 2017 و2018. والحادثة هي انتشال 2000 جثة ومن ثم طمرها في مقبرة جماعية بمناطق الطمر الصحي، دون أخذ عينات منها أو إجراء فحص الحمض النووي DNA.

مقالات ذات صلة

بقاء الجثث في المدينة القديمة يؤرق حياة العائدين إليها. فهي بالإضافة إلى تسببها بنشر الأمراض والأوبئة، تمثل ملمحاً بشعاً يحفّر في ذاكرة السكان مشاهد الحرب التي عاشوها على مدى تسعة أشهر طويلة، وهي سبب أيضاً يمنع الكثير من الأهالي من العودة، فالعيش في خيمة أهون من مجاورة الجثث المتحللة، والبقاء خارج المدينة أخف وطأً من العيش فوق أطلالها.

الحديث عن الجثث والقتل والمقابر الجماعية يستدعي ذكر حي كوكجلي، أول أحياء الجانب الأيمن من مدينة الموصل، الذي شهد أول حصار وأول معركة ضد تنظيم داعش، وكذلك كان أول الأحياء التي استعادتها قوات الأمن العراقية من قبضة التنظيم. هذا الحي ما يزال شاهداً على قسوة الحرب، وكثرة الموت الذي تفشى حينها، ففي وسطه كانت توجد ساحة كبيرة، تحولت إلى مقبرة كبيرة دُفِنت فيها 100 جثة مجهولة الهوية، وجدت في شوارع الحي بعد انتهاء المعارك.

كانت من بين قرارات محافظ نينوى الأسبق، الذي أقيل فيما بعد من منصبه بتهم فساد وسوء إدارة، طمر حي القليعات الأثري الواقع على نهر دحلة وتسويته بالأرض، وعرضه للاستثمار. وبالفعل توجهت الجرافات والمعدات الثقيلة إلى هناك، وطحنت رفات الميتين وطمرتها مع التاريخ الممتد بعيداً في أرض الموصل.

الدمار والجثث وانعدام الخدمات يجعل الحياة في المدينة القديمة صعبة، والبقاء فيها مغامرة، لذا كثيرون عادوا أدراجهم إلى مخيمات النزوح الأولى، هرباً من الحياة الرديئة، والموت الكثير. فمنذ استعادتها وعودة أهلها من نزوحهم الطويل، عادت أكثر من 34 ألف عائلة من الموصل إلى المخيمات، في واحدة من أكثر موجات النزوح العكسي الدالة على خراب المدينة.

الكلاب السائبة.. معركة أخرى

زيادةً في المأساة، يخوض الأهالي في الموصل معركةً إضافية على جبهة أخرى داخل المدينة. إنها معركة مع الكلاب السائبة. ففي الموصل قرابة 40 ألف كلب، تتجول في جانبي المدينة الأيمن والأيسر، ناشرةً الخوف والأمراض معاً.

في الحدائق العامة، وفي الشوارع، وفي البنايات الخربة، وتحت ركام المدينة القديمة، هناك كلاب سائبة، تهاجم المارة، وتقتحم المنازل، مسببةً إصابات تكون أحياناً مميتة. فكلاب الموصل وباءٌ إضافي، ومشكلة تزداد تعقيداً يوماً بعد آخر، وانتشار الجثث في الموصل فاقم العقدة، حيث كانت تلك الجثث المنتشرة في جميع الأحياء طعاماً للكلاب، وهذا ما جعلها متوحشةً ومسعورة، تهاجم الناس، وتعض الصغار والكبار، سواءٌ خلال مرورهم في الشوارع أو عند اقتحام البيوت.

منذ استعادة الموصل وعودة أهلها من نزوحهم الطويل، عادت فرجعت أكثر من 34 ألف عائلة من المدينة إلى المخيمات، في واحدة من أكثر موجات النزوح العكسي الدالة على خراب الموصل.

لم ينجُ حيٌ في الموصل من ظاهرة الكلاب السائبة. وفي مقابل الزيادة الكبيرة في أعدادها، لا تمتلك السلطات في مدينة الموصل حلولاً للقضاء عليها. وبحسب ما كشفه عضو في مجلس محافظة نينوى، فإنَّ مستشفيات مدينة الموصل تستقبل يومياً ما معدله 5 إصابات بسبب مهاجمة الكلاب للأهالي، وغالباً ما يكون الأطفال هم الضحية، خاصة في مواسم الدراسة.

الطرق البدائية التي تتبعها السلطات في الموصل لم تحل المشكلة. فهي وفي كل فترة من الزمن تطلق حملةً للقضاء على الكلاب السائبة، مرةً من خلال قتلها بالأسلحة، ومرات أخرى بتسميمها. وفي كلا الأمرين تظهر مشكلة أخرى، حيث أنَّ دائرة الطب البيطري والشرطة وكذلك بلدية المدينة، يجمعون تلك الكلاب الميتة، ومن ثم يلقونها في أماكن رمي النفايات على أطراف المدينة، دون الأخذ بنظر الاعتبار اتباع الوسائل الصحية لدفنها في أماكن بعيدة على الأقل. وإلا فهناك طرق كثيرة غير القتل يمكن اتباعها للتخلص من ظاهرة الكلاب السائبة في المدينة، كما يفعل إقليم كردستان مثلاً، حيث تقوم السلطات هناك بجمع الكلاب السائبة وتلقيحها وإيوائها في مراكز خاصة، ومن ثم اتباع طرق صحية للحد من تكاثرها.

يخوض الأهالي في الموصل معركةً إضافية على جبهة أخرى داخل المدينة. إنها معركة مع الكلاب السائبة تهاجم المارة، وتقتحم المنازل. ففي الموصل قرابة 40 ألف كلب، تتجول في جانبي المدينة الأيمن والأيسر. والجثث المنتشرة في جميع الأحياء كانت طعاماً للكلاب، ما جعلها متوحشةً ومسعورة، تهاجم الناس.

في العراق ينص قانون مكافحة الكلاب السائبة رقم (48) لسنة 1986 المادة (6) على أن: "تكافح الكلاب السائبة في الطرقات العامة، وخارج المنازل في المدن والقصبات والمناطق الريفية بالقتل أو القنص أو أية طريقة أخرى. ولوزير الزراعة إصدار تعليمات بناء على اقتراح الدائرة المختصة لتنظيم ذلك. وفي المادة الثانية من القانون: "تتولى الجهات المختصة جمع الكلاب الهالكة، والتي تهلك بالمكافحة، وحرقها في أماكن بعيدة تخصص لهذا الغرض".

لكن حتى هذا لم يحدث في الموصل، ثاني أكبر مدن العراق بعد بغداد، وأكثر المدن خراباً، حيث وصل عدد المباني المدمرة فيها إلى 32 ألف مبنى، ونصف أحيائها السكنية الـ 54 في الجانب الأيمن غير صالح للسكن والحياة، بينما هنالك 150 ألف عائلة ما تزال نازحة في المخيمات والشتات.

مقالات من العراق

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...