نادية: أشياءٌ لا تُحكى

"المكان العام كله خطيئة". فكيف لفتاة ان تتجرأ على دخول مقهى مختلط؟ وما العقاب الذي يستحقه هكذا فعل؟ حلقة من رواية اليمن اليوم.
2020-02-14

ريم مجاهد

كاتبة من اليمن


شارك
أسماء فيومي - سوريا

انعكس على القمريات الملونة ضوء سيارة مارّة في الشارع. جلست نادية بسلام على "المجلس العربي" بألوانه الكحلية والفضية. أمرها الأب بأن تنتظره في الديوان، وهي تعرف لماذا. كان الأخ قد شهِد أنه رآها بأم عينيه تغادر صحبة شباب وشابات من مقهى مختلط. سبقها الفتى موصلاً الشهادة بانفعال وغضب، صارخاً بأنه سيقتلها. كان الأب موجوداً، لذا فقد نقلت إليه المسؤولية حالاً. لم يكن الفارق الزمني بين وصولها ووصول الأخ كبيراً، ربع ساعة على الأكثر. وحين أطلت برأسها من الباب، غمزت لها الأخت التي تليها محذرة إياها. تأهبت حواسها، وشاهدت أمها مرتبكة، محمّرة الوجه، تغطيه بمساحيقها الرخيصة، وترتدي "درعاً" براقاً. وقبل أن تخلع نادية عبائتها أو تتجه لغرفة الفتيات، أمرها الأب بصوت هادر بأن تنتظره في الديوان. واصل الأخ المدلل صراخه وصياغة شهادته بأكثر الألفاظ استفزازاً لغضب الأب. توجهت نادية إلى الديوان بشيء من الخوف، لكنها في عقلها بصقت باستهتار: ما الذي سيفعلونه؟

حين دلف الأب إلى الديوان، أقفل الباب وراءه. نهضت هي لا-إراديا وواجهته. وفي اللحظة التي تقدم فيها إليها، أدركت نادية كم هي لا تحب أحداً في هذا العالم، لا تحبه ولا تحب أمها بتبعتيها الكاملة له، وكم تمقت أخواتها بطاعتهن وتزلفهن. سألها الأب: هل كنت هناك فعلاً؟ فكرت لوهلة أنه لا داعي لأن تكذب في هذا السؤال، ستكذب لاحقاً، قالت ببرود: نعم. تلقت الصفعة الأولى بصدمة حقيقية. أساءت التقدير. انتفض جسدها متراجعاً للوراء، وأحست باهتزاز جمجتمها.

تدافعت أسئلة وتهديدات من فم الأب، لم ترد هي بإجابات ولا بشروح. كان ملخص المحاكمة أنها فاسقة كاذبة بائرة لن تتزوج أبداً، وأنها لن تخرج من البيت بعد الآن. كان الأب يكرر مندهشاً غير مصدق، أنْ كيف لفتاة عاقلة أن تذهب لمقهى! ومختلط! ولم يستطع حتى تخيل ما الذي يمكن أن يكون عليه هذا "الكافيه" الذي يتحدثون عنه. أحست نادية بصدق اندهاشه، وابتسمت باحتقار.

مقالات ذات صلة

المحاكمة التالية كانت بمواجهة الأم، التي تخلصت من قاتها، وأجلست ابنتها الوسطى أمامها على السرير. شرحت لها المرأة بمرارة كيف وهبتها الثقة وصدّقتها أنها برفقة وداد في المنزل. سألتها كم مرة ذهبت لهذا المكان، وكيف تجرأت على فعل هذا بنفسها وأخواتها البريئات، من الذي سيتزوجهن الآن؟ ماذا لو أن الجيران أيضا صدف وشاهدوها برفقة شباب ذكور أو تلك الفتيات المتبرجات؟ بكت الأم من هول تخيلاتها. ظلت نادية صامتة تنتظر نهاية الحلقة الكئيبة، لكن الأم استرسلت في خيالاتها وعتابها، ثم فجأة قفزت من الكائن المجني عليه لتتحول للشخص الذي تعرفه نادية، قالت لها بحزم أنها لن تسمح لها بتدمير مستقبل أخواتها إن كانت هي تريد تدمير نفسها، وأنه، إن كان سبب زيارتها لهذه الأماكن هو أن يمسك بيدها رجل ما، فلتتأكد أولاً إن كان هذا الرجل زوجها. أخيرا قالت لها: لست أنت من سيحط من قدري أو قدر ما صنعته في هذا البيت. لم تفهم نادية التهديد الأخير، لكن قوة المباهاة والغلو فيه لسعتها، وهذا ما جعلها تقفز من حالة اللامبالاة إلى حالة الهجوم. قالت للأم: هذا يعني أنه عادي جداً وأنكم تفضلون أن أكون في منزل وداد أو أي منزل آخر وأنتم لا تعرفون مع من أو ماذا أفعل. تفضّلون ذلك على أن أكون في مكان عام، الجميع فيه يشاهدني ولن أتجرأ على ارتكاب خطأ؟

مرة أخرى، أساءت التقدير. صفعتها الأم قائلة: المكان العام بكله خطيئة.

ليس تلقي الصفعات مرعباً. كل الفتيات يتحدثن عن هذا. فتيات بأعين متورمة وأسنان مفقودة. فكرت نادية: لست الوحيدة في هذا. تذكرت حنان التي اختفت للأبد حين صادفت أخاها في إحدى عصريات القات على الجبل المطل على المدينة، وإحسان التي ظلت تبعث لهن برسائل مشفرة من هواتف إخوتها الأصغر. هناك أمل بأن يكون مصيرها أخف وطأة. والمهم هو إنتهاء المحاكمة. أرادت أن تخلو بنفسها، وجهّزت هجومها على أخواتها في حال سألنها شيئاً. وكان الشيء الوحيد الذي ينخر أفكارها، هو إحساسها بالكراهية المطلقة تجاه أخيها. ظلت في فراشها متجنبة الحديث، ومنتظرة نوم الجميع كي تذهب للحمام وتغسل نار الصفعات بماء بارد. وحين توقفت الأضواء عن الانعكاس على قمرية الباب، وهمدت الأصوات، تحركت نادية باتجاه الحمام مستخدمة هاتفها لتضيء الطريق. لم يكن لديها من ستشكو إليه ما حدث لها، لكن كان لديها الكثير ممن تتحدث إليهم عن كل تفاهة ممكنة. وفي تلك الليلة، أحست أنها تحتاج لهذه الأحاديث التافهة بشكل ملح. عبرت الصالة باتجاه الحمام منشغلة بالرد على الرسائل، ومن حيث لم تحتسب، انقض عليها الأخ المدلل خاطفاً الهاتف من يدها ثم دافعاً إياها بقوة.

للمرة الثالثة: مفاجأة! وألم..

لم تتأكد مما إذا كان كامناً بانتظارها، أو أنه تصادف ذهابه أيضاً إلى الحمام. كانت بالفعل تكرهه. وليسفقط منذ الليلة، لكن منذ البداية، وما فعله كان أقوى بكثير من كل لا- مبالاتها واستخفافها. صرخت بجنون ثم انقضت عليه. اشتبك الاثنان في صراع غير متكافئ، لم ينته إلا حين انتزع الأب الفتى بيد واحدة ورماه بعيداً. لكن الهاتف ظل في قبضته، شتمها الأخ واصفاً إياها بالإنحلال، وأن السبب هو الهاتف ومراسلاتها غير المتناهية. أحس الأب بالخزي: كيف غاب هذا عن ذهنه؟ ظلت نادية تردد جملة واحدة: أعد إليّ هاتفي، لكن الأب دفعها بعيداً طالباً منها أن تذهب لتنام.

سال خيط صغير من الدم على وجنتها، وخيط أكبر على قلبها.

تقدم الأب، ناوله الفتى المنتصر الهاتف، وأخبره بوضوح أنه يحتاج لأن يرى ما في الداخل، ثم توجه بالحديث لنادية: أزيلي كلمة المرور!

الغصة التي كانت تجمعت في حلقها حين دفعها الأب بعيداً وذهب ليقف محيياً جهود الفتى المتعجرف، استُبدلت بغضب مشتعل، وقررت أنه حتى لو سلخوا جلدها، فلن تعطيهم كلمة المرور.

______________

الحلقة الأولى
الحلقة الثانية
الحلقة الثالثة
الحلقة الرابعة
الحلقة الخامسة
الحلقة السادسة
الحلقة السابعة
الحلقة الثامنة
الحلقة التاسعة
الحلقة العاشرة
الحلقة الحادية عشر
الحلقة الثانية عشر
الحلقة الثالثة عشر

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

رثاء...

ريم مجاهد 2023-07-06

"صلاح" لم يكن ابن أمي الوحيد، لكن أمي كانت - تقريباً - عالم صلاح الأوحد. هذه العلاقة التي تُسلّم بها العائلات التي تحظى بطفل/ة من ذوي الاحتياجات الخاصة... يعرف الجميع...