منذ بضع سنوات، لا أعرف عددها على وجه الدقة، قررتُ أن أجعل من رمضان الذي كان على الأبواب وقتها، موعداً كي أتغيّر وأبدأ صفحة جديدة في حياتي، وذلك بعد أن قرأتُ أنّ "شهر رمضان يُعَدّ فرصة كبيرة أمام المرء كي يتغير نحو الأفضل ويبدأ صفحة جديدة في حياته". أعجبني ما قرأتُ، أعدت كتابة العبارة على ورقة منفصلة، وعلّقتُها في مكان بارز على حائط غرفتي، وقررتُ وقتها – بنية صادقة – أن أضعَها موضع التنفيذ.
في أول ليلة من ليالي رمضان، أغلقتُ بابَ غرفتي وتناولتُ الورقة والقلم، قسّمت الصفحة طوليًّا إلى جزءين، سجلتُ في أحدهما أفعالي التي لا أرضى عنها وأريد التوقف عنها وتركَها، وفي الجزء الآخر تلك التي أرى أنه ينبغي عليّ أن أواظبَ عليها وألتزمَ بها. أتى الشهرُ ومرّ، أبديتُ صمودا لافتا أثناءه، ضعف صمودي شيئا فشيئا بعد انتهائه حتى تلاشى، وعدتُ الى سيرتي الأولى. قبيل رمضان الذي بعده فعلتُ الشيءَ نفسَه. عندما قارنت القائمتين فوجئت بأن كل واحدة منهما تكاد تتطابق مع نظيرتها. لم يُفقدْني ذلك حماسي، أعدتُ كتابة العبارة بخط أكبر "شهر رمضان يُعَدّ فرصة كبيرة الخ..." وعلّقتـُها مكان الورقة القديمة التي كانت قد انثنت واصفرّ لونُها، وعاهدتُ نفسي ألا تكون هذه المرة كسابقتها، وانني سوف أتغيّر حقا.
ربما كان صمودي هذه المرة أقوى "بعض الشيء"، فقد استمر لفترة أطول بعد أن ولّى الشهر الكريم، ولكنّه في النهاية لقي المصيرَ نفسه، باستثناء تغيير طفيف، لا يكاد يُذكر.
تـَكْرار الأمر عاماً بعد عام، يُشعرُك بالإحباط. عن نفسي أتوقع بعد الزواج مثلا – هذا إن تزوجت - أن يختلفَ ما أكتبه في قائمتي قليلًا، فبدلا من أكتب: "عليّ أن أبذل مجهودا أكبر في مساعدة أمي في الأعمال المنزلية، وألا أتشاجر مع شقيقتي الكبرى بسبب "التلفزيون"، وألا أحسد صديقاتي اللاتي تزوجن قبلي"، سأكتب: "عليّ ألا ألغي زيارتي الأسبوعية لوالديّ لأي سبب، مكتفية بالاتصال الهاتفي بحجة "الانشغال"، وأن أحرص على التبسم في وجه زوجي وإبداء الاهتمام الكبير به عندما يعود من عمله على الرغم من ضغوط البيت والأطفال والعمل جميعها، وألا تستفزني تصرفات حماتي وتدخلاتها التي لا تنتهي في حياتي"، وربما أكتب أيضا "عليّ أن أراعي مشاعر صديقاتي اللاتي لم يتزوجن بعد عندما نلتقي، وألا تطغى رغبتي "غير البريئة" في التفاخر أمامهن على حرصي "المفترض" على مشاعرهن. فقد جربتُ ما يثيره مثل هذا التفاخر في النفس من قبل.
أما أكثر ما كنتُ أكتبه فسوف يظل كما هو: "أن أخشع في صلاتي، أن يكون للمحتاجين نصيب "ثابت" من كل راتب وليس من "راتب رمضان فقط"، أن أنظم وقتي ولا أضيعه، أن أقلل من استخدامي للفيسبوك، أن ألتزم بالخطة التي أضعها للقراءة، أن أحرص على النوم مبكرا لأستيقظ مبكرا، أن يكون هدفي من الكتابة والعمل الصحافي المنفعة العامة لا المكانة والمنزلة بين الناس، خاصة الزملاء، أو الفخر والمباهاة بأني صرتُ "كاتبة" (وربما مشهورة في ما بعد)، وأن اسمي (وربما صورتي لاحقا) "يظهر في الجرائد" بانتظام، كذلك أن أحسن الظن بتصرفات من حولي "خاصة الأقرباء والجيران"، وأن أكظم الغيظ ولا أغضب، وألا أغتاب أحدا"، وهذه الأخيرة – كما تعلمون – صعبة للغاية.
ثم نكبر ويكبر الأبناء ويتزوجون، وساعتها يمكن أن يضاف إلى القائمة "عليّ أن أكون أقلّ حدة مع زوجات أبنائي، وأن أتحمّل بسعة صدر النتائج المترتبة على "فراغ" زوجي بعد خروجه على المعاش".
الاختلاف لن يكون فقط في بعض التفاصيل، فالأوراق القديمة ستكون مكتوبة بخط جميل ومنمّق، أما الأحدث فسيكون من الواضح أنها كُتِبَتْ على عجل وبقدر أقل من الاهتمام. على أية حال فمن المرجح أني، بمرور الوقت، سأتحاشى المقارنة بين هذه الأوراق التي سوف تتراكم لديّ بعضها فوق بعض، مؤرّخة بسنوات متتالية، كما سأتحاشى النظر إلى الورقة المعلقة على الحائط، وإن كنت أتوقع أن أقرر بعد سنوات قليلة من الزواج إزالتها والاكتفاء بوضعها داخل دفتر مذكراتي اليومية كي أستريح من سخرية زوجي كلما رآني أنزعها لأضع واحدة جديدة بدلا منها، كل رمضان .
في مرحلة لاحقة، سوف أصير جدة، يشتعل الرأس شيبا، تظهر التجاعيد، يضعف البصر والبدن، ولا تضعف الرغبة في أن "أغير نفسي إلى الأفضل وأكون كما أريد".
وأتخيل نفسي في هذه المرحلة التي ستكون في الغالب آخر المراحل، وأنا أستقبل أبنائي وأحفادي أول أيام رمضان من كل عام، كي نتناول الإفطار سويا، وفي الليلة السابقة أكون قد مارستُ طقسي السنويّ، وأنا لا أدري ما إذا كان حرصي على هذا الطقس طوال كل هذه السنوات، سيزيد شعوري بخيبة الأمل، أم أنني أجد في ذلك الحرص الذي لم يَفتّ الزمن في عَضُدِه بعضَ العزاء!
مواضيع
عن القوائم المتشابهة التي تـُكتَب كل رمضان
مقالات من مصر
ثمانون: من يقوى على ذلك؟
إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.
الباب المُقفل: معضلة تعليم الفلسطينيين في مصر
هناك إصرار متزايد في أوساط أطفال وشباب جيل النكبة الفلسطينية الجديدة على حقهم في التعليم، وتشكيل مستقبلهم بأيديهم من جديد، على الرغم من الظروف القاسية عليهم. إلا أن ذلك، بالمقابل،...
في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر
تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...
للكاتب نفسه
قصّة "هَدِية" مع الميراث
في زيارتي الأولى في العام 2016 ركّزتُ على التقصير الحكومي ونقص الخدمات الأساسية، وفي الثانية (2021) عملتُ واحتككتُ أكثر بموضوعات تتعلق بثقافة وسلوكيات الناس أنفسهم هناك: ختان الإناث، قتل النساء...
فنّانات غزّة وأديباتّها الشهيدات
"إذا متنا اعلموا أننا راضون وثابتون وبلِّغوا عنا أننا أصحاب حق". وقد استشهدنّ فعلاً، وحيدات أحياناً أو مع ابنائهن في الأغلب. يا للخسارات. هذا نص عن حليمة الكحلوت، هبة زقّوت،...
أوضاع صعبة يواجهها الوافدون السودانيون في مصر وعلى حدودها
قالت مفوضية اللاجئين إنه حتى 15حزيران/ يونيو الفائت، تمّ تمويل برنامج الاستجابة السريعة للأزمة السودانية، الذي يشمل مصر وتشاد وإثيوبيا وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، بنسبة 15 في المئة فقط...