الحياة اختيارات، وقد اختارت شاهندة مقلد منذ البداية الطريق الصعب، حين أصرت، وهي ابنة 17 عاماً، على ألا تتزوج إلا من الشخص الذي رأت فيه فارس الأحلام، والجدير بأن يكون أباً لأبنائها، ابن عمتها صلاح حسين، الذي كانت تنظر إليه منذ أن كانت طفلة بإعجاب وتقدير كبيرين. فقد كان بالنسبة لها بطلا بعد أن علمت بذهابه إلى فلسطين عام 1948 للتطوع في كتائب الفدائيين، كما شارك في بداية الخمسينيات في الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإنكليزي في القناة، وقاد هو وفلاحي قرية «كمشيش» ــ إحدى قرى محافظة المنوفية شمال مصر ــ المعركة ضد الإقطاع.
اختيار شريك الحياة كان بالنسبة لها حقاً لا يمكن أن تتنازل عنه، لذلك قررت الهرب من منزل أسرتها في شبين الكوم، مرة كي تحصل على الطلاق من «أحمد»، ضابط الشرطة الذي خـُطِبَت له في حياة أبيها، وأخرى كي تتزوج من صلاح الذي رفضت أمها ارتباطهما.
«دافعي عن رأيك حتى الموت»
وفي الإسكندرية حيث يقيم صلاح ويعمل، تزوجا بحضور بعض أقاربه وأصدقائه، كانت في التاسعة عشرة وكان هو في التاسعة والعشرين، كان ذلك في العام 1957. أقاما في شقة متواضعة، وأصبحت الفتاة المدللة في بيت أبيها مسؤولة عن إدارة منزل، ومن المواقف التي لا تنساها قيامها ذات يوم بطهو دجاجة «بريشها». لم يكن ما فعلته شاهندة بمستغرب من الإبنة الكبرى لعبد الحميد شوقي مقلد، ضابط الشرطة المثقف، صاحب المواقف الوطنية، الذي أوصاها بأن تدافع عن رأيها حتى الموت، فكتب لها في «أوتوغرافها» قبل وفاته: «وصيتي لك هي التقوى، اتقي الله في كل صغيرة وكبيرة، لا تفعلي سراً ما تخشينه جهراً، وإذا كنت في نعمة فحافظي عليها، وليكن لليتيم والمحروم منها نصيب، دافعي عن رأيك حتى الموت».
تأثير الوالد، الذي فقدته وهي في السابعة عشرة من عمرها، لا يقل عن تأثير «أبله وداد»، مدرّستها في مدرسة شبين الكوم الثانوية للبنات. وداد متري، صاحبة الشخصية القوية والمسؤولة عن تنظيم العديد من الأنشطة الاجتماعية والثقافية والرياضية للطالبات. وما زالت شاهندة تذكر الرحلة التي نظمتها «أبله وداد» ذات يوم إلى سجن القناطر. لم تكن تعلم وقتها أنها ستكون نزيلة هذا السجن ذات يوم، كما خاضت تحت إشرافها أول تجربة لها للنزول إلى الشارع والتواصل مع الجماهير من خلال المشاركة في الحملة التي نظمها نادي الخدمة الاجتماعية بالمدرسة ــ الذي أسسته وداد ــ لدعوة سيدات المدينة لقيد أسمائهن في جداول الانتخابات.
امتدت علاقة شاهندة بوداد متري ــ التي تكبرها بـ11 عاماً والتي أصبحت تناديها باسمها دون «أبله» بعد أن أنجبت طفلها الأول ناجي - حتى وفاة وداد عام 2007. صداقة استمرت أكثر من خمسين عاماً، كانت وداد خلالها مُعينـاً وسنداً لها في كثير من المحن والمواقف التي مرت بها. وداد وصلاح كانا أول من أطلع شاهندة على الفكر الماركسي. أحضرت لها وداد كتاب «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة»، الذي صعب عليها فهمه، فأمدتها بكتاب آخر هو «أسس الفلسفة» وذلك بعد أن تحدثت شاهندة مع مدرستها عن رغبتها في القراءة عن الاشتراكية، كما أعطاها صلاح، الذي كان قد تحول من الإخوان المسلمين إلى الماركسية، كتاب «الاقتصاد السياسي» المبسّط لمؤلفه «ليونتيف»، وكان ينصحها أن تقرأ الفكر الماركسي بروح نقدية.
كمشيش و مقتل صلاح حسين
وكما أن للأشخاص تأثيرهم في حياة المرء، فللأماكن تأثيرها كذلك، وقد أثرت قرية «كمشيش» فيها كثيراً، على الرغم من تنقل أسرتها بين العديد من الأماكن على امتداد الجمهورية، تبعاً لظروف عمل الوالد. تمثل كمشيش لها ذكريات الطفولة، حيث كانت تشاهد بعينيها جرائم الإقطاع ضد الفلاحين الذين اغتصبت أراضيهم وكانوا يجبرون على العمل في الحقول من دون أجر أو بأجر زهيد. كما تمثل لها ذكريات النضال ضد الإقطاع مع رفيق الكفاح صلاح حسين الذي بدأت نضالها معه بعد زواجهما، واستمرت في النضال من بعده. كانا من قيادات فلاحي القرية وناضلا معهم ضد تهرب إقطاعيي كمشيش من قانون الإصلاح الزراعي الذي صدر في أعقاب ثورة يوليو، وكانت شاهندة السيدة الوحيدة في محافظة المنوفية التي فازت في انتخابات الاتحاد القومي الذي أعلن عن تشكيله في منتصف عام 59.
«30 إبريل 1966»، تاريخ لا يُمحى من ذاكرة شاهندة، فهو يوم مقتل زوجها بالرصاص، وهي احتسبته «شهيداً دفاعاً عن حقوق الفلاحين في معركتهم ضد الإقطاع». كانت ضربة قاسية لامرأة ترملت وهي في السابعة والعشرين من عمرها وترك لها زوجها الراحل ثلاثة أبناء، أكبرهم ناجي في الثامنة، ثم وسيم في الرابعة، والصغرى بسمة رضيعة لا يتعدى عمرها الشهرين. زاد من قسوتها أن «القاتل الحقيقي أو المحرض بُرِّئ، وعوقب فقط القاتل المأجور». قررت استكمال المسيرة. كان أول تحدٍ واجهته الاعتراضات الأمنية على دفنه في كمشيش، أصرت وشاركت في حمل النعش، وهي تهتف «صلاح فداكم يا ثوار وإحنا نكمل المشوار»، قبل أن تقع مغشياً عليها.
ولم تفق شاهندة من الصدمة الهائلة التي تلقتها بمقتل ابنها وسيم عام 2008 في روسيا في ظروف غامضة، إلا مع ثورة يناير التي أحيتها من جديد على حد تعبيرها، ورغم حزنها على ما آلت إليه الأمور فيما بعد، إلا أنها لا تتخلى عن تفاؤلها.
التحرر من رهبة السجن
تعرضت شاهندة للإبعاد عن قريتها كمشيش، كما تعرضت للاعتقال أكثر من مرة. ففي حزيران /يونيو من عام 1971 وبعد حملة أمنية شنتها الشرطة على قرية «كمشيش»، ألقي القبض على عدد كبير من الأهالي من بينهم شاهندة، ثم أفرجت عنهم النيابة ليصدر قرار من وزير الداخلية (ممدوح سالم وقتها) بإبعادها وآخرين عن القرية، ونقل عدد آخر إلى بعض محافظات الصعيد «لأسباب أمنية»، بينما كان السبب الحقيقي، كما تقول، حرمانهم من الترشح لانتخابات الاتحاد الاشتراكي في ذلك الوقت. خلال فترة إبعادها وإقامتها في الإسكندرية، تعرضت شاهندة للاعتقال الأول وكان ذلك في كانون الثاني/يناير 1975، حين داهم شقتها «زوار الفجر»، ولأنها كانت المرة الأولى فقد كانت تشعر بقدر كبير من الخوف والرهبة، وبأنها ذاهبة إلى «المجهول». وفي سجن القلعة بالقاهرة وجدت صديقتها الحميمة «صافي ناز كاظم» ومنه نُقِلَت إلى سجن القناطر ثم أفرج عنها بعد ثلاثة أشهر ونصف الشهر. أصبحت شاهندة أكثر جرأة ولم يعد السجن يُرهبها. في عام 1978 كان الاعتقال الثاني لها، عقب انعقاد مؤتمر»30 إبريل» الذي تحرص شاهندة على إقامته سنوياً في كمشيش في ذكرى رحيل زوجها، لمناقشة قضايا الفلاحين وغيرها من القضايا المطروحة على الساحة، وذلك بمشاركة القوى الوطنية. كان مؤتمر ذلك العام قد شهد هجوماً حاداً على اتفاقية كامب ديفيد، ونشرت الصحف خبر القبض عليها قبل وقوعه، فقررت الهرب لأن «قيادات القرية كانت قد اعتقلت في ذلك الوقت بعد حملة أمنية جديدة على كمشيش، لذلك لا بد من أن يبقى أحد خارج السجن». وتتنقل شاهندة خلال فترة الهرب والاختفاء بين أكثر من منزل بمساعدة الأصدقاء. وأثناء هروبها يلقى القبض على ابنها ناجي وكان عمره وقتها 21 عاماً، فتجدها فرصة كي يتعلم وينضج سياسيـاً.
بعد أن أفرج عن الجميع في القضية التي عرفت باسم «تنظيم كمشيش»، قررت أن تذهب إلى القرية ليقبضوا عليها هناك، وهو ما حدث، ثم حولتها النيابة إلى سجن شبين الكوم، وهي المرة الأولى التي تدخل فيها سجناً غير سياسي، حيث رأت هناك أنماطاً مختلفة من النساء، كونت مع بعضهن صداقات استمرت بعد الخروج من السجن، بعد أن وجدتهن أشرف بكثير من غيرهن!
الاعتقال الثالث كان في كانون الثاني/يناير 1981 بتهمة «التحليق في سماء الحزب الشيوعي المصري». ويوم 6 تشرين الأول/أكتوبر 1981، وصلها، وهي داخل السجن، نبأ مقتل السادات فكانت فرحتها وزميلاتها غامرة لدرجة أن صافي ناز كاظم كبّرت وغنّت. ولأن شاهندة أقسمت ألا تخلع الأسود إلا عندما يموت السادات، أرسل لها أقاربها في اليوم التالي «تايور فوشيا» حرصت أن تحضر به أول جلسة تحقيق معها عقب مقتل السادات، متعمدة أن تبدو في قمة الحيوية والعنفوان. وعندما أفرج عنها بعد ذلك ودّعت السجينات والسجّانات بالدموع.
خاضت شاهندة انتخابات مجلس الشعب ثلاث مرات، قررت بعدها ألا تخوض التجربة مرة أخرى، إذ رأت التزوير بعينيها، وأدركت أنه «لا علاقة بين النجاح السياسي والجماهيري والنجاح في صندوق الانتخابات في بلادنا». شاركت في تأسيس حزب التجمع اليساري عام 1976، وفي تأسيس اتحاد الفلاحين المصريين عام 1983 الذي ظل تحت التأسيس حتى قيام ثورة يناير، حيث انتخبت أمينة عامة له في 2011، كما شاركت في لجان شعبية عدة، واختيرت عام 2010 المنسقة العامة لحركة «مصريات مع التغيير»، وشاركت في ثورة يناير. وفي أحداث قصر الاتحادية في كانون الأول/ديسمبر 2012 تعرضت للاعتداء بتكميم فمها. وهي حالياً عضو جبهة الإنقاذ. وعند إجراء هذا اللقاء معها، كانت عائدة لتوها من مؤتمر نسائي عقد بمدينة دياربكر التركية، وقبلها من تونس للمشاركة في المنتدى الاجتماعي العالمي. وكانت ابنة الـ75 عاما تستعد بحماس للمشاركة في تظاهرات 30 يونيو لإسقاط مرسي الذي فقد شرعيته بنظرها.
كنْ نفسك
تعترف شاهندة بأن انشغالها بالعمل السياسي قد يكون سَـبَّبَ ضيقاً لأبنائها، أو أثـر عليهم بالسلب، حيث كانت تتركهم مع السيدة التي كانت مربيتها هي وإخوتها أيضاً، ومع أختها الصغرى «شادية». وهي لديها حالياً ستة أحفاد. كانت شاهندة خلال حديثها معي ودودة للغاية، تحدثت بتلقائية ومن القلب، وكأنها تعرفني منذ زمن، ولأنه «من الصعب رواية كل الأحداث في لقاء واحد»، أهدتني كتابها «من أوراق شاهندة مقلد»، الصادر عن دار ميريت في القاهرة. وتعتبر شاهندة مذكراتها «جزءاً من حياتي وملحمة نضال قريتي التي أتشرف بالانتساب إليها»، فقد توحد تاريخها الشخصي بتاريخ قريتها كمشيش على حد قولها.
بعد صدور الكتاب رُفِعَت ضدها دعوى قضائية تتهمها بارتكاب جريمة القذف بحق عائلة مقيمي الدعوى، التي جاء ذكرها في الكتاب، سبقتها دعوى أخرى عام 2005 للسبب نفسه، بعد نشر حوار أجرته معها مجلة مصرية.
عندما سألتـُها عما يمكن أن تقوله للشباب بعيداً عن السياسة والأيديولوجيا، اختصرت الأمر في عبارات قليلة: «أقول لكل شاب كنْ نفسك، كنْ ما أنت مقتنع به، وليكنْ لك قضية تعمل لأجلها». وأضافت «بالنسبة لي، كانت هناك 3 قضايا رئيسية في حياتي: الفلاحين ومصر وفلسطين، بذلت أقصى ما في وسعي من أجلها، وأرجو أن أكون قد قدمتُ شيئا».