الإعلام المصري مجدداًً

«إعلام منحاز، يتبنّى خطابا أحاديا، يكيل الاتهامات من دون أدلة أو تحقق، ويعمد إلى التشويه المنظم لكل صاحب رأي أو موقف سياسي مختلف، مع تحريض على الكراهية بل وأحيانا القتل، واستخدام ألفاظ وأساليب غير لائقة، حيث وصل الأمر إلى حدّ الابتذال». هذه هي أهم الانتقادات التي تُوجّه للإعلام المصري، حكوميّاً كان أم خاصّاً، منذ عزل مرسي في الثالث من تموز/يوليو الماضي.خطاب الإعلام هذا
2013-09-11

منى علي علاّم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك

«إعلام منحاز، يتبنّى خطابا أحاديا، يكيل الاتهامات من دون أدلة أو تحقق، ويعمد إلى التشويه المنظم لكل صاحب رأي أو موقف سياسي مختلف، مع تحريض على الكراهية بل وأحيانا القتل، واستخدام ألفاظ وأساليب غير لائقة، حيث وصل الأمر إلى حدّ الابتذال». هذه هي أهم الانتقادات التي تُوجّه للإعلام المصري، حكوميّاً كان أم خاصّاً، منذ عزل مرسي في الثالث من تموز/يوليو الماضي.
خطاب الإعلام هذا يتماهى مع خطاب رسمي لدولة ما فتئت تؤكد على لسان ممثليها أنها تحارب «الإرهاب»، وأن «الشعب المصري» بات موحداً في مواجهة «القوى الشريرة» و«قوى الظلام» ، على حد تعبير المستشار السياسي لرئيس الجمهورية الموقت في مؤتمر صحافي عقده في آب/أغسطس الماضي.

سوء سمعة

ليست هذه هي المرة الأولى التي يكون فيها الإعلام المصري في قفص الاتهام بهذه الطريقة؛ ففي أثناء ثورة كانون الثاني/يناير 2011، اتهم الإعلام المصري، لا سيما الحكومي، بنشر الأكاذيب وتشويه سمعة الثوار. وكان أداؤه مدعاة للسخرية والتندر، مما دفع إلى المطالبة بتطهير المؤسسات الإعلامية وإحداث تغييرات جذرية فيها كي تكون معبرة عن الشعب وليس السلطة. ولكن هذه ظلت «مطالبات» لم يستجب لها، وبقيت المؤسسات الإعلامية كما هي، ليس فقط تمارس أسلوب الإدارة وطريقة العمل ذاتهما، بل حتى بالوجوه نفسها.
فعلى الرغم من إعداد «قوائم سوداء» أو «قوائم عار» للإعلاميين (وغيرهم من الشخصيات العامة) الذين «عملوا على تزييف الوعي وتضليل العقول» أثناء الثورة، إلا أن إطلالاتهم استمرت بعدها، حيث أبدى كثيرون منهم تأييداً لها (لم يعد منه مفر)، سواء في وسائل الإعلام نفسها أو في قنوات وصحف جديدة، حرص رجال أعمال (عُرِفَ عنهم ارتباطهم بنظام مبارك) على إطلاقها بعد الثورة، أو أطلقت بتمويل خليجي.

إعلام بديل

وفي محاولة لإيجاد إعلام بديل (إلى جانب وسائل التواصل الاجتماعي التي وإن كانت تلعب دوراً كبيراً في هذا الإطار، إلا أنها تبقى أقل انتشاراً من وسيلة مثل التلفزيون)، جرى بعد ثورة كانون الثاني/يناير بأشهر قليلة إنشاء قناة تلفزيونية من خلال اكتتاب شعبي كي تكون «صوت الشعب»، «بعيداً عن صيغتَي الملكية الحكومية وملكية رجال الأعمال». ولكنّ «عقبات قانونية وإدارية» حالت دون أن يرى المشروع النور.

مجزرة، وفي وصف آخر إنجاز

في صباح يوم الرابع عشر من آب/ أغسطس الماضي، حين كانت قوات الشرطة والجيش تقوم بفض اعتصامَي رابعة والنهضة (والذي ترتب عليه سقوط مئات القتلى وهو ما اعتبرته منظمة مثل هيومان رايتس ووتش أسوأ حادثة قتل جماعي في تاريخ مصر الحديث)، كانت إحدى القنوات الخاصة ـ والتي عوّدت مشاهديها أن تفيدهم بآخر الأخبار العاجلة التي تمثل «انفرادا» لها ـ تعرض برامج منوعات! ولم تجد الصور المروعة للقتلى الذين سقطوا في صفوف المعتصمين مكاناً لها في الإعلام المصري الذي حرص على بث صور لأسلحة قالت وزارة الداخلية إنها عثرت عليها داخل الاعتصامَين، وأخرى لعدد من الأشخاص يحملون السلاح، بالإضافة لصور إصابات رجال الشرطة، وفي مشهد آخر رجل شرطة يُمسك بيد أحد المعتصمين برفق.
في المساء، لم يكن رئيس الوزراء وحده من خرج ليتقدم بـ«خالص الشكر للشرطة التي التزمت بأقصى درجات ضبط النفس»، فقد ظهر على الشاشات «حقوقيون» يثنون على أداء جهاز الشرطة، وهم المعروفون بانتقادهم المستمر له وتتبعهم لانتهاكاته، ولكنهم ــ وعلى حد قولهم ــ يرون الشرطة في هذا اليوم تحديداً، و«إحقاقاً للحق» تستحق الشكر على «الإنجاز» الذي حققته.

وطن لا يتسع لاثنين

يعاني المجتمع المصري منذ فترة من الاستقطاب الذي ازدادت حدته أخيراً، وكأن المصريين لم يعودوا قادرين على العيش معاً، ووصلت الخلافات الحادة، في بعض الأحيان، إلى القطيعة داخل الأسر والعائلات وبين الأصدقاء وزملاء العمل، وكذلك إلى شتائم في المواصلات العامة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. بل وصل الأمر إلى حد الشماتة في الموت، أو على الأقل عدم الاكتراث بالدماء ما دامت تنتمي للطرف الآخر. فقد أبدى قطاع من المصريين تأثراً كبيراً إزاء مقتل 25 من مجندي الأمن المركزي في شمال سيناء في آب/أغسطس الماضي، وهم محقون تماماً في ذلك، إلا أن هؤلاء أنفسهم لم يبالوا بمقتل المئات قبلها بأيام جراء فض الاعتصامين...

إعلام يُشعل النيران

يقول د. محمد المهدي، أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر: «يعيش المصريون في حالة توتر عصبي ونفسي، ولا شك أن الخطاب الإعلامي الأحادي الذي يتبناه كل طرف من طرفي الصراع حاليّاً ومنذ فترة - مع الأخذ في الاعتبار اختلاف حجم الانتشار ومن ثمّ التأثير بينهما لمصلحة أحدهما على حساب الآخر يعزز حالة الاستقطاب الشديدة. وهو خطاب يٌوجَّه إلى عاطفة المتلقّي لا إلى عقله، بهدف التأثير فيه بالإيحاء والاستهواء والاستلاب، وهو لا يؤدي إلى تغذية مشاعر الكراهية ضد الطرف الآخر فحسب، ولكن كذلك إلى اضطراب في الإدراك وفقدان القدرة على التفكير السليم، خاصة مع غياب العقلية الناقدة التي لا تتقبل كل ما يقال بل تُعمل العقل فيه (ووجود هذه العقلية من عدمه غير مرتبط بالضرورة بمستوى التعليم)، حيث يكون المتلقي أسير رأي واحد هو الرأي المسيطر، ويصبح غير قادر على الموازنة بين الآراء المختلفة التي تُمنع من أن تعبر عن نفسها. كما أن الاتهامات الإعلامية الجاهزة تزيد النار اشتعالاً، لأنها من ناحية تشحن المتلقي المحايد ضد طرف لم تثبت إدانته، ومن ناحية أخرى تجعل الطرف الآخر تحت ضغط نفسي كبير لشعوره بأنّه يتعرّض لظلم شديد يتمثل في تعرّضه للقتل والاعتقال، وفي الوقت نفسه يكون باستمرار موضع اتهام وتشويه، مما قد يدفع البعض إلى التورط في ممارسة عنف فردي أو جماعي».

إعلاميون عدوانيون

ويصف د.المهدي الإعلاميين الذين يتبنون خطاباً تحريضياً أو إقصائياً أو استئصالياً بأنهم «ذوو نزعة عدوانية»؛ فعلى الرغم من أنه من المفترض أن يكون الإعلامي شخصاً مثقفاً يدعو للسلم والمصالحة (وهذه قضية أخرى تتعلق بمعايير اختيار من يظهرون على الشاشات أو يكتبون في الصحف، ومن يمثلون قادة رأي يوجهون الرأي العام، حيث الاعتماد في كثير من الأحيان يكون على الوساطة وليس الكفاءة، كما تتعلق بالمستوى الثقافي لهؤلاء، وارتباط بعضهم بجهات أمنية)، إلا أن كثيرين منهم ينطلقون من خلفية أيديولوجية معينة لا من خلفية مهنية. وقد ظهرت هذه النزعة العدوانية بشكل لافت قبل فض اعتصامَي رابعة والنهضة حيث كانت هناك ضغوط إعلامية تحث الحكومة على «الحسم» في مواجهة من يهدّدون «الأمن القومي» ويشكلون خطراً داهماً على «هيبة الدولة». وهؤلاء الإعلاميون، كما يشير المهدي، «لديهم قدر من الكراهية والبغض تجعلهم لا يحتملون وجود مناوئيهم في المشهد السياسي مرة أخرى، لذلك لا يكفون عن وصفهم بالإرهاب والخيانة ويخلعون عنهم جميعاً وبلا استثناء رداء الوطنية، وهو نفس ما يفعله المتطرفون دينيّاً من خلع رداء الإيمان عن مخالفيهم. باختصار هم ضد المصالحة وضد التوافق الوطني وضد قبول معارضيهم على أرض الوطن».

لا سلام من دون عدالة

وعن إمكانية تحقيق مصالحة وطنية في ظل الخطاب الإعلامي الحالي يقول: «خطورة استمرار هذا الخطاب في أنه يجعل فرص حل الصراع صعبة أو مستحيلة، حيث يصعب بعد كل هذا الشحن والشحن المضاد إقناع المتلقي بالحوار مع الطرف الذي اتُّهم بالعمالة والخيانة، فيصل الطرفان إلى مرحلة اللاعودة. كما أن استمرار هذا الخطاب قد يؤدي إلى صراع على الأرض، وهو ما حدث بالفعل ونخشى استمراره وتفاقمه وتطوره للأسوأ. لا بد أن تتوقف الحملات الإعلامية التي تكرس خطاب الكراهية والنبذ والتشويه، كما أن السلام الاجتماعي لن يتحقق إلا إذا اطمأن الجميع إلى عدالة لا تفرّق بين المواطنين على أساس اللون أو العرق أو الدين أو الرأي والتوجه السياسي. وغياب هذه العدالة يجعلنا أمام خطر تراكم الغضب والإحساس بالظلم، مما ينذر بانفجارات عنف تهدد المجتمع بأكمله، لأن العدل هو أساس الاستقرار».

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

قصّة "هَدِية" مع الميراث

في زيارتي الأولى في العام 2016 ركّزتُ على التقصير الحكومي ونقص الخدمات الأساسية، وفي الثانية (2021) عملتُ واحتككتُ أكثر بموضوعات تتعلق بثقافة وسلوكيات الناس أنفسهم هناك: ختان الإناث، قتل النساء...

أوضاع صعبة يواجهها الوافدون السودانيون في مصر وعلى حدودها

قالت مفوضية اللاجئين إنه حتى 15حزيران/ يونيو الفائت، تمّ تمويل برنامج الاستجابة السريعة للأزمة السودانية، الذي يشمل مصر وتشاد وإثيوبيا وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، بنسبة 15 في المئة فقط...