قد لا ينتبه المطالع لكتاب الدكتور نبيل عبد الفتاح الاخير، إلى أن كلمة «ثورة» الواردة في عنوانه وُضِعَت بين علامتي تنصيص، إذ يرى المؤلف أن الإفراط في استخدام المصطلح لتوصيف ما حدث يشير إلى غلبة الأمل على الواقع الذى يحمل في أعطافه استمرار بنى النظامين الاجتماعي والسياسي، وشبكات الفساد السياسي والهيكلي، والفاعلين الرئيسيين في دوائره على تعددها، ولم تطرأ بعد تحولات هيكلية تؤدي إلى ثورة وفق معاني ودلالة هذا المصطلح في العلوم السياسية والاجتماعية والتاريخ الحديث والمعاصر. وفي ظل فوضى المصطلحات السائدة، يحتاج التوصيف برأي الباحث إلى مراجعة، خاصة مع التعثر، والتراجع النسبي في عمليات التغيير الثوري، ومحاولة قوى داخلية وخارجية حصار العملية الثورية في نطاق إصلاح جزئي في بعض السياسات والوجوه، فتغدو محض لعبة إصلاحية جزئية.
تفويت الدور التاريخي
ذهب الباحث إلى وصف ما حدث في مصر بين 25 كانون الثاني/ يناير و11 شباط/ فبراير 2011 (في ضوء المتابعة والمشاركة على حد قوله)، بالانتفاضة الديمقراطية الثورية. إلا أنه يرى أن هذه الانتفاضة أجهضت، ولم تستطع حتى الآن أن تُحدث تحولا نوعيا في طبيعة النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المستمرة في البلاد. يُرجع المؤلف ذلك إلى اتفاقات و«تواطؤات» قوى الإسلام السياسي، ممثلة بالتنظيمات الإخوانية والسلفية (ومعهم بعض التوابع من «الليبراليين» و«الناصريين» و«اليساريين») مع المجلس العسكري الذي تسلم السلطة عقب تنحي مبارك، وظل يدير البلاد على مدى عام ونصف العام، قبل أن يسلمها إلى الرئيس المنتخب.
ومن هنا تأتي مسؤولية النخبة السياسية عن تعثر الانتفاضة المصرية. فقد غلَّبت جماعة الإخوان ومعها بعض القوى السلفية مصالحها السياسية الآنية في الوصول إلى أغلبية مقاعد مجلسيْ الشعب (الذى حل فيما بعد) والشورى، كقاعدة انطلاق لمحاولة صياغة الدولة وأجهزتها، والنظامين الدستوري والسياسي على هواها الأيديولوجي. غلبت ذلك على حساب المصلحة العامة للأمة والدولة المصرية. لم تتحمل تلك النخبة السياسية مسؤوليتها «التاريخية» إزاء الحركة الثورية الشابة، بل ركزت على الاستيلاء عليها كمنصة للوثوب الى السلطة ومغانمها، بدلا من السعي للوصول إلى توافق وطني يحقق المصلحة العامة. وينطبق هذا على مجمل النخبة السياسية، سواء تلك التي في السلطة أو في المعارضة. هي نخب يصفها الباحث بالمتنازَعة، تعاني ـ على اختلاف أطيافها السياسية - من ضعف التكوين والتدريب، بلا خبرات، ولا تمتلك رؤى أو تصورات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وغير قادرة على تقديم أفكار ملهمة. والاستثناءات محدودة . نخبة يغلب عليها الفكر المحلي الضعيف والسطحي، لا تعرف ما يجري داخل مصر ولا خارجها، في الإقليم أو في العالم، ولا تعرف معنى النظام العالمي المعولم الذي نعيش طرفا ضعيفا في إطاره. بل يتصور افرادها أن بعض آرائهم البسيطة هي العالم ومركز الكون .
ذكورية ومتسلطة و...
وهي نخبة متعصبة، ذكورية النزعة. فأفرادها هم أبناء ثقافة التسلط والطغيان. كما أن غالب القوى الإسلامية هي ابنة ثقافة الطاعة والتبعية والولاء للمرشد أو لاتباع مشايخ الحركة السلفية، لا تميز بين الخطاب الدعوي والوعظي والخطاب السياسي، تُلبس مصالحها الدنيوية، سياسية كانت أو اقتصادية، لباسا دينيا بهدف التدليس على غالب الناس. تتحدث عن الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان والمواطنة والحريات والقبول بالاختلاف والإيمان بالرأي والرأي الآخر، بينما يكمن وراء الخطاب منطق شمولي واستبعادي للآخرين. تعاني من انعدام المصداقية، ولا تلتزم بوعودها، شرهة إلى السلطة والشهرة، لا تتحمل مسؤوليتها إزاء الأغلبية المستضعفة سياسيا واجتماعيا والتي تعاني من الإهمال وانهمار الشعارات الجوفاء حول العدالة الاجتماعية بينما يعتري حياتها المرض والفقر والبطالة والأمية، أو بأحسن الاحوال تردي نوعية التعليم وانحطاط مستوياته، أغلبية لا أحد يسمع لها ولا أحد يحمل تصورا لتحسين حياتها المرّة والقاسية.
ومثل هذه «النخبة» وينبغي وضع هذه الكلمة أيضا بين علامتيْ تنصيص - هي نتيجة طبيعية للتجريف السياسي الذي شهدته مصر، وظاهرة موت السياسة التي عاشتها طوال عقود في ظل أنظمة مستبدة. ورغم هذا الواقع «المحبِط» بالنسبة للكثيرين، إلا أن الباحث يرى أن مستقبل الحركة الثورية سيتحدد في ضوء التدافع السياسي والاجتماعي بين القوى الثورية الجديدة وقوى الإسلام السياسي على اختلافها، وكذلك مع قوى النظام القديم .
أمراض النخبة المثقفة ومستقبل القوة الناعمة
هذا في ما يتعلق بالنخبة السياسية. فماذا عن النخبة المثقفة؟ وماذا عن مستقبل الدور الثقافي المصري والقوة الناعمة لمصر في الإقليم؟ رغم الدور الذي قام به بعض المثقفين في التمهيد للانتفاضة ومشاركتهم فيها، إلا أنها تعاني من أمراض متعددة لعل أبرزها علاقتها بالسلطة واتجاهها إلى التحالف معها، فيتحول «المثقف» من مثقف نقدي إلى مجرد تابع للسلطة السياسية التي عملت في عهد مبارك على تهميش المثقفين النقديين وتوظيف الموالين عبر آليات الجوائز والنشر والسفر والمواقع القيادية داخل مؤسسات الدولة الثقافية. ومازال هذا الإرث مستمرا حتى بعد الانتفاضة الثورية المتراجعة، حيث يسعى بعضهم للتعاون مع السلطة الإسلامية السياسية الجديدة، أو التراجع مرة أخرى ودعم ما يسمى بـ«الدولة العميقة». وإلى جانب مرض العلاقة مع السلطة، تعاني النخبة المثقفة من ضعف التكوين المعرفي بسبب الاعتماد على كتابات وترجمات غير دقيقة ومبتسرة يفتقر غالبها إلى عمق البحث والمعالجة. كما تعمد إلى الخلط بين الانطباعي والموضوعي، بين العفوية والنزعة البحثية التحليلية والتفكيكية.
ويساهم في هذا الواقع التهميش الذي يتعرض له المثقف سياسيا وإعلاميا، والفجوة بين المثقفين والجماهير، وضعف حضورهم المجتمعي، فضلا عن أن التيارات الإسلامية السياسية على اختلافها إلا قليلا - لديها مواقف حادة إزاء الثقافة والإبداع، وترمي إلى فرض رقابة دينية على الأنشطة والتظاهرات الثقافية، وعلى الفنون والآداب وإنتاجاتها، مما يشكل خطرا داهما عليها جميعاً.
ثقافة النفط
الحديث عن النخبة المثقفة وأحوال الثقافة يقودنا إلى الحديث عن الدور الثقافي المصري في الإقليم ومستقبل القوة الناعمة لمصر بعد الانتفاضة، التي يفرد لها الباحث أحد فصول كتابه متناولاً أسباب تراجعها وإمكانية تجديدها، فيذكر علاوة على التجريف والاستبعاد، تأثر الثقافة الدينية المصرية الوسطية بما يطلق عليه الباحث «ثقافة النفط» التي تتسم بالمحافظة والتزمت، وتؤدي الى تراجع الحريات الفكرية وبروز ضغوط على عمليات الإبداع والبحث الأكاديمي، سواء من الأجهزة السلطوية والقمعية، أو من قبل الجماعات الإسلامية السياسية. هذا فضلا عن تدهور نوعية التعليم العام والجامعي، المدني والديني، مما أدى بدوره إلى تدهور نوعية الخريجين حيث يعتبر الباحث سياسات التعليم ومؤسساته أدوات لإعادة إنتاج وتكريس «التخلف المصري» على كافة الصعد والمحاور.
دور الاعلام
يمثل الإعلام المصري إحدى أدوات قوة مصر الناعمة، إلا أنه عانى وما زال من تدهور مستمر في مستويات الأداء، مما أفقده الكثير من قدرته على التأثير في المنطقة العربية، وذلك نتيجة سياسة تجنيد العناصر الأقل قدرة وكفاءة وخبرة خلال عهدي السادات ومبارك وتصعيدهم على حساب الأكفاء والموهوبين والمثقفين، لضمان ولائهم والقدرة على توجيههم ، بالإضافة إلى الوساطة وظاهرة توريث المهن من بعض الآباء لأبنائهم، التي تتطلب موهبة ومهارات خاصة، كالصحافة والتمثيل والغناء، بقطع النظر عن كفاءتهم. وعن إمكانية تجديد القوة الناعمة لمصر في الإقليم، في ظل تحديات عديدة تواجهها، يؤكد الباحث أن أية محاولة لا بد أن تكون جزءا من عمليات ثورية، «فالتجديد هو مسألة طويلة ومعقدة وتحتاج إلى عديد التطويرات البنيوية المتكاملة والمتناسقة في القانون والتعليم المدني والديني والإعلام والثقافة»، والأهم في نظر الباحث هو ضرورة حماية حرية الفكر والرأي والتعبير والعقل الناقد وسيادة دولة القانون وهيبتها إزاء عمليات التحريض والتكفير واعتقال العقل والروح والإبداع.
«النخبة والثورة. الدولة والإسلام السياسي والقومية والليبرالية، سياسات التحول في مصر»، دار العين، 2013