النوبة هو ذلك الجزء الذى يوصل جنوب مصر بشمال السودان. أو «بلاد الذهب» كما يُطلق عليها، إذ يُعتقد أن أصل كلمة «نوبة» يرجع إلى كلمة «نوب» التي كانت تعني الذهب لدى المصريين القدماء، إذ اشتهرت المنطقة باحتوائها الكثير من مناجمه.
التاريخ والجغرافيا
جغرافياً، تمتد النوبة بين الشلال الأول من شلالات نهر النيل الستة (واحد منها في مصر والخمسة الأخرى في السودان) جنوب أسوان شمالا، حتى مدينة الدبة قرب الشلال الرابع جنوبا. وتنقسم إلى قسمين، النوبة السفلى وتمتد بين الشلال الأول وأدندان وتعتبر جزءاً من مصر، والنوبة العليا وتمتد بين أدندان والدبة وتعد جزءاً من السودان. وقد جاء هذا التقسيم للنوبة إلى قسمين بعد الاتفاق الثنائي الذى أبرم بين الحكومتين المصرية والبريطانية في بداية عام 1899، الذى أضر بوحدة مصر والسودان معاً، كما أضر بوحدة النوبة السياسية، وإن لم يؤثر على الروابط بين أبناء النوبة جميعاً، شمالها وجنوبها.
تاريخياً، وكما يقول «وولتر إمري» فى كتابه «مصر وبلاد النوبة» (إصدارات المركز القومي للترجمة بمصر 2008، من أبرز من كتب في هذا المجال)، بقيت هذه المنطقة آلافاً من السنين من أهم مناطق القارة الأفريقية، حيث شهدت الكثير من الأحداث التاريخية التي كان لها تأثيرها الحاسم والكبير على تطور الحضارة. فقد كانت النوبة من أهم مناطق الصراع الرئيسية فى العالم القديم، بين الأجناس المختلفة ، البيضاء منها والسوداء، للوصول إلى السيادة على شمال أفريقيا . فالمصريون القدماء كانوا يتوغلون جنوباً لاستغلال مناجم الذهب وللتجارة فى العاج والأخشاب الثمينة ومنتجات «كوش»، وهو الاسم القديم لشمال السودان، كما نزح سكان الجنوب نحو الشمال، إلى الأراضي الأكثر خصوبة من وادي النيل حتى شاطئ البحر المتوسط. وينقسم سكان النوبة المصرية بشكل أساسي إلى ثلاث مجموعات: الكنوز في الشمال ، والعرب في الوسط ، والفديجة في الجنوب ، ورغم أن نوبيي الشمال والجنوب كانوا يستخدمون اللغة النوبية مع اختلاف اللهجة بينهما، إلا أن النوبيين يتكلمون جميعاً العربية، كما ينتمون جميعاً للدين الإسلامي. واللغة النوبية بلهجاتها المختلفة، غير مكتوبة، لذلك تستخدم حروف لغات أخرى منها العربية فى كتابتها. ولا شك أن اندماج أبناء النوبة مع غيرهم بعد التهجير الذي فرضه بناء السد العالي فى الستينيات أُثر سلباً على استخدام اللغة النوبية، لا سيما بين الأجيال الجديدة التي لا تعرف منها إلا القليل.
موجات تهجير
من السمات التي تميز النوبيين حرصهم على التجمع فيما بينهم، فنجد الجمعيات والنوادي النوبية أينما حلوا، سواء داخل مصر أو في الدول العربية والأجنبية. وتلعب هذه الجمعيات دوراً في المناسبات الدينية والاجتماعية. وبالنسبة لأبناء النوبة، كان القرن العشرين هو قرن المعاناة التي لم تنته بنهايته، وذلك من جراء التهجير المتكرر، الذي تعرضوا له خلاله لأكثر من مرة، منذ بناء خزان أسوان عام 1902، ثم تعليته مرتين، الأولى عام 1912 والثانية عام 1933 ، مما اضطر السكان آنذاك إلى الانتقال إلى المناطق المرتفعة من الوادي لمواجهة ارتفاع منسوب المياه. ولكن المعاناة الأشد ظهرت مع بناء السد العالي في الستينيات، إذ كان لا بد من تهجير شامل لسكان المنطقة إلى الشمال، حيث أقامت لهم الدولة قرى جديدة في منطقة كوم أمبو شمال أسوان، وهو ما سمي بالنوبة الجديدة. أما النوبة القديمة فغمرتها مياه بحيرة السد الجديد التي سميت بحيرة ناصر. ومن النوبيين من هاجر إلى القاهرة والإسكندرية ومدن القناة، وقد انعكست تلك المعاناة التي لاقاها النوبيون جراء ترك أراضيهم وبيوتهم وقبور أسلافهم على أعمالهم الأدبية والفنية، وعبّر المبدعون منهم عن ذلك من خلال العديد من الأعمال الشعرية والروائية والقصصية والرسم، كما صاحب تهجير البشر في كل مرة إجراء مسح للمواقع الأثرية بالمنطقة، وتسجيلها وعمل الخرائط اللازمة لها. وعندما تقرر إنشاء السد العالي قادت منظمة اليونيسكو حملة دولية لإنقاذ آثار النوبة ونقلها إلى مواقع جديدة أكثر ملائمة.
المطالب ما زالت توطين وتنمية!
وطبقاً للإحصائيات الحكومية التي أجريت قبل التهجير، بلغ عدد سكان النوبة في مطلع عام 1960 ما يقرب من مئة ألف نسمة، أكثر من نصفهم مغتربون في مدن أخرى لأسباب اقتصادية. وعلى الرغم من الوعود الحكومية بحياة أفضل في المجتمع الجديد، وأن الدولة وفرت لهم «كل مقومات الحياة الكريمة»، عانى أهالي النوبة فى موطنهم الجديد من نقص الخدمات وتصدع منازلهم بعد فترة، فضلا عن المتاعب الناجمة عن اختلاف البيئة الجديدة عما اعتادوا عليه في موطنهم الأصلي المطل على النيل مباشرة. كما أن التعويضات التي قررتها لهم الحكومة كانت هزيلة. وعلى مدار عقود ظل أبناء النوبة يطالبون المسؤولين بحل مشكلاتهم، واستمرت الحكومات المتعاقبة في تقديم الوعود بينما بقيت المشكلات قائمة. آخر تلك الوعود قدمها الرئيس مرسي عقب لقائه وفداً ضم ممثلين عن أهالي النوبة في مطلع شهر آذار/مارس الجاري. وقد تمثلت مطالبهم في توطين الأهالي المُهجّرين، وتطوير وإعمار قرى النوبة، ومدها بالمرافق والخدمات اللازمة. وعدهم الرئيس - كما جاء في بيان الرئاسة عقب اللقاء ـ بتوجيه الحكومة بسرعة لإحالة المشروعين المُقترحين الخاصين بقانوني التوطين والتنمية الشاملة للنوبة إلى مجلس الشورى لمُناقشتهما، كما وعد بتوجيه كل من وزيري الصحة، والري واستصلاح الأراضي، لإعادة تأهيل وتجهيز المستشفيات في منطقة النوبة بالمعدات وإمدادها بالتخصصات الطبية اللازمة، ولتطوير منظومة الري. وبينما ينتظر البعض اتخاذ خطوات فعلية - وليس مجرد وعود - تثبت جدية الدولة في إعادة حقوق النوبيين إليهم، لا يعول آخرون على وعود الرئاسة التي لن تختلف في نظرهم عن وعود أخرى أطلقها مرسي قبل وبعد توليه السلطة ولم تنفذ على أرض الواقع. يحدث ذلك بعد اكثر من نصف قرن على الأقل من المطالبات، مما يفسر تشكيك النوبيين بقرب وصولهم الى مطالب هي على هذا القدر من الاوَّلية... والبداهة.
... وتعويضات عادلة، والإقرار بمساهماتهم
وإلى جانب التوطين والتنمية، هناك مطالب أخرى تتعلق بإعادة تقدير التعويضات المالية التي قررتها لهم الحكومة من قبل لتكون عادلة، وإلقاء الضوء في مناهج التعليم على تاريخ النوبة وثقافتها والتضحيات الجسيمة التي قدمها النوبيون. وتعديل المقاربة الإعلامية لهم التي اعتادت تقديم صورة سلبية عن النوبيين في الأفلام والمسلسلات... وذلك باعتبار النوبة جزءاً من مصر لا ينبغي إهماله أو تهميشه.
جزء من المطالب العامة
ويطالب النوبيون كذلك أن يمثلوا في المجالس النيابية. فقد ساءهم خلو قائمة الشخصيات المختارة للتعيين في مجلس الشورى من قبل الرئيس مرسي فى كانون الاول/ديسمبر 2012، والتي شملت 90 شخصية، من أي نوبي «رغم وجود تمثيل لكل أطياف المجتمع الأخرى». يقول شريف محيى الدين، وهو شاب نوبي وباحث في العلوم السياسية بجامعة القاهرة، «نحن لا ننظر إلى مطالبنا بمعزل عن المطالب الأخرى التي رفعتها ولا تزال ترفعها الثورة المصرية التي تهدف إلى جعل الدولة تحترم كل مواطن أياً كان. ونحن لن نكون سعداء أو راضين إذا تحققت مطالب النوبيين فقط من دون المطالب الأخرى، وهناك فئات أخرى داخل المجتمع المصري تعاني الظلم ربما بدرجة أكبر من النوبيين، مثل بدو سيناء. ونحن مهتمون بالنضال من أجل رفع الظلم عن الجميع، ومطالب النوبيين تأتي في إطار مطالب أخرى أعم. فعلى سبيل المثال، يطالب النوبيون بأن يكون لهم ذكر في مناهج التعليم، لكن على أن يحدث ذلك في إطار إعادة صياغة شاملة للمناهج التعليمية المصرية».
لا وجود لعنف ولا لنيات انفصالية
وهناك نقطة مهمة في هذا الصدد يركّز عليها محي الدين: «أي حديث عن تدويل القضية النوبية أو انفصال النوبة أو استخدام العنف... غير مطروح بالنسبة لنا، وغير موجود أصلا في ذهن النوبيين. وليس لديّ أي تخوف من كل هذه الأمور التي هي في جزء كبير منها من صنع الدولة. فهي تحاول من خلال نشر هذه المخاوف ثني النوبيين عن المطالبة بحقوقهم، وأي نوبي يتحدث عن ذلك يُنبذ من النوبيين قبل غيرهم. والمقارنة بما حدث في السودان من انفصال الجنوب عن الشمال غير واردة، حيث في السودان اختلافات دينية وعرقية، وحرب أهلية استمرت سنوات قبل الانفصال. أما النوبيون في مصر فهم ليسوا منعزلين أو منفصلين عن بقية المجتمع بل هم مندمجون ومتعايشون. كما أنهم لا يعتبرون أنفسهم أقلية. وثقافتهم وإن كان بها قدر من الخصوصية، إلا أنها في النهاية جزء من الثقافة المصرية المتنوعة». ويضيف: «قربنا من الثقافة الإفريقية ينبغي النظر إليه ليس باعتباره عيبا ولكن كشيء إيجابي يمكن استغلاله لتوطيد العلاقات المصرية ـ الإفريقية. فالنوبة هي بوابة مصر إلى إفريقيا».
ويؤكد شريف الذى أسس بالإسكندرية مع مجموعة من زملائه ـ ومنهم غير نوبيين ـ فريقا يهدف، من ضمن ما يهدف إلى نشر الوعى المجتمعي بالقضية النوبية، أنّ الناشطين من الشباب النوبي لا يقتصر اهتمامهم أو مجهودهم على الملف النوبي بل يشمل ملفات أخرى مثل هيكلة الشرطة وتحجيم دور المؤسسة العسكرية في الحياة المدنية وغير ذلك من ملفات تهمّ المصريين جميعاً. كما أنهم يعملون مع غيرهم من الناشطين (غير النوبيين) من أجل نشر الوعي بحقوق النوبيين حتى يتحول الحق النوبي إلى مطلب شعبي عام ولا يكون مطلباً خاصاً بجماعة معينة».
ويعدّ هذا الوعي المجتمعي خطوة مهمة نحو إعادة حقوق النوبيين اليهم، بدلا من مناشدة السلطة واستجدائها الذي استمر طيلة السنوات الماضية من دون جدوى.