لا تجد اللغة العربية اليوم مفرا تلجأ إليه مما يُفعل بها ومعها على أرضها وبيد أهلها الذين ولّوا وجوههم عنها نحو غيرها، فلم تجد بينهم من ينصفها أو يعيد لها الاعتبار. اللغة «الأم» تعاني عقوق الأبناء وتعدم من يمد لها يد الإنقاذ من «الخطر» الذى باتت فيه، على حد تعبير وثيقة بيروت الصادرة في آذار/مارس الماضي، عن المؤتمر الدولي الأول للغة العربية. بل مر بلا أثر ولا اشارة، «اليوم العالمي للغة العربية»، والذى يوافق الثامن عشر من كانون الاول/ديسمبر من كل عام، وهو التاريخ الذى أُدرجت فيه اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة. وكان ذلك عام 1973.
لقد أصبحت العربية تعاني الإهمال والإقصاء والازدراء، وهى التي قيل ما قيل - من أهلها ومن غير أهلها - في جمالها وسحرها وسعتها وغناها ومرونتها وتفردها بين اللغات حتى تغنى الشعراء بحبها وهواها. وهي تشهد في بلاد العرب تراجعا على كافة المستويات، في البيت وفى المدرسة، على صفحات الجرائد وعلى الشاشات والمواقع الإلكترونية، وفي مقدمتها مواقع التواصل الاجتماعي حيث تكتب بالحروف اللاتينية. على لافتات المحال وفى خطب المسؤولين وفى المكاتبات الرسمية وغير الرسمية. أصبحت أنتِ ولكِ وعليكِ وإليكِ ومنكِ وكل فعل ماضٍ تخاطَب به الأنثى، تكتب جميعها بياء في نهايتها بدلا من الكسرة، همزة القطع صارت همزة وصل، وبالعكس الوصل صارت قطع. «غير» تُلحق بها (ال) لنقرأ ونسمع «الغير» مبرر، و«الغير» صحيح، و«الغير» موجود و«الغير» معقول!! خبر كان صار مرفوعا وخبر إن بات منصوبا، يبدو ويرجو وكل فعل مضارع ينتهي بالواو تضاف إليه ألف ليصير «يرجوا» و«يبدوا»، وإذا كان الشاعر العربي قد قال قديما «والمرءُ تكرمُه إذا لم يلحنِ» - ولحن في كلامه تعني أخطأ الإعراب وخالف وجه الصواب في اللغة والإعراب - فإنه لم يعد أحد يستحق الإكرام بعد أن تفشّى اللحن في اللغة وشَمِل الجميع على اختلاف مستوياتهم التعليمية والثقافية، صغارا وكبارا، نخبا وجماهير، سياسيين وأساتذة جامعات وكتابا وصحافيين ومذيعين ومحامين بل وقضاة. حتى الدعاة وأئمة وخطباء المساجد، أزهريون «معمّمون» نسمعهم ينصبون الفاعل ويرفعون المفعول، ونعدِد لهم أخطاءهم اللغوية فنجدها بالجملة. ويبدو أنهم لم يسمعوا أن أحد التابعين وهو التابعىي الثقة الناسك أيوب السختيانى (66 - 131 هـ) كان إذا لحن قال: أستغفر الله ، وكأن اللحن في لغة القرآن يعد ذنبا يستوجب الاستغفار... لقد صار الجميع في «البلوى» سواء.
تتحمل النظم التعليمية العربية المسؤولية الأكبر عن هذا الوضع، ليس فقط بسبب مناهج اللغة العربية التي تحتاج إلى تحديث في محتواها وطرق وأساليب تدريسها، التي لم تتغير رغم وجود طرق وأساليب مبتكرة تستخدم في تعليم اللغات الأخرى، أو المعلم غير المؤهّل، أو غياب الأنشطة المدرسية التي من شأنها أن تؤدي دورا مهما في التنشئة اللغوية الصحيحة للطفل مثل الإذاعة والصحافة والإنشاد والتمثيل وغيرها، ولكن أيضا وفوق ذلك كله ما اتجه إليه القائمون على هذه النظم التعليمية تحت شعار «التحديث» من تدريس اللغة الأجنبية للتلاميذ منذ المراحل التعليمية الأولى، وذلك رغم ما يؤكد عليه الخبراء من ضرورة الاقتصار في هذه المراحل على تدريس اللغة الأم فقط، وألا يبدأ تعليم الصغار لغة أجنبية إلا بعد تمكنهم من لغتهم الأساسية. في مصر على سبيل المثال، نجد أنه بعد أن كانت اللغة الأجنبية تُدرّس في المدارس الحكومية ابتداءً من المرحلة الإعدادية (يكون عمر الطفل 11 عاما)، أصبحت تُدرّس ابتداءً من الصف الرابع الابتدائي (يكون عمر الطفل 9 سنوات). ثم ما لبثت وزارة التربية والتعليم أن جعلت اللغة الأجنبية تُدرّس ابتداءً من الصف الأول الابتدائي (يكون عمر الطفل 6 سنوات). ليس هذا فقط، بل اتجهت الحكومة منذ سنوات إلى ما يعرف بالتعليم التجريبي (لغات)، وهو النظام الذى أصبحت العديد من المدارس الحكومية تعمل في ظله، حيث تدرس العلوم والرياضيات باللغة الأجنبية منذ الصف الأول الابتدائي، فيتخرج الطفل غير متقن للغته الأم، ولا متمكن من اللغة الأجنبية لضعف مستوى التعليم في هذه المدارس «الحكومية»يالتى يباهى أولياء أمور طلابها بأن أبناءهم يدرسون maths وscience في تجلٍّ واضح لـ«عقدة الخواجة». هذا طبعا بخلاف المدارس الخاصة والمدارس الدولية.
وللإعلام أيضا دوره «المهم» في ما آل إليه أمر اللغة العربية، ونحن نرى العامية تطغى على وسائل الإعلام، الرسمية منها وغير الرسمية، وهي العامية التي يمكن وصفُها في كثير من الأحيان بأنها «هابطة» أو «متدنية»، بدلا من استخدام اللغة الفصحى الميسّرة أو ما يطلق عليها اللغة الفصيحة التي يمكن أن يفهمها المتلقي أيا كان مستواه التعليمي أو الثقافي. نرى العامية في عناوين الصحف ومقالاتها بل وعلى صفحات الكتب وفى نشرات الأخبار، بعد أن أبت بعض الفضائيات إلا أن تزيح العربية عن ملاذها الأخير على الشاشة لتُقدِّم نشراتها بالعامية. نراها على ألسنة المذيعين وفى أسماء البرامج التي أصبح التنويه عنها ب«اللى جاى» و«اللى بعده» بدلا من «البرنامج القادم أو التالي»، وأصبح الفاصل بين البرامج «استنونا» بدلا من «انتظرونا». ونرى الوقوع في الأخطاء اللغوية - لكثرته وانتشاره أصبح شيئا عاديا لا يستوجب التوقف فضلا عن المحاسبة، أخطاء متكررة من قبيل «متظاهروا التحرير» و«بعض المواطنون»، و«مساعدين إخراج»، وغيرها التي توصف بأنها أخطاء «فاحشة»، بالإضافة إلى استخدام اللغة الأجنبية، وقلة نسبة البرامج الثقافية - ومنها تلك التي تُعنى باللغة العربية مقارنة بالنوعيات الأخرى من البرامج التي تقدم خلال ساعات البث الممتدة على مدار 24 ساعة عبر مئات القنوات العربية الحكومية والخاصة. وحتى هذه النسبة القليلة من البرامج الثقافية لا تقدَّم في معظمها - في قوالب تجذب القاعدة العريضة من الجمهور بل فقط تخاطب النخب.
كل هذه الصور، وغيرها كثير، التي تعكس واقع اللغة العربية الحزين، سبق رصدها وتقديم المقترحات والحلول اللازمة لمواجهتها من أجل النهوض باللغة العربية من قِبَل خبراء اللغة والتعليم والإعلام وغيرهم، وذلك من خلال العديد من المؤتمرات والندوات والكتب والأبحاث. ولكنها ظلت جميعها حبرا على ورق، وظل التدهور مستمرا، ليبقى حال لغة العرب شاهدا على حال أهلها.
مواضيع
لـــغــــــة الــعــــــرب: أيــــن المفـــــــر؟
مقالات من مصر
ثمانون: من يقوى على ذلك؟
إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.
الباب المُقفل: معضلة تعليم الفلسطينيين في مصر
هناك إصرار متزايد في أوساط أطفال وشباب جيل النكبة الفلسطينية الجديدة على حقهم في التعليم، وتشكيل مستقبلهم بأيديهم من جديد، على الرغم من الظروف القاسية عليهم. إلا أن ذلك، بالمقابل،...
في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر
تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...
للكاتب نفسه
قصّة "هَدِية" مع الميراث
في زيارتي الأولى في العام 2016 ركّزتُ على التقصير الحكومي ونقص الخدمات الأساسية، وفي الثانية (2021) عملتُ واحتككتُ أكثر بموضوعات تتعلق بثقافة وسلوكيات الناس أنفسهم هناك: ختان الإناث، قتل النساء...
فنّانات غزّة وأديباتّها الشهيدات
"إذا متنا اعلموا أننا راضون وثابتون وبلِّغوا عنا أننا أصحاب حق". وقد استشهدنّ فعلاً، وحيدات أحياناً أو مع ابنائهن في الأغلب. يا للخسارات. هذا نص عن حليمة الكحلوت، هبة زقّوت،...
أوضاع صعبة يواجهها الوافدون السودانيون في مصر وعلى حدودها
قالت مفوضية اللاجئين إنه حتى 15حزيران/ يونيو الفائت، تمّ تمويل برنامج الاستجابة السريعة للأزمة السودانية، الذي يشمل مصر وتشاد وإثيوبيا وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، بنسبة 15 في المئة فقط...