يسهر علي بجانب زميله في الغرفة. كان الشاب قد أصيب بحمى مفاجئة، وبدأت درجة حرارته ترتفع بوتيرة مرعبة. ناوله علي أقراص مهدئات كان يخبئها لليالي الصداع، لكن شيئاً لم يكن ليطفئ ثورة النيران المشتعلة في جسد المريض. وبما أن الأخبار قد انتشرت في الطرقات والحافلات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، فكلاهما كان يعرف أن احتمالية أن يكون قد أصيب بإنلفزنزا الخنازير هي المرجحة، وبما أن الشاب بدأ يغوص في بحار هذيانه بعد منتصف الليل، وترك موضوع الاحتمالات والرعب لعلي وحده، الذي بدأ يفكر في ما الذي سيفعله إن مات الشاب؟
في الأمس فقط كان على لقاء مع الموت في شكل جثة صبي ألقيت في كومة قمامة، ولم يستطع فعل شيء غير أن يثير انتباه المارة حتى لا يبلّغ بنفسه السلطات، فيحتجزونه بدون سبب، إذ أن هذا أبسط ما قد تفعله سلطات الميليشيا الحاكمة للمدينة. قام الشغب الذي أثاره بدوره في استدعاء السلطات. توافد رجال بأزياء مدنية، وآخرون يرتدون أزياء عسكرية مع "صنادل"، وكان هذا المنظر قبل سنوات مثيراً للسخرية، لكنه أصبح جزءاً من هندام العساكر. ويمكنك الإيمان من اللحظة الأولى أن رجالاً كهؤلاء من المستحيل أن يحلّوا لغز الجريمة أو حتى أن يهتموا به. فهم، ومن يديرهم، هم أنفسهم المسؤولون عن وزارة الصحة ومركز الترصّد الوبائي وإدارة المستشفيات الحكومية، وهم أيضاً المسؤولون عن استيراد الأدوية وعن استلامها من المنظمات المانحة. وبينما كان علي يغيّر كمادات المريض، تذكر وجوه أولئك الرجال: سحنات مشوهة بالغباء واللاأهلية، وفي الوقت الذي كان الجميع ينتظر من السلطات أن تعلن المنطقة مدينة موبوءة، قامت بغزوة رهيبة لمحلات خياطة العبايات النسائية لتحرق كل عباية فيها ما قد يثير الغرائز ويلفت الأنظار. كانت النساء تمر بجانب حرائق العبايات، فتتلصص عيونهن بخوف واشمئزاز، مع يقين كلي تبادلته صاحبات العبايات مع العاملين في المحلات، بأنه ليس هناك من حامٍ في تلك الشوارع. فالبقاء فيها هو للأقوى فقط.
كان سعال الشاب جافاً، مؤذياً للسمع، وتأرجحت الحرارة بين الحادة جداً والحادة. ولمّا كان علي مرعوباً من العدوى، فإنه لم يحاول أن يقترب من الشاب ليفهم همهمته. كان يحدثه بما يدور في دماغه، مدركاً أنه لا يسمعه، لكنها الوسيلة الوحيدة لتمضية الوقت. في الأخير قرر علي أن يفتح النافذة في محاولة لتبديل هواء الغرفة المليء بسعال المريض وبأنفاسه، وبما أن البرد في الخارج وحشي ولا يحتاج الى دعوة لدخول الغرف، كان قرار فتح النافذة مغامرة قد تكون عواقبها أن يصاب علي بنزلة برد. لكن قلق العدوى الذي سيطر على وعيه منعه من احتساب هذه الاحتمالية. التَحَفَ علي بطانيته وتنشق الهواء البارد لخمس دقائق قبل أن يبدأ الارتعاش فيغلق النافذة بسرعة. فكر باطمئنان بأن هذه النسمات الثلجية ستكون كفيلة بقتل الفايروس الرابض في زوايا الغرفة.
قبل أعوام، اكتظت المستشفيات بمرضى الكوليرا. كان الإسهال مع الجوع يشكلان أقبح منظر يمكن للإنسان أن يراه. جثث حية بعيون غائرة مخيفة، جلد على عظم لأناس يستلقون في المستشفيات أو يزحفون في الشوارع..
في الصباح، دار علي بالمريض في أرجاء المستشفى الحكومي. كان الناس يفترشون العنابر والممرات، أطفال يصرخون، عجائز يتقيأن في الأكياس البلاستيكية، نساء يحاولن السيطرة على "البراقع" مثبتة في أماكنها حتى لا تكشف عن زوايا الذقن، بينما يتمخطن بصوت عالٍ وتدمع أعينهن. يرتفع صراخ الممرضين والأطباء عالياً فوق صراخ المرضى وأنينهم. كان علي قد جال بالمريض الواهن على كل الأقسام، توسل الممرضات والممرضين أن يدلوه عن مكان يمكنه فيه رمي هذا الشاب المنهك بالحمى والسعال، لكنه قوبل بنفس الصراخ: لقد امتلأ المستشفى بمرضى إنفلونزا الخنازير ولم تعد هناك أسرة لاستقبال مريض إضافي. لم يستنكر علي الموقف أو يقابله بالرفض، كان هناك رجال ونساء آخرون يطلبون ما كان يطلب. تعالت الصرخات المرعوبة مطالبة بتعيين مكان يمكنهم الذهاب إليه. إحدى النساء انهارت في الممر قائلة أنها للتو قدمت من المستشفى الحكومي الآخر وأخبروها أن لا سعة هناك لاستقبال مرضى، وأنه من الأجدر بها القدوم لهذه المستشفى، انتحبت ملصقة وجهها بوجه ابنتها النائمة، زعقت فيها الممرضة بأنها ستصاب بالعدوى، شتمتها المرأة الباكية، وعادت لتثبت لثامها المنزلق. تمتم رجل خمسيني هادئ بصحبة فتاة شابة: جميل، رائع، إنه الوضع الأمثل، إنها البلد الأفضل. ثم فجأة تحول للصراخ بشكل هستيري: أتمنى أن نموت جميعاً، فلا يبقى في هذا البلد أحد، أتمنى أن تفترسنا إنفلونزا الخنازير وحمى الضنك والكوليرا والملاريا، أتمنى أن يقصفونا ليل نهار، أتمنى ألا نجد من يقبرنا فتأكلنا الكلاب! علق علي بهدوء: إنها ليست أمنيتك لوحدك..لقد أصبحت حلماً وطنيا، وصدقني لن يتحقق هذا الحلم طالما أن الجميع متفق عليه!
____________
من دفاتر السفير العربي
اليمن بعدسة ريم مجاهد
____________
قبل أعوام، اكتظت المستشفيات بمرضى الكوليرا، كان الإسهال مع الجوع يشكلان أقبح منظر يمكن للإنسان أن يراه. جثث حية بعيون غائرة مخيفة، جلد على عظم لأناس يستلقون في المستشفيات أو يزحفون في الشوارع، وفي هذه المستشفى استلقى علي ذات مرة، آنذاك كان الوضع معكوساً، إذ جال به هذا الشاب الأماكن حتى أسكنه أحد الأسرة التي كانت لشخص مات في التو واللحظة. وبعد عام كان أحد أصدقائهم في المستشفى نفسه بسبب حمى الضنك، ثم ها هم اليوم يجوبون الأرجاء بإنلفونزا الخنازير. فكر علي بما سماه "المهزلة البشرية": لماذا يكافح كل هؤلاء الناس للبقاء؟ ما المميز في هذه الحياة؟ ما الذي يعتقده هؤلاء البشر؟ أن كل شيء سيكون رائعاً في الغد؟ أجابت ذات مرة سلمى على تساؤلاته، بأن كل شخص لا يريد الحياة لنفسه بالضرورة، لكنه يريدها لمن يحب، وسيعيش لأجل من يحب، وهكذا ينتهي الجميع بكفاح مستمر من أجل الحياة - الآخر. ما زال علي يفنّد هذه النظرية، إذ بعد عام من الآن ستمتلئ هذه المستشفى بوباء جديد، وسيتعالى الصراخ في الممرات بالطريقة نفسها، ولن تتحدث عن ذلك نشرات الأخبار إلا بعد أن يتجاوز عدد الضحايا الآلاف، أو أن يقبض على مسافر في المطار، وتكون تهمته أنه آت من بلد الأوبئة والجوع والقتل والعساكر الذين لا يرتدون البيادات (الأحذية العسكرية) لا صيفاً ولا شتاء. اختنق علي بالمرارة والغضب، وزحف بالمريض يسنده على كتفه ويتنفس أبخرته. خارج المستشفى كانت هناك بقايا نافورة، وحولها استلقت مجموعة من المراهقين يرتدون زي الطلبة كاكي اللون. انقبض قلب علي: هنا ستقف مدارس كاملة من البنين والبنات، وهنا سيقف كل أهاليهم، ولن يسند أحدهم الآخر، سيكون الأوان قد فات لأن تعير أحدهم كتفاً.
تمتم رجل خمسيني هادئ بصحبة فتاة شابة: جميل، رائع، إنه الوضع الأمثل، إنها البلد الأفضل. ثم فجأة تحول للصراخ بشكل هستيري: أتمنى أن نموت جميعاً، فلا يبقى في هذا البلد أحد، أتمنى أن تفترسنا إنفلونزا الخنازير وحمى الضنك والكوليرا والملاريا، أتمنى أن يقصفونا ليل نهار، أتمنى ألا نجد من يقبرنا فتأكلنا الكلاب!
استفسر علي من المريض إن كان لا يزال يستطيع الصمود ساعة أخرى في الحافلات، رفع الشاب عينين منهكتين، لم يقل شيئاً. تفقد علي جيبه، ثم تقدم نحو الشارع في محاولة لاصطياد سائق سيارة أجرة ما زال بإمكانه التعاطف. لم يكن الأول ولا الثاني، استسلم الثالث لابتزاز علي باسم المرض والإنسانية، دار بهما في الشوارع. كان علي قد غيّر خطته وقرر الالتجاء إلى أبعد مستشفى حكومي علّ وعسى أن يجدوا سريراً متاحاً.
في الطريق، حدّث علي - بطريقته الحكواتية - السائق عن هول ما شاهده بالأمس كي يمعن في ابتزازه:
في تلة القمامة، رأيت يده الصغيرة تتدلى - يكذب علي - وحين اقتربت، أزحت أكياس القمامة، وآه لو لم أفعل! طفل يا صاحبي، صبي ربما في الصف الخامس الابتدائي، مشنوق ومعذب، صدقني، مهما حاولت الوصف لن أستطيع. شيء لا تصدقه العين، هذا العالم أصبح متوحشاً يا صاحبي، لا يمكن إلا لوحش أن يفعل فعلته تلك، أنا لم أستطع لمس الجثة، لكن المارة الذين كانوا بالجوار، شهدوا أن الصبي كان قد اُغتصب ثم قُتل. وأنت تعرف كم مرة حدث هذا مؤخراً، لن أنجب أولاداً، لماذا ننجب؟ كي يموتوا بالكوليرا أو بإنفلونزا الخنازير؟ أو كي يختطفهم معتوه في الشارع ليغتصبهم؟ أخبرني أنت؟
- في حارتنا فقط قُتل صبيان اثنان بعد اغتصابهما. كانت تلك الجملة الوحيدة التي شارك بها السائق.
تقبّل علي صمت السائق، وارتاح لذلك الوضع الغريب الذي يتحدث فيه الراكب ويسكت السائق، كان المريض يستلقي في الخلف وما انفَّكَ يئن بسبب الحمى، نظر إليه علي مطولاً وأحس بالتعب. كان متعباً من المرارة وقلة الحيلة، ومتعباً لأنه لم ينم، ومتعباً لأنه لا يعرف ما الذي سيحدث، ومتعباً لأنه يعرف ما الذي سيحدث إن مات الشاب.
توقفت السيارة في الزحام، وعلى الرصيف المقابل، مر جسد ممشوق تحت العباءة، احتوى الخصر خيطاً ذهبياً يتحدى سوادها، رفرفت رموش طويلة أثقلتها "الماسكارا"، وبلا مبالاة نظرت لعلي وأصلحت "برقعها". ابتسم لها علي قائلاً: انتبهي أن يحرقوك يا جميلة، إنهم لا يحبون الخصر الواضح والجميل!
موت
06-06-2019
نادية
14-06-2019
علي
27-06-2019
سلمى
18-07-2019
نادية: إكتشافات ما بعد الظهيرة
26-07-2019
علي: القصص الأخرى
08-08-2019
سلمى، ليالي الحب والحرب
16-08-2019
لقاء نادية بسلمى
29-08-2019
علي: البحث عن أسير
12-09-2019
سلمى: بهجة الحكاية
21-11-2019
نادية وطائر الموت
12-12-2019