عبر التاريخ، استخدمت اللغة العربية في تدريس العلوم وتأليفها. حدث ذلك في العصور الوسطى حيث الازدهار العلمي للحضارة الإسلامية، وكذلك في العصر الحديث، حيث كان التدريس باللغة العربية في مدرسة الطب التي أنشئت في عهد محمد علي بإشراف طبيب فرنسي، وكان الخبير الفرنسي "كلوت بك" يرى أن "التعليم بلغة أجنبية لا يُنتج الفائدة المنشودة كما لا يَنتج عنه توطين العلم أو تعميم نفعه".
تُرجمت في هذه الفترة، كما يذكر محمود المناوي في كتابه "العلم واللغة: متى يتكلم العلم العربية؟" (صدر العام الماضي عن الهيئة المصرية العامّة للكتاب، والمؤلف أستاذ أمراض النساء والتوليد في كلية الطب/جامعة القاهرة وعضو مجمع اللغة العربية)، عشرات المراجع الطبية عن الفرنسية، هذا عدا عن إصدار الأساتذة المصريين العديد من المؤلفات الطبية باللغة العربية منها: "عمدة المحتاج لعلمي الأدوية والعلاج"، "طالع السعادة والإقبال في علم الولادة وأمراض النساء والأطفال"، "الروضة البهية في مداواة الأمراض الجلدية"، "الراحة في أعمال الجراحة" وغيرها. وبغض النظر عن طريقة كتابة العناوين التي تتناسب مع العصر الذي خرجت فيه (القرن التاسع عشر)، فهذه المؤلفات حسب اختصاصيين، هي ذات مستوى علمي جيد، ومثلت بداية مبشّرة في سبيل تحقيق التراكم العلمي والمعرفي باللغة العربية. لكن التجربة توقفت خلال سنوات الاحتلال البريطاني، بعد استبدال اللغة الانكليزية بالعربية. ويستمر التدريس بالانكليزية إلى اليوم، على الرغم من المطالبات المستمرة بالتعريب وإعادة اللغة العربية إلى كليات الطب وغيرها، من منطلق أن تلقّي العلوم باللغة الأصلية يزيد من قدرة الطالب على فهمها ويجعله أكثر تمكّناً منها، كما يجعله في متناول فئات أوسع من المجتمع.
وفي سبيل تعريب العلوم، بُذلَت الكثير من الجهود على مستوى العالم العربي وأغلبها كانت جهود مؤسسيّة، سواء من مجامع لغوية أو منظمات طبية وغيرها. فقد عُقدت العديد من المؤتمرات التي تناولت تعريب العلوم كقضية أو كوسائل وآليات، منها "المؤتمر الإقليمي لتعريب التعليم الطبي في البلدان العربية" الذي نظمته منظمة الصحة العالمية/المكتب الإقليمي للشرق المتوسط (القاهرة العام 1990)، ودُعيَ حينها إلى جعل عقد التسعينيات هو عقد التعريب. ولهذا تمّ وضع خُطة تنفيذية لتطبيق التعريب الكامل على مراحل، حسب منهج زمني، بحيث يكتمل المشروع مع نهاية العقد أي بحلول العام 2000... مرّ عقدان وأكثر، والوضع ما زال على حاله، بل إن بعض الكليات النظرية كالحقوق والتجارة والعلوم السياسية والإعلام افتتحت أقساما لها باللغة الأجنبية!
بين دستورين
كان دستور 2012 في مصر بمجمله محلّ انتقاد متعدد الأوجه، إلا أن المادة 12 منه التي نصّت على أن "تعمل الدولة على تعريب التعليم والعلوم والمعارف" تعرضت لهجوم حادّ وخاص من الصحف. جرى تناول القضية بسطحية، وحركته "دوافع سياسية" على اعتبار أنه "دستور الإخوان". وقد ألغيت هذه المادة بعد الانقلاب العسكري في تموز/يوليو 2013. وفي كلمة للشاعر فاروق شوشة (الأمين العام لمجمع اللغة العربية) في مؤتمر للمجمع حول التعريب، عُقد في آذار/مارس الماضي، أشار إلى "الموقف المؤسف الذي اتخذته لجنة قطاع الدراسات الطبية بالمجلس الأعلى للجامعات في كانون الثاني/يناير الماضي حين أوصت برفض مبدأ تعريب العلوم"، وذلك "رداً على الاقتراح الذي قدمه مجلس المجمع في تشرين الأول/أكتوبر الماضي إلى وزارة التعليم العالي بإنشاء مركز لتعريب تدريس العلوم في المستوى الجامعي".
وجهة النظر القائلة بأن التدريس باللغة الأجنبية هو شكل من أشكال التبعية الثقافية للغرب أو للمحتل، يواجهها رأي مناهض للتعريب بحجّة أنه سيحول دون متابعة التطورات العلمية في العالم المنشورة باللغات الأجنبية، إضافة إلى أن المصطلحات العلمية المعربة غير موحّدة بعد ولفظها يأتي في كثير من الأحيان صعباً وغير دقيق. كما يشير أصحاب هذا الرأي إلى عدم توفّر الكتب والمراجع العلمية بالعربية، وهذا مردّه إلى الواقع المزري للترجمة في العالم العربي.
تجربة من سوريا
تبقى التجربة السورية حاضرة دوماً في أي نقاش حول التعريب، حيث تكاد تكون الدولة العربية الوحيدة التي يُدرس فيها الطب باللغة العربية. أستاذ كلية طب الأسنان في جامعة دمشق نبيل قوشجي يرى أن لا أساس علميا للرأي القائل بأن التدريس بالعربية يؤثر سلباً على المستوى أو يؤدي إلى العزلة أو التخلّف العلميين. فالدراسات العلمية تؤكد على ضرورة تعلم العلوم باللغة القومية، وهو ما أوصت به منظمة اليونسكو. لهذا نجد الدول المتقدّمة علميّاً تدرّس العلوم بلغاتها القومية سواء في المرحلة الجامعية أو ما قبلها. إذاً الدفاع عن التعريب، وفق قوشجي، ليس موقفاً عاطفياً بل يستند إلى أبحاث علمية تؤكدها تجارب الدول الأخرى. ويشدّد على أن التعريب لا يعني عدم تعلم لغات أجنبية، فهو على سبيل المثال يجيد أكثر من لغة وله مؤلفات طبية وأبحاث باللغتين العربية والإنجليزية، إضافة إلى مساهمته في ترجمة عدد من الكتب الطبية إلى العربية. ويشير القوشجي إلى أن المصطلحات لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من مجموع كلمات النص الطبي (3 في المئة فقط). ويقترح البدء باستخدام المصطلح الطبي العربي القادم من سوريا، وتطويره إن لزم الأمر، فهو مصطلح مستخدَم ومجرب، بدلاً من ترك أمر وضع المصطلحات للجان تؤلَّف في كل بلد عربي على حدة، مما يؤدي إلى تعدد المقابل العربي للمصطلح الواحد. أمّا العقبة الحقيقية أمام التعريب فيرجعها إلى عدم توافر الإرادة على المستويين السياسي والأكاديمي.