بدأ التعليم الأجنبي في مصر والشرق لأغراض دينية تبشيرية. وفي دراسة حول "تاريخ التعليم الأجنبي في مصر في القرنين التاسع عشر والعشرين"، تعود إلى الستينيات، يذهب جرجس سلامة إلى أنه على الرغم من وجود مدارس يونانية في مصر في القرن السابع عشر، إلا انها استهدفت أبناء الجالية اليونانية ولم يلتحق بها تلامذة مصريون. ويمكن اعتبار المدرسة التي ألحقها الرهبان الفرنسيسكان (الوافدون إلى مصر) بالكنيسة التي أنشأوها في حي الموسكي في القاهرة العام 1732، أول مدرسة أجنبية في مصر لناحية تدريس لغة أجنبية غربية (الإيطالية)، واستقبالها تلاميذ مصريين إلى جانب الإيطاليين. ومع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين شهد التعليم تحولاً في العديد من دول العالم ومنها مصر، فانتقل من ديني بإشراف رجال الدين إلى علماني بإشراف الدولة. واتّجه التعليم الأجنبي في مصر اتّجاهاّ علمانياّ مع الاحتفاظ ببعض المظاهر الدينية، كما يقول سلامة.
وإلى جانب تلك الدينية، كانت هناك أغراض سياسية وثقافيّة، منها بثّ الدعاية للدولة الأجنبية وتمجيدها في المنهاج الدراسي (لتعضيد نفوذها السياسي لا سيما أنها تستقطب أبناء النخب السياسية والاقتصادية). كما تُعدّ المدرسة الأجنبية من أهم وسائل نشر ثقافة ولغة البلد الذي تتبع له، مع إهمال اللغة المحلية والتاريخ الوطني للبلد الأصل.
والمتابع لتاريخ التعليم الأجنبي في مصر يجد أن مدى انتشار المدارس الأجنبية وخضوعها لإشراف الدولة مُرتبط بطبيعة النظام السياسي القائم وظرفه. ففي ظلّ نظم سياسية ضعيفة أو تابعة، اتّجه التعليم الأجنبي نحو الاستقلالية التامة، بعيداً عن أي إشراف فعلي من الدولة.
التعليم الأميركي نموذجاً
تشرح الباحثة التربوية د. بثينة عبد الرؤوف، في واحدة من دراساتها بعنوان "مخاطر التعليم الأجنبي على هويتنا الثقافية وقيم المواطنة والانتماء" ظاهرة انتشار المدارس الأجنبية/الدولية في مصر، حيث تُطبّق أنظمة تعليمية أجنبية (كل بحسب البلد الذي تتبع له) لناحية المناهج وطريقة التدريس والأنشطة... وتقول عبد الرؤوف أنّ هذه المدارس ظهرت ونمت في ظلّ سياسات الانفتاح الاقتصادي والخصخصة وحرية رأس المال في الاستثمار في جميع المجالات بما فيها التعليم، إذ تحول الأخير، وفق الباحثة، إلى مشروعات تجارية ناجحة ومربحة يُقبل عليها رجال الأعمال والمستثمرون. وتشمل هذه المدارس جميع المراحل التعليمية، بدءاً من الروضة وصولاً إلى المرحلة الثانوية. ولا يقتصر التعليم الأجنبي - الذي قد يكون قسماً أو فصلاً ملحقاً ببعض مدارس اللغات الخاصة أو مدارس مستقلة - على التعليم قبل الجامعي، بل يمتدّ إليه من خلال عدد من الجامعات الأجنبية الموجودة في مصر. ويلتحق بهذا النوع من التعليم أبناء الأثرياء والمتنفذين سياسيّاً واقتصادياً وإعلامياً، لبلوغ تكاليفه عشرات الآلاف من الجنيهات سنويّاً.
وتركز الباحثة على التعليم الأميركي كونه الأكثر انتشاراً، وتشير إلى أنّ المدراس الأميركية في مصر تتمثّل نموذج المدرسة الأميركية في الولايات المتحدة من حيث المناهج وطرق التدريس ونظام التقويم المُتميّز بمرونة شديدة، مقارنةً بنظام التعليم المصري، خاصة على مستوى الشهادات العامة، وعلى رأسها الثانوية العامة، إذ يمكن دخول الإمتحان أكثر من مرة في العام ذاته، ما يتيح للطالب الحصول على درجات أعلى.
وبالنسبة للمقرّرات التي يتمّ تدريسها في المواد العلميّة كالرياضيات والكيمياء والفيزياء، تشمل مواضيع بسيطة مقارنةً بما يدرسه طلاّب الثانوية العامة المصريّة، وإن كانت أكثر تطوراً. أما مواد الثقافة القومية فهي غير أساسية لطلاب هذه المدراس، ولا يتمّ الالتزام بتدريس المنهج كاملاً خاصة في المرحلة التي تسبق الثانوية العامة. وفي هذه المرحلة يستطيع الطالب الالتحاق بالجامعة من دون أن يؤدي امتحان اللغة العربية والدين، لكنه لا يُمنَح الدرجة الجامعية إلا بعد الامتحان فيهما، أي أنه حرّ في اختيار الوقت المناسب له للتقدم اليهما. أما إذا التحق بالجامعة الأميركية أو أي جامعة أجنبية أخرى، فلا يكون ملزماً بالامتحان في هذه المواد. وتعتبر الباحثة أنّ مثل هذا النوع من التعليم يُخرّج كفاءات لا تناسب الحاجات المحليّة.
وفي هذه المدارس، عادةً ما يكون المدير ومساعدوه من الأجانب وكذلك معظم المدرّسين، وهذا ما يُعدّ ميزةً للمدرسة. ولا يخضع المدرسون لأي توجيه أو إشراف وزاري كالذي يخضع له نظراؤهم في المدارس التي تطبق المنهج الوطني سواء كانت حكومية أو خاصة. وبشكل عام فإنّ الإشراف الحكومي على هذه المدراس، بحسب الباحثة، ناقص أو صوري أو غائب تماماً.
تقوم الباحثة بعرض وتحليل عدد من القصص التي تُدرَّس في المدارس الأميركية في مادة اللغة الإنكليزية، وذلك من أجل التعرّف الى القيم المتضمَّنة، خاصة في مرحلة التعليم الأساسي (الابتدائية والمتوسطة). وإلى جانب القيم الإيجابية: الثقة بالنفس، الإصرار على النجاح، عدم الاستسلام للواقع، حب العلم والمعرفة والعمل، التسامح والتعاون، التعلم الذاتي والتفكير الناقد، قبول الآخر، الشجاعة في التعبير عن الرأي، العمل الجماعي وغيرها... تظهر العديد من القيم السلبية على رأسها قيمة الولاء والانتماء للولايات المتحدة "البلد الأكثر تقدما وحريّة ورفاهيّة".
وتعبّر القصص عن قيم المجتمع الأميركي، حيث التركيز على القيم الفردية والماديّة.
أما القيم الجماعية فجاءت محدودة، مع عدم التعرّض للقيم الأخلاقيّة والدينيّة والعائليّة التي تميّز المجتمع المصري. إحدى القصص تقدّم الشخصية العربية بطريقة سلبية، على لسان جَمَل يقول انّ العرب "يتحاورون كثيراً ولا يتفقون على شيء". ومن ثمّ تقدم الشخصية العربية على أنها غير قادرة على اتخاذ قرار بل تحتاج دوماً إلى من يقودها، ولو كان مجموعة من الجِمال! وفي قصة أخرى، تذكر البطلة أنها سافرت إلى العديد من الدول منها "إسرائيل" ومصر. كما تدعو إلى التعاطف مع اليهود وحقّهم في إقامة وطن لهم.
وفي كتاب علم الاجتماع للمرحلة الثانوية العُليا، يقدَّم المجتمع الأميركي كـ"مجتمع مثالي" منفتح، ديموقراطي يحترم الحرية الشخصية وحقوق الأفراد (بما في ذلك حقوق العراة والمثليين جنسيّاً)، على العكس من المجتمعات الأخرى كالأفغاني الذي يحرم المرأة من أيّة حقوق. أمّا التاريخ فيُروى من وجهة النظر الأميركية، بما في ذلك القضيّة الفلسطينيّة والصراع العربي الإسرائيلي. فنكبة العام 1948، هي مجرّد نزاع بين السكان اليهود والعرب انتهى بانتصار دولة إسرائيل (الوطن الأصلي لليهود). والمنطقة العربية والإسلامية هي مصدر العمليّات الإرهابية ضد الولايات المتحدة.
تتميّز المدرسة الأميركية بالنظافة والنظام والتجهيزات الماديّة عالية المستوى (تناسباً مع المصاريف الباهظة). كما تهتمّ كثيراً بالأنشطة المدرسية سواء الرياضية أو الفنية والترفيهية. ويسود المدرسة عامّةً الطابع الأميركي في طريقة لِبْس التلاميذ وطريقة كلامهم والتصرفات التي تصدر عنهم من دون قصد، وفق ملاحظات الباحثة.
مسخ مقابل مسخ
يخلو كتاب الإحصاء السنوي "المفصّل" الذي تصدره وزارة التربية والتعليم من أيّة معلومات عن عدد المدارس الأجنبية وعدد طلابها ومدرسيها. إلا انّ الوزارة في العام 2011 أعدّت إحصاء عن عدد المدارس الدوليّة الذي بلغ حينها 169 مدرسة، يتركز أغلبها في القاهرة وحلوان والإسكندرية و6 أكتوبر والجيزة. والجدير بالذكر أنّ العدد في ازدياد مستمرّ.
وبينما يرى كثيرون أن التعليم الأجنبي يؤدي إلى مَسْخ الهُويّة وتشتيت الانتماء، يرى آخرون أنه يقدم خدمة تعليمية متميّزة لا يوفّرها التعليم الحكومي المتدهور الذي يكون خريجوه محدودي المعارف والقدرات والمهارات، أي أنه يصنع مِسْخا من نوع آخر.
وعلى أية حال فالتعليم الحكومي ليس بعيداً تماماً عن "الأمركة"، إذ توجد تدخلات أميركية في المناهج الدراسية، وهناك المدارس الحكومية التي تدرّس اللغة الإنكليزية منذ المراحل التعليمية الأولى، وبعضها يدرّس العلوم والرياضيات بالإنكليزية أيضاً.
في مقابل قصور مناهج وطرق تدريس اللغة العربية، ما يؤدي إلى ضعف مستوى الطلاب في هذه المواد. كما يوجد أيضاً كتب "المعونة الأميركية" التي تملأ مكتبات المدارس الحكومية.
على مستوى الأفراد، يحار أولياء الأمور في أين يذهبون بأبنائهم من أجل تعليم جيّد. أمّا المقتدرون منهم فيُفضّلون التعليم الأجنبي معوّلين على دور الأسرة في التربية، وهو تعويل غير مضمون النتائج!
أما على المستوى الوطني، حيث تغيب الرؤية الموحّدة وتتعدّد أنواع التعليم من حيث اللغة والتكلفة وتبعيّة المؤسسات التعليمية، فالمحصّلة النهائية هي مزيد من التفكيك ومزيد من المُسُوخ.