شكّل وصول قيس سعيّد، الأستاذ الجامعي المغمور قبل الثورة، إلى قصر قرطاج بعدد من الأصوات قارب الثلاثة ملايين، مفاجأة ''غير مرغوب بها'' من قبل النخب التقليدية التي حكمت البلاد على مدى نصف قرن. لكن، وبحجم المفاجأة، جاءت الأسئلة التي أثارها هذا الانتصار الذي اعتبر بمثابة ''الشجرة التي أخفت الغابة''. فالسؤال المتكرر والمتواتر في تونس يتعلق بسبب انتخاب قيس سعيّد. تطرحه نخب الحكم والمعارضة معاً، وهي التي عرفت البلاد جل قياداتها وجرّبتها جميعاً، ويضاف إليهم جزء من النخب الفكرية والإعلامية صنيعة دولة الاستقلال وتجربة الانتقال الديمقراطي في الآن ذاته.
انفجار الشعور بالضيم
قيس سعيّد ليس ثورياً قديماً أو شيوعياً سابقاً، فتونس بلد يكره الثوريين والشيوعيين معاً، والإسلاميين أحياناً. كل ما في الحكاية أن الرجل مختص بالقانون الدستوري وأستاذ جامعي كثير الظهور التلفزي، يتكلم عربية فصحى وعميقة تمقتها النخب الفرنكوفونية ولا يتكلمها بشكل صحيح الجيل الحالي. ولكن، وفي الآن ذاته، فلغته العربية تثير إعجاب ''المجموعات المُهيمَن عليها'' (المُضامين الذين يشعرون بعدم الاعتراف بهم)، التي باتت الأغلبية بفعل سياسات الإفقار الممنهجة. ويضاف لهذه الأغلبية بمعناها العددي، شبيبة تبحث عن موجِّهاتها السياسية والهوياتيّة، وعن عرض سياسي يمتلك مصداقية ما. هنا تحديداً، لا يبدو الأمر متعلقاً بشخص قيس سعيّد بذاته، بل بسياق وصيرورة تحولات تعرفها البلاد منذ عقود، وربما تسارعت وتيرتها خلال الثماني سنوات الأخيرة التي بدت بمثابة "أزمنة المشاعر الحزينة''.. تزايد فيها الفقر والبطالة والفساد واللامساواة بين الفئات الاجتماعية وتصاعدت فيها (بلغة الفيلسوف الهولندي ''سبينوزا'') المشاعرُ الحزينة، حيث الغضب والخوف وهيجان الطوائف من كل نوع، والرغبة بالانتقام والشعور المتنامي بالاختناق والرغبة في مغادرة البلاد إلى أي مكان.
أزمنة المشاعر الحزينة هي التي جاءت بقيس سعيّد. لهذا، ولكي نفهم صعوده إلى سدة الحكم، فعلينا ألا نستغرق كثيراً في إحصاء عدد المصوتين، بل ربما يكون من الأفضل أن نتجه أكثر إلى فهم ماهيّة "أزمنة المشاعر الحزينة'' في تونس، وهي الأزمنة التي غالباً ما يسودها اللايقين والخوف من المستقبل الذي يغذي ازدهار الشعبويات من كل نوع. الديمقراطية التونسية، رغم المسافة القصيرة جداً التي قطعتها في التاريخ ، بدأت تفرز - وهذا مُفارِق - ما يمكن اعتباره بشعبويات المجموعات المُهيمَن عليها التي تُنازع من أجل الاعتراف، في ظل ما يسميه '' أكسيل هونيث" ب"مجتمع الاحتقار"، حيث التجارب اليومية للامساواة التي تُحكى على مسمع الجميع، كأن تموت فتاة صغيرة من شدة البرد في مدن الشمال الغربي، وأن تغرق تلميذة في وديان جندوبة، وأن يحرق شاب نفسه احتجاجاً على وضعه الشخصي المتردي، وأن ينتحر عدد من أطفال قرية العلا الفقيرة إلخ.. كل هذا خلق حالة فيضان لمشاعر الضيم. مدخل قيس سعيّد للسلطة كان، على غرار منافسه نبيل القروي، هو الاستثمارَ في سجل ''المشاعر الحزينة''. تحدث قيس سعيّد مرات عدة عن أشخاص مجهولين جاؤوه حفاة الأقدام من أنحاء تونس القصية والبعيدة إيماناً بحملته، وأكد تكراراً أن حملته لم تكن تشبه البقية من حيث البُهرج وقوة المال بل كانت "على ضهور الدواب". تصرف سعيّد كراهب أثناء حملته الانتخابية، كزاهد ثوري يشبه أبا ذر الغفاري، وربما كشيخ طريقة يحاول أن يجمع حوله الجميع.
انتخبت قيس سعيّد ''المجموعات المُهيمَن عليها'' (المُضامين الذين يشعرون بعدم الاعتراف بهم وبأنهم محتقرون)، التي يبدو أنها باتت الأغلبية بفعل سياسات الإفقار الممنهجة. ويضاف لهذه الأغلبية بمعناها العددي، شبيبة تبحث عن موجِّهاتها السياسية والهوياتيّة، وعن عرض سياسي يمتلك مصداقية ما.
جماعة قيس سعيّد كانوا يدركون جيداً أن التونسيين كرهوا اللصوص الجدد، وأن صراع الهويات لم يعد يعنيهم. ما يعنيهم هو شخص آت من بعيد.. بعيد عن السائد والمكرر، طُهريٌّ وصادق. في الآن ذاته، كانت جماعة قيس سعيّد تدرك أيضاً أن اللحظة التي يعيشها التونسيون بعد ثماني سنوات من سقوط بن علي تتسم ب''إحباط جماعي'' ويجب ترجمتها سياسياً عبر شخص من خارج المنظومة وعلى قطيعة معها.
لكن السؤال المُلحّ: هل يمكن أن يكون قيس سعيّد خارج المنظومة وعلى قطيعة معها؟ كي نجيب عن هذا السؤال لا يجب أن نقرأ النوايا بقدر ما أن نتجه إلى قراءة السياق الذي أنتج الرجل من جهة، وتحليل ما يمكن أن نسميه (بلغة الأنثروبولوجي جيمس سكوت) "التراث المخفي" للجماعات المُهيمَن عليها.
المقاومات التحتية: مسافة بين "النحن" و''الهم"
المقصود ب"الجماعات المُهيمَن عليها" هنا هو هؤلاء الذين لم يستطيعوا على نحو أو آخر الولوج إلى الفضاء العمومي المتشكِّل بعد الثورة، فشكلوا فضاءهم العمومي المضاد، وخلقوا لغتهم الخاصة التي من خلالها تُبتكر محاولات القطع مع فضاء عمومي تستحوذ عليه ''نخب البرجوازية الصغيرة'' المشكّلة من شرائح تربت تحت وطأة إيديولوجيا دولة الاستقلال، بما في ذلك القوى اليسارية. مكونات الفضاء العمومي المضاد المتشكل بعد ثماني سنوات من سقوط بن علي، هي من شبيبة حضرية غاضبة ومحبَطة، وحركات احتجاجية، وتجار شارع هاربون من الدولة، وكل الذين يقاومون من أجل الاستمرار في العيش. ببساطة هي "البروليتاريا الرثة". لكن الرِثاث في السياق الجديد هم هذه المرة شبان حضريون، متعلمون، ومنخرطون بشكل متحمس في قيم مجتمع الاستهلاك، ومنحازون كذلك إلى النزعات الفردية للعيش. كما أنهم يعادون الأنساق المغلقة، والخطابات الأبوية، ويسيطر عليهم الشعور بأنهم محرومون من أن يكونوا أفراداً بشكل كامل. لهذا تغلب على خطاباتهم النزعة الضدية أو ما يسمى إعلامياً "ضد النظام''.. وهي ضدية لا يمكن الوثوق فيها كثيراً، لأن الصراع الأساسي هو من أجل التموقع داخل النظام، بمعنى التموقع داخل نطاقات العمل والاستهلاك والمشاركة السياسية. لا يَطلب من انتخب قيس سعيّد الإطاحة بالنظام، إنهم يريدون فقط منظومة أكثر عدالة، وتضمن لهم الاعتراف، وتمكّنهم أكثر من أدوار سياسية ومدنية، وتتيح لهم أن يكونوا "مثل الآخرين".
هذا التحول لم تدركه القوى المهزومة انتخابياً، وأولها اليسار الحزبي التونسي الذي بقي متمترساً في بنيته الذهنية والسياسية القديمة. تجسد هذا الأمر عملياً عندما قدم شبان من مدينة قفصة على الأقدام نحو قصر قرطاج لمقابلة قيس سعيّد، من أجل أن يجد لهم عملاً. وجوه الشبان كانت متعبة ومرهقة بفعل البطالة أولاً وإرهاق السفر ثانياً. ما فعله الرئيس هو أنه عانقهم فرداً فرداً وبحرارة (زائدة عن اللزوم) ليحدّثهم فيما بعد عن أن التشغيل حق، وكأنه لم يقطع بعد مع حملته الانتخابية. لكن لا أحد يعرف إن كان الرئيس وجد حلاً عملياً لهؤلاء الشبان. بعدها ستتوافد جموعٌ نحو قصر قرطاج للمطالبة بالكرامة التي وعد بها قيس سعيّد. المطالبات كانت مرتفعة إلى حدود أن رفض قيس سعيّد مجموعة من العاملين في "الحظائر" (شكل من العمل الموسمي البخس في الوظيفة العمومية)، الذين اضطروا للاحتجاج بالقرب من قصر قرطاج.
مكونات الفضاء العمومي المضاد، المتشكل بعد ثماني سنوات من سقوط بن علي، هي شبيبة حضرية غاضبة ومحبطة، وحركات احتجاجية وتجار شارع هاربون من الدولة، وكل الذين يقاومون من أجل الاستمرار في العيش.
يكون قيس سعيّد بهذا أمام محنة السلطة الأولى، والمتمثلة في إيجاد أجوبة عملية للمسألة الاجتماعية. يدرك الرئيس أن صلاحياته لا تسمح له بتقديم أجوبة عملية، لكنه سيظل مجبراً على مواصلة اللعبة على الرغم من كل شيء. لعبةِ الشعارات الكبرى التي استطاع هو، وفريقه المحنك جداً - على الرغم من نفيه المستمر لوجود فريق حملة انتخابية - الدخول عبرها إلى قصر قرطاج.
كان فريق قيس سعيّد يدرك جيداً أن هناك اقتصاداً أخلاقيّاً للضيم بصدد التشكّل في تونس، في جغرافيات الغضب والنطاقات الاجتماعية المتروكة، أي مناطق الداخل وهوامش المدن الكبرى تحديداً، وكل ما هو خارج عن النطاق النخبوي والمؤسساتي. الاقتصاد الأخلاقي للضيم يعني أن الناس صاروا يؤولون معاناتهم ليس من منطلق طبقي بحت، بل معياري يتعلق بما هو "عادل وغير عادل". وهم لا يعيشون اللاعدالة بوصفها تعارضاً بين من يملك ومن لا يملك، بين من يُهيمِن ومن يُهيمَن عليه. بل يعيشونها كمسافة، مادية ورمزية في الآن ذاته، إزاء من هم داخل المنظومة بشكل مكتمل. الرهان هو أن ''نكون مثل الآخرين'' يعني أن يكون لنا ولوجٌ للحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية. وهذا ما كان يردده قيس سعيّد إبّان حملته الانتخابية: ''إن ما يريده أبناء القصرين هو أن يعيشوا مثلكم" .
تونس: الفقراء الجدد مستعدون لإشعال ثورة
09-12-2018
ثمة إذاً مسافة بين ''النحن و''الهُم''. وفي ظل الخيارات الليبرالية، صارت هذه المسافة الاجتماعية أبعد واتسعت الهوّة أكثر، وعلى ذلك، فلا يوجد عقد اجتماعي بين الدولة والمجتمع، وكل الذي وُجد منذ سنوات هو إدارة سيئة للبؤس الاجتماعي. النخب والمؤسسات الموجودة، سواء تلك سليلة المشروع الوطني لدولة الاستقلال - أو ما بقي منها - أو تلك التي أنتجتها تجربة الانتقال الديمقراطي القصيرة، لا تتيح إمكانية الحصول على الاعتراف وعلى العيش بكرامة. والذي حدث هو أن الحدود بين من هم في ''الخارج''، أي خارج المنظومة، ومن هم في ''الداخل'' صارت أكثر صلابة. بل الأنكى من هذا أن الولوج إلى المنظومة الاقتصادية والسياسية لم يعد يُبنى على مسارات الاستحقاق والجهد، مثلما تبلور ذلك في ظل إيديولوجيا الدولة الوطنية. العبور نحو ''الحياة'' صار يتم بطريقة سرية تقوم على أسس الشبكات ودائرة العلاقات الشخصية. المدرسة لم تعد هي مصعد الترقّي الاجتماعي مثلما كان يحدث. صار أسهل في تونس كي تكسب المال أن تسلك طريق التهريب من أن تسلك طريق المدرسة الطويل الذي يؤدي مباشرة نحو عالم البطالة. كثير من المهربين انخرطوا في الحياة السياسية بعد الثورة من خلال ما يسمى "بالمال الفاسد"، البعض بحثاً عن الحماية والاستثمار في السياسة، ليس بما هي "طريق لتحقيق الحرية"، بل بما هي طريقة مستجدة لتحقيق المكاسب الشخصية. هذا المناخ، وهذا التحول، خلقا زمنَ المشاعر الحزينة، بما هي حالة عاطفية للإدانة والخوف والكره المتبادل، والشعور بالاحتقار. وهي ليست فحسب مشاعرَ شخصية، بل أسلوب سياسي بصدد التوسع والانتشار. أي أن المسألة تتعلق أساساً باللامساواة.
الشعبوية الأخلاقية
تبلور اقتصاد أخلاقي لدى الشبيبة التونسية، وخاصة تلك التي تعيش في الهوامش، ولدى جزء آخر من الطبقة المتوسطة، شكّل نوعاً من المبادئ المعيارية التي تتيح تأويل التجارب المعاشة وتبرير الخيارات السياسية. اللغة التي طغت على من انتخبوا قيس سعيّد هي أنه "إنسان نظيف'' و''مثقف" ولا يعادي "المسار الثوري"، ويقبل بهوية المجتمع المحافظة. أعجب الكثيرون برفضه لفكرة المساواة في الإرث، ومحاولة استبدالها بفكرة العدل كما صيغت في المدونة الفقهية الإسلامية. لم يكن سعيّد يريد أن يجازف بموضعة خطابه في سجل خطاب المساواة، ذلك أن فكرة المساواة تُحيل إلى مجتمع الأفراد، وهو ما يتناقض مع النزعة المحافظة التي يتحرك هو في دائرتها، ويتناقض كذلك أيضاً مع الشعبوية الأخلاقية التي تسم خطاباته.
من ضمن تعريفات الشعبوية أنها لا تعني فقط معاداة النخب بل معاداة التنوع داخل المجتمع. لهذا رفض قيس سعيّد، كشعبوي أخلاقي، المثلية الجنسية باعتبارها حالة للتنوع، وجزء من الخيارات التي قد يقوم بها الأفراد. مطالب ''أنصار قيس سعيّد" بوصفهم حشداً، تتمثل أساساً في كون أن ثمة "نحن": نحن فقط من يمثل "الشعب الحقيقي"، والتناقض السياسي هو ثنائي (مانوي Manichean)، ذو خاصية أخلاقية، لا يناقض بين اليمين واليسار مثلما جرت العادة، ولكن بين ما هو صحيح وما هو خاطئ. وضمن هذا التناقض ثنائي القطبية تحديداً اجتمعت حشود اليسار واليمين حول قيس سعيّد، وهو أمر يؤكد أن اليسار التونسي رخو، لم يبلور هويته المميزة، وقد ظلت قواعده على تخوم الحدود مع القوى اليمينية، وذلك لكونه لم يخض أبداً معاركه على قاعدة الرهان الثقافي، بل على ما هو اقتصادي.
في ظل الخيارات الليبرالية، صارت المسافة الاجتماعية بين الـ"نحن" والـ"هم" أبعد، واتسعت الهوّة أكثر. وعلى ذلك فلا يوجد عقد اجتماعي بين الدولة والمجتمع. كل الذي وُجد منذ سنوات هو إدارة سيئة للبؤس الاجتماعي.
كما تمثلت الشعبوية الأخلاقية لقيس سعيّد ومريديه في معاداة الديمقراطية التمثيلية، حيث رددوا دائماً أن الشعب ممثَلٌ عبر نخب سيئة وفاسدة لا بد أن ترحل كلها. عملت أيضاً هذه الشعبوية بشكل نسقي على لعبة إعادة البناء الرمزي لفكرة "الشعب" من خلال شعار "الشعب يريد"، وتكرار قيس سعيّد المستمر لعبارة "الشعب التونسي العظيم". إعادة البناء الرمزي هذه تتم أساساً ضد المؤسسات الموجودة: الأحزاب والتنظيمات والإعلام، وأحياناً ضد الدولة. "حالة الوعي" لدى حشود قيس سعيّد اندرجت في هذا الإطار. لم تكن فقط تطوعاً، بل ردة فعل ضد المؤسسات، بما في ذلك مؤسسات الدولة.
شعبوية قيس سعيّد وشعبوية الإسلام السياسي
الشعبوية في تونس ليست مستجدة ولم تظهر مع حالة قيس سعيّد. بل هي قديمة تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي عندما رفع الإسلاميون شعارهم الشعبوي "الإسلام هو الحل". شعبوية الإسلاميين حينها كانت وليدة "توعك في المشروع الوطني" في حين أن شعبوية قيس سعيّد هي وليدة "توعك في مسار الانتقال الديمقراطي" الذي تعيشه تونس منذ ثماني سنوات. فالشعبوية تولد دائماً من رحم الأزمات الكبرى. تلتقي شعبوية قيس سعيّد مع شعبوية الإسلاميين المستمرة حتى الآن، والتي تصاعدت مع صعود تيار "ائتلاف الكرامة"، في كونهما مدفوعين بالطموح المستمر للتمكن من جهاز الدولة وإضعافه في الآن ذاته، والعمل على هدم الذاكرة السياسية وإعادة تركيبها وفق مقتضيات إيديولوجية بحتة. ليس من دليل على ذلك سوى حالة الكره السياسي التي يكنها قادة "ائتلاف الكرامة"، وجزء كبير من جمهور الإسلاميين للزعيم الحبيب بورقيبة كرمز لمشروع الدولة الوطنية، ولاتحاد الشغل بوصفه جزءاً من هذا المشروع. الكره والعدائية هي من سمات زمن المشاعر الحزينة، ولهذا ستتسم المرحلة القادمة في تونس، في ظل شعبوية الإسلاميين وشعبوية قيس سعيّد، بتحقير كل السلطات المضادة داخل المجتمع المدني (الاتحاد العام التونسي للشغل والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات إلخ..) أو في الإعلام. تبرير الشعبويين يقوم على أن "على الشعب أن يمتلك دولته"، وهو ما يتقاطع تحديداً مع شعار قيس سعيّد الانتخابي المتمثل في "أن الشعب يجب أن يرتقي لمستوى القرار".
هذه الشعبوية هي مقدمة '' لفاشية داخل الديمقراطية" حيث ستُتهم القوى المضادة في المرحلة القادمة بكونها مدعومة من القوى الأجنبية، وهو الأمر الذي لن تسمح به "ديمقراطية أصيلة"، ما سيؤدي إلى صناعة أعداءَ داخليين وخارجيين في الآن ذاته.
عدو حميم للديمقراطية
سادت خلال الحملة الانتخابية الرئاسية بعض التحليلات التي اتجهت إلى "نفسنة" ظاهرة قيس سعيّد، فاعتبرته شعبوياً يعيش في عالم سياسي مُتخيّل، وهذا ما يعني أنه لن يكون قادراً على الحكم. فخطاب أنصاره كان خطاباً ضدياً ورافضاً وعلى قطيعة مع المنظومات التقليدية المهيمنة. هذه القراءة مبتسرة، ذلك أن الخطاب التبسيطي لقيس سعيّد هو الذي أكسبه مصداقية والكثير من الأنصار. لكن هذه المصداقية في سياق الخطاب الشعبوي هي بمثابة طيف عابر لا يمكن أن يستمر طويلاً في المشهد السياسي، خاصة حين يصطدم بواقع الأزمة الذي انبثق منها. الإجابات التي حاول قيس سعيّد تقديمها لأزمات تونس تبدو تبسيطية وماكرة في الآن ذاته، لهذا فهي ستكون مدخلاً لأزمات قادمة. كي نفهم تلك الشعبوية، لا بد إذاً من وعي الديمقراطية في تونس من حيث انزياحاتها الممكنة التي تتيح التلاعب، والتزيّيف، وكل أشكال الالتباس وعدم الاكتمال. لكن الديمقراطية تظل دائماً صيرورةً غير مكتملة، وهذا ما يجعل الشعبوية مكوّناً أساسياً من مكوناتها ومنتَجاً من منتجاتها، وليس مجرد ''وباء خارجي" يتهددها. إن الشعبوية ''عدو حميم للديمقراطية"، وقفاها المنحرف (بحسب عبارة تودوروف)، حيث السعي المستمر للانخراط الفوري والكلي للقواعد الشعبية، والدفاع الدائم عن سيادة الشعب دون حماية الحريات الفردية. يبدو قيس سعيّد على هذا النحو "عدواً حميماً للديمقراطية" التونسية في ظل تمدد التيار الديني والمحافظ برلمانياً، واستمرار نهج الخيارات الاقتصادية الليبرالية. هذا المعطى سيُنتج خلال السنوات الخمس القادمة حالة "قلق كبرى"، و يعمق الإحباطات الكامنة.