شكلّت «محكمة الإرهاب» التي أنشأتها السلطات السورية بدلاً من محكمة «أمن الدولة العليا»، وفقاً للمرسوم الرئاسي رقم 22 العام 2012، واحدة من أهم الإجراءات الإصلاحية المتحققة بفضل الضغوط الشعبية الداخلية، وضغوط القوى الخارجية، إثر اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس 2011. ومع هذا، لم يختلف الدور الذي لعبته هذه المحكمة عن الدور المنوط بمحكمة أمن الدولة سابقاً، أي بالدرجة الأولى محاكمة السوريين بتهمة الانخراط في نشاطات الحراك الشعبي، هذه المرة تحت قائمة «الإرهاب» و«الجماعات المسلحة».
تقع محكمة الإرهاب في مبنى وزارة العدل على أوتوستراد المزة في دمشق. ومن يدخل تلك المنطقة يدرك مباشرة بأنه انتقل إلى مكان أمني بامتياز، لا يختلف عن حال الفروع الأمنية الكثيرة المنتشرة في سوريا. فأول ما يواجهه هو الحواجز والتفتيش وتدقيق البطاقات الشخصية وتسجيل الدخول الذي يكون لفترة محددة ومُراقبة.
وقد يُمنع العديد من القادمين من الدخول، وخاصة أهالي المعتقلين، وفي كثير من الأوقات يُمنع حتى المحامين من دخول المحكمة. يؤكد القضاة المعيَّنون من قبل الدولة في المحكمة، بأنهم غير مسؤولين عن هذه الإجراءات، وهي خارج نطاق صلاحياتهم، فعناصر الأمن الموجودة لا تتبع لهم ولا تنفذ أوامرهم، وإنما تتبع جهات أمنية يتلقون منها الأوامر مباشرة. يذكر أحد المحامين الناشطين، والذي يتولى الدفاع عن الكثير من المعتقلين بأن «هذه الإجراءات هي أشد مما كنا نعانيه في محكمة أمن الدولة العليا السيئة الذكر، وتقارَن بالمحاكم الميدانية، لأن المحامين أساساً لا يُسمح لهم بحضور المحاكمات بالمحاكم الميدانية والدفاع عن المتهمين».
معلومات
وحسب آخر الإحصائيات المسربة من محكمة الإرهاب - وهي غير مؤكدة تماماً - فإن هناك أكثر من مئة ألف متهم ترد اسماؤهم ضمن ملفات، بعضها يتضمن أكثر من مئة متهم للملف الواحد، قسمٌ منهم لم يتم توقيفهم بعد، وقسم آخر أحيلت ملفاتهم للمحكمة من دون أن يُحال الأشخاص الذين ما زالوا بالفروع الأمنية. وهناك حوالي أربعة آلاف متهم أحيلوا موقوفين مع ملفاتهم.
ويتابع المحامي: «لقد باشرت النيابة العامة بدراسة الملفات الكثيرة المحالة أمامها دون السماح للمحامين بمتابعة أوضاع المعتقلين، حتى أن إدارة سجن النساء رفضت تنظيم وكالة لنا كمحامين لـ«متهمة» محالة إلى محكمة الإرهاب، على الرغم من أني طالبتُ بإذن من المحكمة لتنظيم الوكالة، رغم مخالفة هذا الموضوع للقانون». يعيش المحامون صراعاً كبيراً أمام الظروف غير الإنسانية التي يشهدونها يومياً لكثير من الشابات والشباب السوريين المتهمين بـ«الإرهاب»، و«بمحاولة زعزعة كيان الدولة» نتيجةً لنشاطهم المدني في الحراك الشعبي. وهم مدركون أن دورهم كمحامين هامشيٌ جداً أمام غياب الحد الأدنى من الحرية التي تمكّنهم من الدفاع عن المتهمين، إلا أن شعورهم بمعاناة المعتقلين وأهاليهم، وإمكانية التخفيف منها ولو جزئياً، ولو بتطمين الأهل عن أبنائهم، يجعلهم يستمرون في عملهم بالرغم من المضايقات. ولكن تبقى الأسئلة مثارة: «هل علينا أن نقبل الترافع عن المتهمين أمام محكمة استثنائية غير ملزمة باتباع الأصول والقوانين؟ ولكن عن أي قانون نسأل؟ والمحكمة معفية من التقيد به بقانون إحداثها! هل نقبل بمنح شرعية قانونية لمحكمة تفتقد هذه الشرعية ولا تتوفر بها شروط المحاكمة العادلة من حيادية ونزاهة وعدالة وحق الدفاع والقضاء الطبيعي؟».
معاناة المحامين والأهالي
يعاني المحامون من المضايقات وقائمة الممنوعات التي تُصعّب من العوائق أمام عملهم وتزيدها، فلا يُسمح مثلاً للمحامي بالتحدث مع موكله في المحكمة، ولا حتى بالاطلاع على ملف القضية قبل الاستجواب، أو تصوير الملف. إضافة لذلك شعور المحامين بالعجز أمام المعتقلين الذين يُقدَّمون للمحكمة بأوضاع مزرية، فكثير منهم يكونون بدون ثياب داخلية، وحفاة، وتفوح منهم رائحة نتنة نتيجة حرمانهم من الاغتسال. وغالبيتهم مصابون بالجرب، والدمامل المقيحة تملأ أجسادهم. هذا عدا عن الألم النفسي والخوف الذي يعانيه المعتقل جراء التحقيق عند قاضي التحقيق في محكمة جنايات الإرهاب، والذي يجري بشكل بوليسي مع إعلان القاضي جهاراً أنه مع النظام أثناء الاستجوابكما يعاني أهالي المعتقلين من ارتفاع كفالة إخلاءات السبيل لأبنائهم التي تصل إلى ثلاثمئة ألف ليرة سورية، أي ما يعادل ألفاً وخمسمئة دولار أميركي، وهو مبلغ كبير بالنسبة للعائلات السورية عموماً. وقد تحوّل موضوع الكفالات إلى تربة خصبة لعمليات الفساد والسمسرة والنصب، وحالات الإثراء السريع عن طريق إرهاق الأهالي بكفالات مالية ضخمة، واستغلال استعدادهم لدفع أي مبلغ مقابل إخراج أبنائهم من المعتقلات.
إضافة إلى ذلك، فإن بعض المحامين جعلوا من موضوع الوكالة للترافع عن المعتقلين مصدر إثراء لهم: تذكر عائلة أحد المعتقلين بأن «إحدى المحاميات تقاضت مقدماً مبلغ مئة وخمسين ألف ليرة سورية بوكالتها عن ابننا، وعندما وافق القاضي على إخلاء سبيله بكفالة خمسة آلاف ليرة سورية، رفضت أن تدفع مبلغ الكفالة قبل الحصول على مبلغ مماثل للذي أخذته مسبقاً منا. أوضحنا لها عدم تمكننا من تأمين هذا المبلغ، ووعدناها بإعطائها المبلغ فيما بعد، إلا أنها أصرّت على الدفع لها قبل دفع الكفالة للقاضي».
... ومعلومات مجدداً
بلغت أعداد الذين تمّت محاكمتهم أو ينتظرون المحاكمة ما بين 50 إلى 70 ألف معتقل، وقد تصل الأحكام في حالات كثيرة إلى الإعدام. ويقبع الآن آلاف المتهمين المحالين إلى المحكمة في سجن عدرا، والبعض الآخر في الفروع الأمنية، بينما هناك قسمٌ آخر ممن هم خارج سوريا أو من المطلوبين أمنياً ومتخفون داخل البلاد. كما يوجد حالياً 550 قضية نظرت بها المحكمة وتنتظر صدور الأحكام، وهي تشمل أكثر من ألفي معتقل، بينهم حوالي 25 امرأة. ومع كل ضبط يُنظم بحق أي معتقل تتم إحالته إلى محكمة قضايا الإرهاب، يطلب الأمن من المحكمة إلقاء الحجز على أموال المعتقل وممتلكاته ومنع سفره، حتى ولو كان جرمه التظاهر أو الكتابة على فيسبوك أو تشكيل جميعة سرية. وفي الآونة الأخيرة، يبدو أن توكيل المحامي لم يعد يجدي نفعاً أمام تشديد الإجراءات المتخذة من قبل قضاة المحكمة تجاه المعتقلين والموقوفين، وبات التوقيف ورفض طلبات إخلاء السبيل السمة البارزة للتغير الحاصل في المحكمة.
أثبتت تجربة محكمة الإرهاب حتى اللحظة، بأنها وجه آخر لمحكمة أمن الدولة التي تم إلغاؤها باسم الإصلاح. فلا فرق بينهما لا من حيث قرار تشكيلهما، ولا إجراءات التقاضي أمامهما أو صلاحياتهما والأحكام الصادرة عنهما. فاستقلال القضاء عن السلطة التنفيذية كجزء من مشروع الإصلاح القضائي، وهمٌ في ظل أي نظام استبدادي.