العشوائيات في العراق.. مدن المنسيين المنسية

هناك نحو 3700 موقعاً عشوائياً عراقياً حسب أرقام وزارة التخطيط، يقطنُها ما يُقدر بـ3 ملايين نسمة، وهي تتوزع على مختلف المحافظات. وللعاصمة بغداد الحصة الأكبر، بنحو ألفٍ من المواقع العشوائية، تليها البصرة بـ 700 موقعاً. و"منطقة التجاوز" هي المفردة الشائعة في العراق لإسم العشوائية.
2019-12-12

ليث ناطق

إعلامي من العراق


شارك
| en
رائد شرف - لبنان

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

على إثر الإحتلال الأمريكي لبغداد في العام 2003، طرحت مشكلات كبيرة، من بينها الاستيلاء على مقرات حكومية وشغلها من قبل عوائل لا تمتلك سكناً، وهي تتحدّر من محافظات متعددة، أغلبها جنوبية. وتطور الأمر في أيام معدودات ليصبح تمدداً على المساحات المتروكة في المدن المركزية، كبغداد والبصرة، لتبدأ رحلة تَكوّن عشوائيات الحاضر.

ليست المرة الأولى

سبق لبغداد - خصوصاً - أن شهدت ولادة أحياءً عشوائية، أهمها تلك التي بُنيَت بالطين على هامش العاصمة من الجهة الشمالية الشرقية.كان نزوحاً من فلاحي محافظات الجنوب، وبالأخص العمارة، وكان يطلق عليها مناطق "خلف السدة". وهذه تحولت، بعد ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 وإعلان الجمهورية، إلى المدينة الجديدة التي شيدت عام 1959 على شكل منازل صغيرة متشابهة التصميم، لإيواء سكان "خلف السدة"، وصار اسمها مدينة "الثورة". ثم شاء صدام أن يطلق عليها اسمه، بلا نجاح كبير، الى أن سميت مدينة "الصدر" تيمناً بالسيدين محمد باقر الصدر (أعدم في 1980) ومحمد محمد صادق الصدر، والد مقتدى الصدر، الذي اغتيل في 1999. وبقيت لليوم تعرف باسم مدينة الثورة/الصدر.

عشوائيات ما بعد 2003 لا تشبه تلك الأولى، لأنها أكبر حجماً وأكثر تناثراً من سابقاتها. فعلى أرض العشوائيات الأُولى - "خلف السدة" - مثلاً تمددت أحياء عشوائية كبيرة، وصار الواحد منها يجاور الآخر. وهي إن اختلفت عن بعضها بشيء، فـ"بدرجة" عشوائيتها.

هناك مساحات مشيدة على أراضٍ زراعية تمّ بيع قطعها للناس من قبل مالكيها أو من قبل جهات حزبية وميليشياوية متنفذة. وهناك أخرى بنيت بطريقة متجاوزة بالكامل، تعود ملكية أراضيها للدولة أو لجهات وأفراد من غير ساكنيها.

"خلف السدة".. من جديد

خلف الحدود الشرقية لمدينة الثورة / الصدر تتراصف مناطق "خلف السدة" وهي مشيدة على أرض ظلت لفترات طويلة إما مزروعة أو مكباً للنفايات (إذ يلاحظ زائرها من غير عناء اختناق الهواء برائحة النفايات والمياه الآسنة). يبرز عدم انتظام الشوارع الفرعية، حيث يبدأ بعضُها بعرض 3 أمتار، وينتهي بمتر واحد، نتيجة عدم وجود أي تخطيط لها. تكاد تفتقر جميعها للخدمات والبنية التحتية، حتى بعد مد خطوط الكهرباء والماء في بعضها، فهي خدمات مضافة لصقاً ولم تكن بحسبان التخطيط العمراني للمدينة، ومقتطعة من حصة المدن الرسمية، ما يؤثر على تزويد هذه الأخيرة.

وليست جميع الأحياء العشوائية مشيدة في مساحات خارج المدن، فهناك الكثير منها انبثقت في قلب المدينة مستغلة الساحات الصغيرة الخضراء أو المساحات التي تُركت فارغة لتتنفس منها الأحياء المشيّدة بشكل قانوني. ففي قاطع بلدية الكرادة والزعفرانية وحده (منطقة الكرادة إحدى المناطق المركزية في العاصمة بغداد)، هناك 43 موقعاً لمناطق عشوائية ومتجاوزة تضم نحو 24500 وحدة سكنية حسب مصدر مسؤول في دائرة بلدية الكرادة.

تمثل جميع العشوائيات عبئاً مضاعفاً على الموارد والبنية التحتية التي لم تشهد توسعاً أو إدامة مناسبة.. كما لم تشهد مشكلة تزايد العشوائيات علاجاً حكومياً مدروساً، وتُركت لتتضخم مع التضخم السكاني الذي يسجل نحو مليون ولادة في العام الواحد.

تكاد جميع العشوائيات الجديدة تفتقر للخدمات والبنية التحتية، حتى بعد مد خطوط الكهرباء والماء في بعضها، فهذه خدمات مضافة "لصقاً" ولم تكن بحسبان التخطيط العمراني للمدينة، وهي مقتطعة من حصة المدن الرسمية، ما يؤثر على تزويد هذه الأخيرة بها.

وهناك مناطق شُيّدت على مساحات محظورة كالتي تختبئ تحتها كميات كبيرة من النفط، وقد تمّ تشخيصها بوضع صلبان تشير لكونها أرضاً نفطيةً تابعة للدولة، كعشوائيات "علوة زويني" قرب ساحة 83 الملاصقة لمدينة الثورة/ الصدر. وإذا جرّب أحدٌ زيارة تلك المناطق أياً كان مقصدُه، ستقابله بالضرورة مشاهد كثيرة لا يدري عنها المسؤولون شيئاً.

صورة إما حية أو...

يركض الطفل بسرعة، عاري القدمين، قاطعاً شبه الشارع، العاري هو الآخر من تعبيد أو رصيف ليبدو كمساحة من التراب والنفايات. بالكاد سيمكن تمييز قميص الطفل الذي يحاول أصدقاؤه اللحاق به، فهو نسخة تجارية من "فانيلة" نادي ريال مدريد الإسباني المعروفة بلونها الأبيض والخطوط الكحلية على أطرافها، قبل أن تتحول على جسد الطفل إلى ألوان أخرى عديدة بفعل الأغبرة والأوساخ.

هجر الأطفال الخمسة مدارسهم إلّا واحداً. كان عُمرُ أكبرِهم لا يتجاوز أحدى عشر سنة، ما يعني أنهم أحدثُ عهداً من منطقة سكناهم الصغيرة المشيدة ب"الطابوق" (حجر مفخور) القديم وصفائح الحديد (الزينكو) وكثير من النفايات، والواقعة تحت أحد خطوط النقل العالي للطاقة الكهربائية الرئيسية في "حي الرسالة" جنوب غربي العاصمة بغداد.

لا يتجاوز عديد بيوت هذا الحي ال 30 منزلاً. وهو ينتمي إلى نحو 3700 موقعاً عشوائياً عراقياً حسب أرقام وزارة التخطيط، يقطنُها ما يُقدر بـ3 ملايين نسمة، تتوزع على مختلف المحافظات. وللعاصمة بغداد الحصة الأكبر بنحو ألفٍ من المواقع العشوائية، تليها البصرة بـ 700 موقعاً. تمثل جميعُها عبئاً مضاعفاً على الموارد والبنية التحتية التي لم تشهد توسعا أو إدامة مناسبة، كما لم تشهد مشكلة تزايد العشوائيات علاجاً حكومياً مدروساً، وتُركت لتتضخم مع التضخم السكاني الذي يسجل نحو مليون ولادة في العام الواحد.

من المحاولات القليلة الرعناء للتعامل مع مشكلة العشوائيات، الحملة التي بدأتها الحكومات المحلية والبلديات وأمانة العاصمة لإزالة التجاوزات، فباشرت بتهديم بعض المنازل دون توفير بدائل سكنية!

لا يتشابه سكان تلك العشوائيات بمهنهم أو بخصائصهم الاجتماعية، لكنهم في الغالب لجؤوا للسكن في تلك الأحياء نتيجة تردي حالتهم الاقتصادية ولصعوبة تملّك أو استئجار منازل في المدن لارتفاع تكلفتها. يعمل أغلبُهم في أعمال حُرة أكثرُها شاقة كالبناء الذي لا يدرّ على عامليه مردوداً كافياً، وهو متقطع. لكنهم يتشاركون جميعاً العيش في مناطق ترابية الشوارع, تفتقر لأبسط مقومات العيش البشري،ولم تزُرها الخدمات اللائقة يوما،ما يساهم بتضاعف المشكلات التي تشهدها تلك المناطق والتشوهات التي تصيب بنيتها الإجتماعية.

ملامح مشوّهة

في الجهة الجنوبية الغربية من كرخِ بغداد، وخلف منطقة "حي التراث" التي لم تُعبد كاملُ شوارعها، هناك كمٌ هائل من العناء والتعقيد والمشكلات، يمتد على مساحة المنطقة العشوائية التي يقطنها أناس أكثرهم أبناءعمومة وأخوة، من عشيرة واحدة تسيطر على هذه المساحة، حتى سُميت المنطقة العشوائية المجاورة لحي التراث تلك باسم عشيرتهم.

يصف علي محمد صبري, وهو أحد سكان منطقة التراث السابقين، تجربته بالسكن وعائلته هناك، بالمرعبة حين يستذكر أحد الأسابيع الذي امتد فيه القتال وملأه الرصاص بسبب خلاف داخلي بين أبناء العشيرة تلك التي يسكنُ أبناؤها في "منطقة التجاوز"– وهي المفردة الشائعة في العراق لوصف المناطق العشوائية. يستذكر عدمَ مقدرته على الخروج من المنزل وقتذاك وعدمَ ذهابه لتأدية بعض امتحاناته الجامعية، ويقول "تخلّصنا من تلك التجربة بصعوبة، لأن منزلنا في حي التراث كان سعرُه منخفضاً ولم يرغب أحدٌ بشرائه".

ليست هذه حادثةً فريدة. ففي ظل تراجع دور أجهزة الدولة، تتفاقم سلوكيات قوىً بديلةٌ لقوةِ القانون. والأقرب هي العشيرة، وهذاما يبدو جلياً على حياة مناطق التجاوز التي تشهد بين حين وآخر معارك بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة بسبب خلافٍ عشائري قد يتسبب بتعطيل الحياة العامة في المنطقةِ ساحةِ الحرب ويحرم سكانها من العاملين بأجرٍ يومي –وهم الأكثرية- من الخروج من أجل قوتهم، وأطفالَها من الإلتحاق بمدارسهم..الشحيحة أصلاً.

الغد المجهول

بالإضافة للافتقاد لسلطة القانون وللمياه الصالحة والكهرباء، تشكو المناطق العشوائية شُحاً بالمدارس، فيضطر العدد الأكبر من أطفالها إلى السير مسافات طويلة من أجل الوصول إلى أقرب مدرسة في المناطق السكنية المجاورة، بينما يسير الطفل الذي لا يلتحق بالمدرسة إلى عمله.

أجبرت الحكومة على العودة لما تُطلق عليه "الإشتراك المؤقت" مقابل أُجور،والذي يلزم وزارة البلديات وأمانة العاصمة بتوفير المياه الصالحة، ووزارة الكهرباء بتجهيز الطاقة الكهربائية لحين إصدار قانون التجاوزات السكنية العالق في مجلس النواب منذ عام 2017.

وهذا ينطبق على الخدمات الصحية، حيث تعاني العشوائيات العراقية غياباً للرقابة والرعاية الصحيتين إلّا البعض القليل منها، حيث افتُتحت مستوصفات صحية فقيرة الإمكانات، لأن السلطات المسؤولة اضطرت للإعتراف بملكية ساكنيها لها على الرغم من فوضوية تخطيطها.

ومع غياب التخطيط المناسب والجدية الكافية في البحث عن حلول لأزمة العشوائيات، وإنجاد أهلها من حالة انعدام الحياة، لايبدو الغدُ إلّا مجهولاً،على الرغم من المحاولات القليلة الرعناء، وكانت آخرها الحملة التي بدأتها الحكومات المحلية والبلديات وأمانة العاصمة لإزالة التجاوزات، فباشرت بتهديم بعض المنازل على أهلها دون توفير بدائل سكنية، ما أثارغضب الرأي العام على الإجراء الذي وُصف بالتعسفي.

وهكذا أجبرت الحكومة على العودة لما تطلق عليه "الإشتراك المؤقت" مقابل أُجور، والذي يلزم وزارة البلديات وأمانة العاصمة بتوفير المياه الصالحة, ووزارة الكهرباء بتجهيز الطاقة الكهربائية لحين إصدار قانون التجاوزات السكنية العالق في مجلس النواب منذ عام 2017.

لكن واقع المدن العراقية جميعها يفتقر لتوفير هذه الخدمات بالدرجة الكافية، وهي تمثّل للناس عُقدةً ما انقطعت معاناتهم من نقصها..

محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

مقالات من العراق

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

"اللا حياة" العراقية.. التجهيل الذي يحوّل كورونا إلى خرافة مميتة

ليث ناطق 2021-06-10

لماذا يغيب الوعي الصحي عن المجتمع العراقي؟ الإجابةً تستدعي مجموعةً أخرى من الأسئلة: لماذا يتراجع مستوى الرعاية الصحية، وتتردى الصحة العمومية؟ أين المستشفيات والمراكز الصحية الصالحة؟ كيف يسكن العراقي ويشرب،...