حوار إلكتروني في آخر الليل عن الطائفية ومثقفيها والثورة في سورية ثائر ديب - ....
- قارئ على فيسبوك: عندي سؤال بخصوص بعض كتاباتك. لست مثقفاً، لكني أتابع ما تكتب. أنا مهندس. أنت، عندما تتناول موضوع الطائفية، تتناوله بشكل نظري. والكلام عادةً ما يكون على الطائفة العلوية، وكلنا مؤمنون بأن هذه الطائفة ليست هي التي تحكم. سوف أصوغ سؤالي من خلال مثال: في علم النفس عموماً، وعلم النفس الجنائي خصوصاً، لدى الأبيض استعداد للجريمة مشابه لاستعداد الأسود، لكن أغلب المجرمين في مدينة نيويورك، مثلاً، هم سود، فهل لو قلنا إن أغلب الشبّيحة علويون، كمثال، يكون هذا كلاماً طائفياً؟ أم إنه تقرير لما هو في الواقع؟ أقصد إنني كمهندس أميل إلى العلوم التطبيقية، والمشكلة في سورية حالياً تحتاج حلولاً عملية، فما فائدة أن أكرر أنَّ الطائفة لا تدخل في تركيبها نفسه نزعة القتل والاعتداء على الآخرين؟ وهل يفيد هذا في حمص، تحديداً، التي وقعت فيها جرائم ذات طابع طائفي؟ أليس الافضل أنّ أقرّ بأن هذه الجرائم طائفية وأبحث عن الحلول؟
- ثائر: هذا مثال ممتاز. لكني لن أكتفي بما قلته، بل سأكون «كريماً»، وأفترض أنّه ليس هناك مجرمون في نيويورك إلا من السود، ما رأيك؟
- المهندس: حسناً!
- ثائر: لا أحسبك تظنني من السذاجة بحيث أعتبر أن لا وجود للطائفية والطائفيين! نحن كلانا نقرّ بوجود الطائفية والطائفيين، وإلا لما كنت سمعت مني كلمة واحدة عن هذا الأمر. لكن المشكلة ليست الإقرار بوجود الطائفية، بل كيف نفهمها كي نعالجها. أنت تبحث عن حلول عملية، غير أنّه من دون فهم المشكلة علمياً قد تكون «الحلول» جاهلة ومدمرة. دعنا نعد إلى مثالك وزيادتي عليه إنَّ السود فقط مجرمون. قلتَ في مقدمتك: لدى الأبيض استعداد للجريمة مشابه لاستعداد الأسود. وهذه حقيقة علمية لا يماري فيها إلا عنصري جاهل تماماً. السواد لا يفسّر الجريمة ولو كان جميع المجرمين سوداً وليس أغلبهم فقط، هل هذا صحيح؟
- المهندس: طبعاً.
- ثائر: علينا، اذاً، أن نبحث عن تفسيرات أخرى للجريمة غير السواد.
- المهندس: نعم. معك، تفضّل.
- ثائر: حسنٌ، لنقلب الأمر الآن، ما رأيك بمن يقول: حين نتخلص من السود تنتهي الجريمة؟ هذا كلام عنصري، أليس كذلك؟
- المهندس: طبعاً.
- ثائر: والعنصري لا يمكن أن يكون ثورياً، على العكس، هو يفسد الثورة.
- المهندس: ولكن هل الإقرار بأن أغلب المجرمين من السود يجافي الحقيقة؟
- ثائر: لقد قبلتُ معك أنَّ جميع المجرمين سود وليس أغلبهم فقط. لكنك قبلتَ معي إنَّ القول إنَّ «جميع المجرمين سود» لا يكافئ القول إنَّ «جميع السود مجرمون» أو إنَّ «السود وحدهم مجرمون»، أليس كذلك؟
- المهندس: صحيح
- ثائر: المشكلة هي الجريمة إذاً، وليس السواد، مع ترك أذهاننا مفتوحة على احتمال أن يجْرِم بعض البيض أو جميعهم ربما. هذا يجب أن يدفع إلى طريقة في التعامل مع الإجرام وأسبابه خارج السواد تماماً، أي ليس في سواد السود بل في الظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والنفسية التي تولّد الجريمة عموماً، ثم نهتمّ بتلك الحالة الخاصة للجريمة عند السود، والتي هي تفريع مما هو عام. وهذا بحث علمي وليس طائفياً. عند الطائفي، كلُّ أسود مدان إلا بعض الاستثناءات. أمّا عند العلمي، فليس مداناً إلا المجرم الذي تغلّبت عليه تلك الظروف المشار إليها، بصرف النظر عن لونه، أسود كان أم أبيض، فما بالك لو كان عدد المجرمين البيض أكثر مما تتصور بكثير مع أن ظروفهم افضل. وأحبّ أن أذكرك بأنّك أنت من أشار بحقّ إلى نيويورك، أي إلى مكان محدد، وإلى زمان محدد تالياً. هنا لبّ المشكلة: بين تحليل طائفي للطائفية، اذا جازت تسميته تحليلاً، وبين تحليل علمي لها. وهذا تترتب عليه نتائج عملية وممارسات وتكتيكات واستراتيجيات مختلفة تماماً. كان على الثورة، مثلاً، أن تبقى حتى النهاية، ومهما حصل، فاتحةً حضنها لكلّ من لم ينضم إليها، لكنها اختارت، بل اختار أدعياؤها الذين لهم المنابر الإعلامية جميعها، شتم الجيش والعلويين كما شتموا حلب وغيرها قبل انضمامها إلى الثورة، ونحن ندفع الآن ثمن كلّ ذلك بسبب النظام الوحشي أولاً وثانياً وثالثاً، وبسبب هذه الأخطاء أو الخطايا رابعاً وخامساً. وبالمناسبة، كثير من «ثوريينا الكبار» منطقهم طائفي. عداك عن المهسترين الثوريين، خاصةً أولئك الذين كانوا حتى هذا الصباح في قفا النظام أو في جبهته «الوطنية التقدمية»، وفي ظنّهم أنهم أفاقوا على «الحقيقة»، لكنهم لم يفيقوا سوى على وهمٍ هو مقلوبُ وهمهم السابق ووجه عملته الآخر، مثلهم مثل المتأسلم الذي يشتم الغرب ومستشرقيه مع أنّ رؤيته للإسلام نسخة مبتذلة من نظرة الغرب ومستشرقيه إلى الظاهرة ذاتها.
- المهندس: دعني ألخّص كلامك وأسقطه على الحالة السورية بوضوح: «أغلب» العلويين مع النظام لأسباب تاريخية اجتماعية اقتصادية وسياسية وربما مذهبية، وليس بحكم التركيبة الإنسانية.
- ثائر: لا لم أقل هذا بعد، وليس صحيحاً بالمناسبة. لقد استخدمتُ مثالك أنت وقبلته فقط لأبيّن أنَّ هناك منطقين في التفكير في الطائفية وفي التعامل معها، الأول هو منطق طائفي يتذرّع بالأعداد والإحصاءات، والثاني هو منطق بعيد عن الطائفية والعنصرية. باختصار: هناك طائفية، لكن فهمها الصحيح يكون من خارج المنطق الطائفي. الفهم العلمي للطائفية لا يمكن أن يكون طائفياً.
- المهندس: انتبه، أنا، أيضاً، قلت لأسباب تاريخية واجتماعية و... و... و... الخ.
- ثائر: أجل، تجب العودة الى كل ذلك، فهناك تكمن إمكانية فهم هذه الظاهرة، لكننا لم نعد اليها بعد! ليست المسألة عنواناً عريضاً، بل تحتاج الى جهد ومفهومي، وربما اختصاصي. لكن شرطه الأول هو القطع مع المفهوم الطائفي للطائفة والطائفية.
- المهندس: نعم، نعم، وهذا ما أقوله. إذا افترضنا أنَّ قناعتي (الإحصائية) بأنّ أغلب العلويين مع النظام هي قناعة صحيحة، لكن لها جذورها التاريخية والسياسية والاقتصادية و... و ...الخ، كيف سنجد حلولاً عملية للخروج من هذا المأزق؟ هذا ما أريده بكلامي.
- ثائر: هذه الحلول، في جوهرها، هي الحلول نفسها التي وجدتَها للمجرمين البيض، أم أنه ليست لديك مشكلة في الإجرام الأبيض؟! لا شيء مختلفاً: المشكلة التي تحتاج حلاً هي الإجرام وليس السواد. السواد، إن كان مشكلةً، لا حلّ له إلا بإبادة جميع السود. تفضّل أَبِدْهُم.
- المهندس: نعم. لكن العامّة ترى السواد وليس الجريمة. أنت تعرف المقولات والصور النمطية (stereotypes):أغلب المغاربة في فرنسا مجرمون، أغلب السود في أميركا لصوص، أغلب الهنود رائحتهم كريهة...
- ثائر: مهمتك، بما أنك لست من العامّة، نقد رؤيتهم، خاصة ما يختبئ خلف كلمة «أغلب» من عنصرية. ومهمتك أن تفكك آليات تشكيل الصور النمطية العنصرية. تلك مهمة المثقف النقدي. هل تعرف عدد الدكتاتوريات التي فعلت بشعوبها مثلما يفعل دكتاتورنا بنا من دون أن تكون هناك سوى طائفة واحدة مشتركة بينهما؟ هل تعرف أنّ السنّة الذين مع النظام نسبتهم أكبر من نسبة العلويين الذين معه؟ هل تعلم أن ثمة مشكلة كبيرة وخطيرة في فهمنا الساذج لهذا النظام وبنيته، هي السبب في توقعنا الخاطئ خطأً فادحاً لتوقيت سقوطه، ولتلك التكتيكات الصبيانية التي دعا إليها بعض من نصّبوا أنفسهم أو أنفسهن قادةً للثورة، كالدعوة للعصيان الجماعي وحرق الفواتير في الأشهر الأولى، وذلك المعتوه الذي صار في فرنسا، وكان قد شرح لي مطولاً خطته لإضراب الحرية التي كان واثقاً أنها ستجرّ تجار سورية في الشهر الثاني من الثورة، مما يؤدي إلى سقوط النظام عاجلاً. المهم...حرام أن نبقى هنا، في المنطق الطائفي الذي يريده النظام وتريده أطراف خارجية كثيرة لا يهمها من ثورتنا سوى تغيير تحالفات سورية إلى تحالفات ليست أفضل. ثورتنا ثورة شعب عصري حديث ضد استبداد غاشم. والرواية أننا طوائف هي رواية النظام، كائناً من كان الذي تجري على لسانه. وحين نردّد هذه الرواية، ما الفارق بيننا وبين النظام؟
- المهندس: أنا متيقن من أنّ هناك لعبة قذرة استجاب لها بعض أقطاب المعارضة.
- ثائر: الأهم من ذلك، أن هذا المنطق الطائفي الذي يجرّم الطوائف الأخرى والجيش كلّه ليس بالمنطق الذي تثق أنه يمكن أن يقود ثورة إلى الانتصار. أقولها بالفم الملآن. وهذا ما يخيفني. أن نخفق.
- المهندس: صحيح، لا أخفيك، أنا غير مرتاح. أقلب صفحات بعض التنسيقيات وأشعر بالغثيان.
- ثائر: هذا ما لديّ، آسف للإزعاج.
- المهندس: على العكس، أنا سعيد بكلامك. هل عندك مكان لسؤال آخر؟ لي صديق «علوي» يساند النظام، كيف يمكن أن أخلخل وعيه الذي له أسبابه التاريخية وأجعله أقرب للثورة أو أقنعه بأسبابها، وبأنها ليست ثورة ضد الطائفة «الكريمة»؟
- ثائر: ما أعلمه هو أن عليك، أولاً، أن تكفّ عن الاهتمام بمذاهب الناس. وما أعلمه، ثانياً، هو أنّ مجريات التاريخ والواقع أكبر المُقْنِعين. لكن من المستحسن الكلام على فضائل الثورة وأفضلياتها. إن لم يكن للثورة تفوقها وأفضلياتها،فلماذا يقتنع برأيك هو أو غيره؟ هل شتْم الجيش برمتّه والعلويين جميعهم وروسيا والصين وإيران وحزب الله والمجلس الوطني وهيئة التنسيق والمنبر الديمقراطي وتيار بناء الدولة والعالم... من افضليات الثورة؟ هل انجزت الثورة أفضلياتها التأسيسية والهامة؟
- المهندس: لا، طبعاً.. هل تعرف (فلان)؟ أحسّه نزقاً جداً.. طالب منذ فترة بتوجيه بعض الضربات التأديبية للقرى العلوية التي يخرج منها الشبّيحة.
- ثائر: هذا لديه صديق علوي، صديق عمره، أقترحُ أن تبدأ الضربات التأديبية من بيته وأهله. لم لا؟ هذه الضربات التأديبية، مثل قصف النظام، لا تفرّق. هذا عتهٌ كعته النظام، المنطق نفسه. ثم لاحظ بعض أصحاب هذا المنطق: صاحبنا، وفلان، وعلان... الخ، هل تجد شيئاً مشتركاً؟
- المهندس: لا أتابع (فلان) لأنه حمار باختصار، والآخر أقلب المحطة عنه، والثالث خرّف قليلاً.
- ثائر: هذا هو المشترك: حمير، يؤذون الثورة.
- المهندس: لكني أجد صاحبنا الأول مثقفاً على الرغم من حدّته ونزقه.
- ثائر: كلّ الذين ذُكروا مثقفين. من قال إنه لا يوجد مثقف طائفي، ومثقف تافه؟ وسوى ذلك من المثقفين الرديئين. أنا أظن أنّ بين المثقفين من هو أسوأ بكثير وأشدّ طائفية من البشر العاديين الذين لم يحظوا بفرصة المعرفة بسبب بؤسهم متعدد الأشكال. وأجد أنَّ فرصة هؤلاء البسطاء في تجاوز الطائفية وتفهّمها أكبر بكثير من فرصة مثقفينا الذين «أكلوا بأنفسهم كمّاً» كما يُقال، فبات من الصعب أن يحتفظوا برؤية نقدية لذواتهم، علاوةً على نفاق بعضهم وبيعهم ما يروج من سلع من دون أيّ ضمير.
- المهندس: وأنت أيضاً عصبي! لكنك لست طائفياً، للحقيقة.
- ثائر: في داخلي أكون هادئاً، لكن لغتي عصبية. المهم أن يكون في الكلام ما هو نظيف ومفيد، وأعتذر عن الأسلوب.
الحوار واقعي وجرى بتاريخ 18/8/2012