"قوت القلوب" في فاس المغربية.. أو التصوُّف بصلته بالشرط الإنساني

المثل القائل إن الصدفة خير من ميعاد أصدق ما يصف حضوري لافتتاح المهرجان السابع للثقافة الصوفية في مدينة فاس المغربية. كنت في محطة سريعة لزيارة صديقة في المغرب، في طريق عودتي من بيروت إلى نواكشوط. فاكتشفت صديقتي أن موعد مروري يتزامن مع افتتاح هذا المهرجان. الحضور لم يستدع أي تردد، خاصة ان عددا من الصديقات سيحضرن من فرنسا للغناء أو المشاركة في حوارات الطاولة المستديرة، وأيضا سيكون المطرب
2013-05-03

علّية عباس

أستاذة أدب عربي، مقيمة في نواكشوط


شارك

المثل القائل إن الصدفة خير من ميعاد أصدق ما يصف حضوري لافتتاح المهرجان السابع للثقافة الصوفية في مدينة فاس المغربية. كنت في محطة سريعة لزيارة صديقة في المغرب، في طريق عودتي من بيروت إلى نواكشوط. فاكتشفت صديقتي أن موعد مروري يتزامن مع افتتاح هذا المهرجان. الحضور لم يستدع أي تردد، خاصة ان عددا من الصديقات سيحضرن من فرنسا للغناء أو المشاركة في حوارات الطاولة المستديرة، وأيضا سيكون المطرب الحلبي حمام خيري هديتي في فاتحة الحفلات في ليلتي اليتيمة في المغرب.

هذه السنة اتخذ المهرجان عنوان "قوت القلوب ـ التصوف والإبداع" وهو استمر لمدة أسبوع بدءاً من 13 نيسان/ ابريل حتى 20 منه. تم الافتتاح الرابعة عصرا من دون الكثير من الكلام أو البهرجة أو الحشد، فأخذني الظن أن الأمر لا يشغل بال الكثيرين، خاصة أننا في دخولنا المدينة لم نلحظ أية ملصقات أو إعلانات بارزة تشير إلى الحدث، باستثناء تسابق الكثيرين إلى السؤال عن حاجتنا إلى فندق وما إلى ذلك من الخدمات التي تعودوا عرضها على السياح الذين تستقبلهم المدينة بالآلاف سنوياً، كما بقية مناطق المغرب، "مع أن الأعداد لم تزد عن الأعوام السابقة"، كما يؤكد صاحب المنزل الذي استضافنا في جزء من بيته خصصه لنزول الزائرين، شأن كثيرين غيره، في إطار مشروع "زيارات فاس" الطموح، الذي يهدف، بحسب نشرته "إلى دعم العائلات الضعيفة اقتصاديا، كما إلى فتح حوار ثقافي ما بين الشرق والغرب، والتعريف بالإسلام في أبعاده الثقافية والروحية، ودمج السياحة بالتنمية الإنسانية، والمشاركة في الحفاظ على الإرث المادي والثقافي لهذه المدينة، وتشجيع السكان على الحفاظ على منازلهم...".

الحفاظ على الإرث من أهداف القائمين على المهرجان أيضا، وهم أحد شركاء "زيارات فاس",. لكن يبدو أن الشاغل الأكبر لهم هو "المساهمة في تطوير الحوار ما بين الديانات ونشر رسالة السلام والروحانية والعالمية للاسلام، خاصة في هذه الأيام المضطربة النظرة إلى الإسلام", كما جاء في النشرة الخاصة بالمهرجان لهذه السنة. النشرة نفسها حوت ملخصاً لعناوين وأهداف السنوات السابقة، وهي تظهر أن الهم ذاته، مع تنويعات في زاوية مقاربة الموضوع، شكلت محور تلك النشاطات.

سبع ليست عجافاً

كانت البداية مع عنوان"الصوفية والتنمية الإنسانية"... ولم لا؟ فالتعاضد المهني في المغرب مرتبط تقليدياً بالأخوية الصوفية، والعلاقة القائمة ما بين الروحانية والتنمية الاجتماعية والإنسانية مكتوبة بشكل طبيعي في ثقافة الصوفيين وتاريخهم. أما "شرق غرب"، عنوان الطبعة الثانية من المهرجان، فقد كان سعيا كيلا تسود ثقافة العولمة التي في منتهاها تعني سيطرة ثقافة على أخرى، خاصة أن الصوفية عبر عقود كانت قادرة، بما تحمله من كثافة الحب، على نسج ممرات ما بين العالمين الغربي والشرقي، لما فيها من تلاوين متنوعة وقيم وأفكار ورموز عالمية. "ثقافات الصوفية" كانت محور نشاطات النسخة الثالثة، فمحاولة البدء ببواكير ثقافة حاملة للحب والمعرفة والتضامن، والمنفتحة على الحوار ما بين ثقافات وديانات العالم، قد لا تنجح إلا قليلا، لكنها "ستكون الوردة التي تبشر بالربيع".

وقد سعى المهرجان في سنته الرابعة إلى بلورة "الصوفية والشعر" لخلق "حضارة شاعرية". وقدمت "شخصيات أنثوية صوفية" بعد ذلك، لأن الرومنطقية الروحية للصوفية، سواء عبّر عنها رجال أو نساء، فهي قد منحت للنساء معنى رمزياً أساسياً سابقاً للاعتراف الطبيعي بأهمية مكانتهن ودورهن في قلب المجتمعات. "حكم صوفية" كانت أساس نشاطات الدورة السادسة، إذ أن الأدب الصوفي عبّر عن نفسه من خلال أشكال متعددة، منها الحِكم التي تغذي التأملات وقلوب المريدين، ولكن أيضا كانت منبع القيم والمفاهيم الثقافية والروحية التي نسجت قالب الحضارة الإسلامية. ومن هذا المنطلق، ولما يمثله المفكر الإسلامي أحمد إقبال (توفي عام 1938) من قيمة في الفكر الإسلامي، فقد كرّمه المهرجان.

القُوت قوتان: روحي موسيقي

أما شعار "قوت القلوب" – محور دورة السنة الحالية، فمستلهم من كتاب "قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد" للشيخ الزاهد أبي طالب المكي (المتوفى عام 386 هـ). القوت كان على شكلين: غناء من جهة، وطاولات مستديرة من جهة أخرى. الفرق الغنائية أتت من المغرب وتركيا وفلسطين، مت دون أن يعني ذلك أنهم من سكان أو أهل تلك الدول. ففرقة "تخت التراث" التي قدمت في متحف البطحاء موشحات صوفية من سوريا، ورافقت الفنان الحلبي حمام خيري والمغربي عبد الرحمن كزّول في الليلة الأولى، كانت مؤلفة من مجموعة من لبنان وفلسطين وتونس والجزائر ومصر والعراق وسوريا، وهي تأسست منذ 15 سنة في باريس من طرف الفنان المغربي عبد الرحمن كزّول، ثم انضافت اليها مجموعة المنشدين في باريس. المهم أن الغناء أو الصوفية أو الاثنان معاً هو ما يجمع هذه الفرق.

موائد القوت الروحي الموسيقي دامت ثماني ليال، لكن متعتي منها كانت لليلة واحدة، مع ذلك كانت جرعة مدّتني بزاد يرافقني ربما حتى السنة المقبلة. ففي ليل هادئ وجو معتدل، وفي ظلّ سنديانة يزيد عمرها عن 500 سنة، بدأت فرقة "تخت التراث" تنتشلنا من يومياتنا المتعبة بهموم قوت الأجساد وتبعدنا عن عروش الحكام وأخبارهم، سواء كانوا مهدّدين بالسقوط أم آلوا إليه، لتضعنا في جو موسيقي راق عبر موشحات صوفية تفاعل معها جمهور متعدد الجنسيات والأعمار، مع غلبة لمتوسطي الأعمار. الكل ينشد هذه اللحظة أو "هذا الغسيل لأرواحنا"، كما يعبر أحد الحاضرين من المغرب، أو "للبحث عن روحانية في هذا العالم القاسي بماديّته، وهذا ما بحثت عنه أيضا في البوذية والآن في الصوفية على طريق محاولتي لأكتشف نفسي"، كما تعبّر إحدى الحاضرات خصّيصا من فرنسا، أو "للاستمتاع بالموسيقى لا أكثر"، تقول لي فتاة ايطالية. إسبان كثر وجدوا في هذا الجو، كما عبروا، نوعاً من المصالحة مع تاريخ العرب المسلمين في الأندلس، "مصالحة لم يسعَ السياسيون حتى الآن إلى إجرائها، بل على العكس يسعون إلى زيادة الفرقة والنفور بين الشرق والغرب".

أهل البلد، اقصد الشريحة التي حضر منها كثر، نساء ورجالا، شيبا وشبابا، كانت على الأغلب شريحة مثقّفة، موسيقيا على الأقل، و/أو مرتاحة مادّيا. هذا الحكم كان نتيجة الأناقة الواضحة في الملبس والمظهر العام، على العكس من بساطة الحضور الأجنبيّ. وأيضا هناك ثمن بطاقة الدخول إلى كلّ عرض وكل طاولة مستديرة (200 درهم = حوالي 25$) وهو ثمن لا تقدر عليه إلا قلّة في ظلّ الأوضاع الاقتصادية السائدة أينما كان، والمغرب ليس استثناء. قد يبدو هذا تفسيرا لما لاحظته من عدم انشغال أهل المدينة كثيرا بالمهرجان، اللهم بما قد يعود عليهم بمردود مالي. أما تفسير مدير المهرجان، فوزي الصقلّي، فهو أنهم "لا يستطيعون خفض الثمن، لا بقصد الربح المادي، بل لتغطية تكاليف المهرجان وحضور المشاركين من الخارج". ويضيف" لكننا نقدم العديد من الدعوات ولا نرفض طلب احد".

شرق وغرب:حب وسلام

على كل حال، الحضور بكل تلاوينه اندمج في هذه الليلة واستمتع بترانيم موسيقية استحضرت من ذاكرة غنية جمعت ما بين الشرق، ممثلا بحلب ومطربها حمام خيري الذي أشعل الحماس عندما ذكر حلب وما أصابها، والسلام الذي يتمناه لبلده كما مدينته، والغرب ممثّلا بالفنان المغربي عبد الرحمن كزّول الذي تشارك وخيري إنشاد موشحات تتغنّى بالحبّ الصّوفي والسلام والقيم الإنسانية الجامعة برفقة فرقة "تخت التراث". العروض الموسيقية الأخرى قدّمت "سماع" من المغرب، من تراث الطريقة الوزّانيّة والصقلّيّة والحرّاقيّة والقادريّة البوتشيشية والشّرقاويّة، بالإضافة إلى جمعيّة هواة الموسيقى الأندلسيّة. ومن تركيا، سماع الطريقة الخلواتية بحضور الشيخ فاتح نور الدين. ومن فلسطين سماع الطريقة الرفاعية. أما حفل الختام "السماع عبر العالم" فكان لتكريم الإمام البوصيري بأصوات وألحان من المغرب وتركيا وفلسطين.

قوت فكري: طاولات حوار

في الجلسة الفكريّة الافتتاحيّة، شارك مفكرون وباحثون ومهتمون من المغرب والخارج (أوروبا وأفريقيا) تناولوا فيها العلاقة الجدلية ما بين الجانب الروحي والجوانب الفكرية والفنية والاجتماعية، كما تطرقوا إلى التصوف كمدرسة روحية تعكس أهمية وثراء الحضارة الإسلامية، وتتجاوز الحدود الجغرافية والزمنية الضيقة. اللقاءات الفكرية الأخرى كانت حول التصوف والشعر، والتراث، والفكر الاجتماعي والمقاولة الروحية (الفتوة)، والتصوف والفكر الفلسفي، والسماع الصوفي. اختتمت هذه اللقاءات بـ"مملكة الأولياء" كتراث يجب المحافظة عليه و"التصوف اليوم".

اكتمال الروح ...مصير انسانيّ؟

الدكتور فوزي الصقلّي، مدير المهرجان، قال في كلمة الافتتاح: "ما أردنا تسليط الضوء عليه في الدورة السابعة لمهرجان فاس للثقافة الصوفية، إبراز كيف لهذين البعدين (الظاهر والباطن) اللذين لا يتكاملان فحسب، وإنما يسمحان كذلك باستشراف منبع للإلهام والإبداع في شتى المجالات المكونة للثقافة الإنسانية. هذان البعدان يستطيعان في تكاملهما أن يؤسسا لحضارة حية لها القدرة الدائمة على التجدد لخدمة نفس الهدف: جعل المصير الإنساني مساراً نحو الاكتمال الروحي". وقال في لقاء سريع به رداً على سؤال:"لما لا؟ قد يكون في مثل هذه المهرجانات إعادة اعتبار للإسلام. فالمادة الخام موجودة لكن يجب تكريرها".

هل ينجح المهرجان في حمل العالم ليكون أكثر أمناً وسلاماً وتسامحاً؟ سؤال لا يمكن إلا طرحه. لكن الإجابة عليه ليست سهلة. وزيارة أزقة فاس الضيقة، المليئة بالباعة وبالسياح، تذكر بأنّ من لا يحضر هذا الملتقى الخاص بالمدينة قد يكون لانشغاله بما هو أكثر إلحاحاً، إذ "ليس بالحب وحده يحيا الإنسان، ومن أجل أن يحيا فهناك شقاء كبير للروح والبدن". وربما لهذا فلا بد من مهرجان سنوي، "حمّام للروح"، على حدّ تعبير أحد أعضاء الهيئة المشرفة على المهرجان.

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...

للكاتب نفسه