هل تتمنين لو كنتِ موريتانية؟ المشهد كاملاً

جئت إلى موريتانيا منذ ما يزيد على أربع سنوات، جئتها متوقعة سهولة الاندماج في هذا البلد المسلم ديناً، العربي هوية، وإن كان متعدد الأعراق. ما من مشكلة بما أننا جميعا ننهل من نفس المصدر وإن بنسب متفاوتة، معتمدة على قدرة أنسبها لنفسي في إمكانية التواصل مع عقليات مختلفة. إنما "حساب الحقل لم يتطابق مع حساب البيدر" كما يقول المثل الدارج. احتفال بالطلاق
2012-10-10

علّية عباس

أستاذة أدب عربي، مقيمة في نواكشوط


شارك

جئت إلى موريتانيا منذ ما يزيد على أربع سنوات، جئتها متوقعة سهولة الاندماج في هذا البلد المسلم ديناً، العربي هوية، وإن كان متعدد الأعراق. ما من مشكلة بما أننا جميعا ننهل من نفس المصدر وإن بنسب متفاوتة، معتمدة على قدرة أنسبها لنفسي في إمكانية التواصل مع عقليات مختلفة. إنما "حساب الحقل لم يتطابق مع حساب البيدر" كما يقول المثل الدارج.

احتفال بالطلاق
المفاجآت تتوالى يوما بعد يوم... وربما كان أكثرها إثارة للدهشة واقع الزواج والطلاق في هذا المجتمع. فهذه تزوجت اليوم وتطلقت بعد 20 يوما، أو شهرين أو أكثر أو أقل، وهي الآن بانتظار إكمال "العدّة" حتى تستعد لزواج آخر، ولن يكون طلاقها سوى علامة تضاف إلى رصيدها وإقبال الرجال على طلب القرب منها.
إن واقع كون المرأة مطلقة لا يجعلها، عندما تعود إلى بيت والديها، محاصرة، معدودة أنفاسها في خروجها ودخولها، ولا يجعلها مدانة اجتماعياً ولا ذليلة كما في معظم الحالات التي نعرفها في مجتمعنا، ولا يائسة تحتاج إلى مواساة أو مؤازرة. وهي لا تتوقع زواجاً - إن حصل - إلا من مطلق أو أرمل أو عجوز. بل أكثر من ذلك: لا دموع ولا أسى، ظاهرين على الأقل. تخرج من بيت الزوجية حاملة معها ما شاءت من موجوداته، وتأخذ أولادها إلى دار أهلها وتتكفل بهم الجدة والعائلة بطبيعية مدهشة، أو يترك الرجل البيت بكل ما فيه ويرحل... وها هي عند انتهاء العدة تجتمع صويحباتها لإقامة احتفال لها لا يبعد كثيراً عن مراسيم حفلة العرس التي تقام لها عند الزواج: الحنة تلون كفيها وقدميها، وربما مناطق أخرى من جسدها، وشعرها يظفر، والموسيقى تعلو والزغاريد تلعلع ثلاثا: الحمد لله أنك تخلّصت منه، تقول الأولى، ودائما أنسى ما تقوله الزغرودة الثانية لكن الثالثة تتمنى لها، بل تؤكد، أنها "ستجبر"، أي ستجد من هو أفضل منه. وهذا ما يتحقق في أكثر الحالات، فتقام لها الأعراس بالكيفية نفسها، خاصة في الزواجات الأولى، فنرى نساء تزوجن حتى العشرين مرة. يروي لك ذلك أبناء المرأة نفسها، من دون أن تشعر في كلامهم استنكاراً أو معاناة أو أي شيء من هذا القبيل. وعلى ذكر الأخوة والأخوات، يكون التمييز بين أن يكونوا أخوة أو أشقاء ببساطة لا تستشعر معها، على العموم، بتفريق في التعامل أو بالمحبة في ما بينهم . يذكر هنا أنه بعد زواجين أو ثلاثة، لا تعود المرأة بحاجة إلى موافقة الأهل، فهي تصبح سيدة قرارها.

أسباب الطلاق
لا يزال الزواج بابن العم "قدراً" لا قِبل للأهل أو الفتاة برفضه، سواء كان ابن العم هذا غنياً أو فقيراً، متعلماً أو أمياً، مناسباً أو غير مناسب. تكفي صلة الدم ليتحقق الأمر. ولكن إلى حين. هو الزواج الذي غالبا ما ينتهي سريعا بالطلاق، وهذا هو السبب الأبرز لحالات الطلاق هنا.
إتمام عقد الزواج، يتم بحضور الأهل من الطرفين، بالإضافة إلى آخرين، ومن دون الحصول في معظم الحالات على شهادة طبية، أو قاض أو حتى شيخ، ومن دون أن يجري تسجيله بالضرورة في دوائر الأحوال الشخصية. هو عقد شفهي أهم ما فيه، عدا الكلام المعتاد في مثل هذه المناسبات أن لا سابقة ولا لاحقة، بمعنى لا "تقع" هي على ضرّة ولا يتزوج بأخرى ما دامت على ذمته، وإن حصل وعلمت بوجود أخرى تعتبر نفسها طالقاً دونما حاجة إلى أن يتلفّظ هو بتلك الكلمات الثلاث التي يمتلك الرجل، عادة في مجتمعات أخرى، الحق الحصري بالنطق بها حكماً مبرماً على حياة ليس الطرف الوحيد فيها.
وهنا يكون السبب الثاني الأهم للطلاق.
فالمرأة التي يجرؤ الرجل على إهانتها تعتبر نفسها في حل من البقاء معه. تكفي بضع كلمات لا تعجبها حتى تدير ظهرها وتعود إلى أهلها الذين لن يسارعوا أبداً إلى تهدئة الوضع وتكرار كلام من قبيل: لا بأس هذا يحصل وعليك أن تصبري، أو اصبري من أجل الأولاد... إلى ما شابه من هذا "النشيد الاجتماعي" خارج موريتانيا. وإن حصل وارتضت الزوجة العودة، فلا بد من ثمن: سيارة، منزل، مال...
أما الضرب، فهو ليس سبباً متكرراً للطلاق، إذ هو قليل الحدوث لأنه ليس في ثقافة هذا المجتمع. فمن أكبر العيوب أن يرفع الرجل الصوت على المرأة أياً كانت درجة علاقته بها، فكيف إذا كانت زوجة؟ إن حصل، فالطلاق مؤكد.
ليس بالضرورة أن تكون هنالك أسباب أخرى عميقة كي يقع الطلاق. يكفي أن لا يلبي لها رغباتها حتى "تتخلّى"، بحسب التعبير هنا، أي تترك البيت الزوجي وتعود إلى أهلها. كأن لا يوفر لها المال الكافي لتشتري ما تشتهي لنفسها، أو تقدم هدايا لصاحباتها أو تسافر للترويح عن نفسها داخل البلاد أو خارجها، كلٌ بحسب إمكاناته. فهي، وان كانت تعمل – وهذا كان قليلاً حتى وقت قريب - ليست ملزمة بمشاركة الزوج في تدبر نفقات المنزل. فمالها لها ولأهلها، وأحيانا قليلة لأولادها. ونفقات المنزل مسؤولية الرجل، وهو لا يحتج على هذا، بل يسعى بكل الطرق إلى إرضاء زوجته. فهذا جزء من ثقافته ودليل على رجولته وشهامته، حتى ولو اضطر إلى بيع أرض يملكها أو سيارته مثلا. وهنا يكون الفقر سبباً مهماً للطلاق.

الصورة بألوان أخرى
هل أرسم صورة وردية لوضع المرأة هنا؟ بالطبع لا. فما سبق لا يمثل سوى جزء من الصورة لفئة من المجتمع الموريتاني "البيضان" وهم العرب. فهنالك ألوان أخرى لرسم بقية المشهد: فالمرأة المطلقة تأبى عليها كرامتها أن تبدي أسفاً لترك رجل لها، هي لا تطالبه بشيء، لا نفقة ولا مؤخر مهر، إلا إذا دفعته شهامته إلى ذلك. ولا عقد زواج مسجل يرتب عليه مسؤوليات، والأولاد لها من دون الحاجة إلى قرار من قاض لا يستعان به إلا في ما ندر. فالرجل الذي قد تسوّل له نفسه إبعاد الأولاد عن أمهم يصبح منبوذا من المجتمع، ولا تقدم أسرة أخرى على القبول به زوجاً لابنتهم.
ففي حالات ليست قليلة، خاصة لدى الفئات الفقيرة، يدير الرجل ظهره وتُترك المرأة لمواجهة واقعها. صحيح أن المجتمع الموريتاني متكافل إلى حد بعيد، والمقتدر من الأهل، أو القبيلة أو الجيران، لا يترك من بقربه جائعاً، لكن لكم أن تتصوروا وضع الأم في بيئة فقيرة (أكثر من 60 في المئة من السكان عند خط الفقر أو تحته). ومع الفقر هنالك الأمية المرتفعة النسبة (تقارب السبعين في المئة خاصة في الأرياف). وهنالك النزوح من الريف إلى المدينة، حيث أجبر الجفاف والتصحر الذي يضرب موريتانيا منذ أكثر من عقد ونصف العقد، أجبر الآلاف على ترك بيئتهم الأصلية، وهذا ما أوجد حاجات حياتيه جديدة كانت أقل إلحاحا في الريف مما هي عليه في المدينة. هنا تدخل على الصورة ألوان أقل زهوا، بدرجات مرتبطة بمستويات تواجد العوامل السابقة في تركيب بيئة المطلَّقة لتكمل بعضاً من بقية المشهد.
إذا، ما سبق يخص "البيضان"، أما الزنوج وهم من ثلاثة أعراق مختلفة : الولف، البولار، السينونكي، فالكلام عن واقعهم يستدعي حديثا اّخر. ولكن بشكل تقريبي هي الصورة معكوسة: تعدد الزوجات أمر عادي جداً حتى لدى الفئات المتعلمة، والتي تحتل مكانة اجتماعية مرموقة. وفي أحيان كثيرة الزوجة نفسها تبحث لزوجها عن امرأة أخرى وتتعايش معها أو مع أكثر من واحدة - ثلاث، أربع ـ لا بأس" فالشرع يسمح ونحن مسلمون". أما الضرب فلا بأس، أو لا ضير في ذلك، بل هو من علامات الحب والإعجاب.
العمل؟ طبعاً هي تعمل وتعيل وتشارك وحتى تنفق على الزوج. يكفي أنه "الزوج" حتى تخدمه زوجته، أو زوجاته، وهن يتسابقن على خدمته وإرضائه.
على كل حال، 33 في المئة من الأسر رباتها نساء. هذا ما تؤكده دراسة تحمل عنوان: "جمعية النساء معيلات الأسر". فيا عزيزتي المرأة خارج موريتانيا، هل تتمنين لو كنتِ موريتانية؟ ...حتى قبل أن تتمعني في المشهد كاملا؟

 

للكاتب نفسه