تلتبس كلمة "رمضان" بمعنى العذاب فهي مشتقة من الرمضاء أي شدة الحر، فهو معاناة في وسط صحراء تحترق بلهيب الشمس، مما يصرفنا للقول بأن الصيام لم يكن منذ بداياته الأولى طقسا ممتعا، لكن هذا العذاب لم يكن له معنى إلا مع اقترانه بمبدأ الاختيار، وبهدف جليل هو الرغبة في التسامي نحو الله، وارتقاء الروح المؤمنة به حقيقة ومجازا.
فالجسم يتخفف من غذائه المعتاد ليتغذى بأحاسيس روحانية ترتقي جسرا يربطه بأفق السماء. وحينما يفرض الإنسان على نفسه هذا الحرمان يتخلص من شروط إنسانيته، ليجوب أمكنة أخرى ويطوف بها لتحضره الرؤيا، وينفذ الصوت الحق الى أذنه. إجمالا، هكذا كانت سيرورة الأنبياء والأولياء والقديسين، يجتازون المراتب، ويحررون الجسد من الارتهانات الأرضية. وهذه هي الطريق التي سار فيها كل أتباعهم الباحثين عن السر والجوهر المنفلت من خلال هلوسات يتسبب بها هذا الحرمان. ليس بإمكان كل من كان الصيام فهو طقس لا يقدر عليه كل الناس. هذه هي الحقيقة. ومن الأكيد أنه ليس طقسا لمن ينتظر بلا صبر ساعة الإفطار، في الوقت الذي ينتظر فيه القديسون إحقاق القطيعة مع هذا الغذاء. هذه السمة الروحانية لرمضان لا تجد حيزا لها في مجتمع يعطي مكانة عظمى للطعام، ويغرق في موائد عامرة، فيهبط إلى الأسفل عوض أن يرتقي. ومثل هذا الرمضان لا معنى له. وقد حان الوقت لتفادي الصورة الرمضانية التي يظهر عليها المتيمون بالفطائر والحلويات (الشباكية، البغرير...)، وجعل هذا الطقس اختيارا لا يحتاج للاستعراض والمباهاة. فالقديسون كانوا يهتدون للكهوف والمغارات ليصوموا لا ليتجشأوا، ولم يكونوا بحاجة لإعلان تقواهم.