النخبة والمجتمع في المغرب: الدرجة صفر من الإبداع

لطالما أُقيمت علاقة سببية بين ضعف الإبداع الأدبي والفني عموماً، والقمع البوليسي، بين الرقابة وغياب حرية التعبير. ولكن، وللمفارقة، ففي عقد السبعينيات من القرن الماضي، أي في عزّ حقبة «أعوام الرصاص»، كان الإبداع والتفكير عموماً، والنقاشات حول المشاريع المجتمعية، أكثر كثافة بكثير مما هو عليه اليوم. ومن دون الخلط ما بين الحراك والإبداع، يمكننا القول بكل ثقة، إن المرحلة التي يمر فيها
2014-02-12

محمد الناجي

مؤرّخ وأستاذ السوسيولوجيا الاقتصاديّة في جامعة محمد الخامس، الرباط


شارك
عبد الرحيم تريفيس ـ المغرب

لطالما أُقيمت علاقة سببية بين ضعف الإبداع الأدبي والفني عموماً، والقمع البوليسي، بين الرقابة وغياب حرية التعبير. ولكن، وللمفارقة، ففي عقد السبعينيات من القرن الماضي، أي في عزّ حقبة «أعوام الرصاص»، كان الإبداع والتفكير عموماً، والنقاشات حول المشاريع المجتمعية، أكثر كثافة بكثير مما هو عليه اليوم. ومن دون الخلط ما بين الحراك والإبداع، يمكننا القول بكل ثقة، إن المرحلة التي يمر فيها المغرب حالياً، تشهد الدرجة صفر من الخلق والإبداع. بالتأكيد، لا يمكن إنكار أنّ عدد التظاهرات الفنية لا ينفك يزداد، لكن أهميتها وقيمتها تُقاس بشكل أساسي بموازناتها المالية وصخبها وأما المنطق الذي يكمن خلف هذه التظاهرات الفنية الحالية، فيخرج عن إطار ديناميات الحقل الثقافي ومتطلباته. بل يمكن الوقوع على محرِّكاتها في مكان آخر، وبالتحديد في دعم السلطة. وفي جميع الأحوال، فإنّ «الخلق» غائب بشكل شبه كامل عن حساباتها.واليوم، فإن رفع الحظر وغياب الرقابة، على الأقل إزاء الأعمال الجدية ذات البُعد الفكري الحقيقي، هو واقع فعلي ويثير السؤال. وبالتأكيد، فإنّ الذين حولوا مقولة «وجود الرقابة» الى بضاعتهم الوحيدة، يتحججون دائماً بها لتبرير عقمهم. لكن تلك الأعمال لا تعنينا بتاتاً هنا، نظراً إلى افتقادها للمعنى التاريخي. بل إننا نحاول معالجة مسألة الإبداع حصراً، ومن خلالها قضية النخبة التي يفترض بها أن تكون الموجّه لها.

القمع والابداع
تكتسب المسألة أهميتها الكبيرة حالما يرغب بالخروج من الرابط التبسيطي بين القمع والإبداع، أي بين هذا الاخير والسلطة المركزية مأخوذة كمعطى معزول. أما المقصود فهو التموضع في الإطار الأوسع والأكثر تعقيداً لعلاقة مجتمع ما مع نخبته، ومن الواضح أن ما نقاربه هنا هو مسألة النخبة المفترضة. ومن شأن طرح السؤال بهذه الطريقة أن يسمح بتصوّر أفضل للحلول المحتملة، وهي بالضرورة جماعية وتندرج في إطار المسؤولية الوطنية، والتي من شأنها بالتالي أن تشمل مجموعة الفاعلين، وهو ليس الوضع اليوم.وبالعودة إلى العقم الحالي، فمن المدهش أن نلاحظ أنه منذ المبادرات التي سُحقت أو خُنقت بعدما أطلقتها النخبة الخارجة من صفوف المدارس في حقبة ما بعد الاستقلال، فإنّ الفكر الإبداعي غائب عملياً عندنا، وذلك لا صلة له بالإحصاءات السنوية «الكريمة جداً» الصادرة عن وزارة الثقافة، والتي تعتبر أنّ كل كتيِّب أو كاتالوغ ما، يحظى برقم إيداع قانوني، هو بمثابة عمل أدبي أو فني. 
ما النخبة؟

القمع الأمني أو الإيديولوجي وحده لا يكفي لتفسير هذه الحالة، على الأقل اليوم فالنخبة تعني قبل أي شيء آخر تفكير عميق، نقد خصب للفكر المهيمن والمتكلس، وريح حداثة تهبّ لجعل الرغبة بالتغيير إرادة عامة منتشرة: مساءلة الواقع الحالي من أجل غد أفضل.فلنذهب الى أبعد من ذلك في امتحان هذه المسؤولية الاجتماعية. هل يكون مجتمعنا متواطئاً في قتل الإبداع والتمرّد الخلاق، في قتل ما هو حديث؟ هل يكون لامبالياً إزاء بروز نخبة حداثيّة؟ هل يتردّد مجتمعنا حيال امتلاكها لدرجة تركها تهلك في نار جهنم؟ وهو ما يبدو أن الوعظ الإسلامي يعدها به اليوم.وإلا فكيف يمكن تفسير أنّه من غير الممكن البدء بأي عمل جدي يتعلق باستنهاض نظام التعليم؟ كيف يمكن تفسير الاعتراض الهزيل الذي يحيط بهذه المسألة؟ قامت الدولة، والعائلات المحظية، بشكل مباشر وغير مباشر، بوضع آليات إعادة إنتاج النخبة المهيمنة، انطلاقاً من قلقها المشروع على مصالحها. في المقابل، تم تجاهل كل الاليات التي يمكنها ان تمنح مجتمعنا نخبة مرتبطة بالتقدم، منفتحة على المستقبل، ومتسلحة بما يمّكنها من مواجهة تحدياته، وهو ما يتطلب إنشاء تأهيل وتنافس لمصلحة العدد الأكبر من الناس. ولا يكون لآليات مماثلة أي معنى إلا إذا وضعت في قلب النظام وليس على هامشه وليس المقصود إهانة المسؤولين عبر افتراض عدم ادراكهم للكارثة الحالية القائمة، وعدم قدرتهم على شفاء نظامنا التعليمي من مساوئه. الوضع كارثي. وكأستاذ، يمكنني للأسف القول إنّه اكثر كارثية مما تشي به الارقام. لكن ذلك معروف لدى العامة قبل أن تصدر تقارير البنك الدولي وتؤنبنا حول الموضوع. لقد استمرت هذه الحالة لفترة طويلة، حتى أنها لم تعد تثار كمشكلة.وبسبب هذا التراخي المدهش، يجدر طرح السؤال المركزي حول المجتمع ونخبته: فهل نحن أمام ما يمكننا تسميته، ومن دون مبالغة، بـ«إبادة النخبة»، حيث يتم القضاء على أي نخبة ناشئة في المهد؟ لعل مجتمعاتنا ليست ناضجة كفاية لتحمّل ودعم نخبة مجددِّة وبطبيعة الحال ثورية، وذلك بسبب كل ما ستعيد هذه النخبة النظر فيه. الخوف من الانقسامات يؤدي إلى ظاهرة إمساك أو إحجام تمنع المجتمع من الإقدام. من دون أن نحصر المسألة بأكملها في مصلحة طبقية ضيقة، وهو ما يبدو اختزالياً كدافع، فيمكن اعتبار أنّ النموذج السائد، وهو من جوهر ديني، متعارض مع قيم نخبة متجددة، هو مرتكز هذا التصرف المحافظ جداً.


أين الخلل؟ 

التطور غير المتوازن للقطاعات الاقتصادية والثقافية هو احد أسباب الخلل. ببساطة تخطيطية أكثر، فإنّ الاقتصاد، والبنى المجتمعية، والتمثيلات الثقافية، ينتمي كل منها الى نموذج مختلف. وهكذا يسعى المجتمع، من اجل المحافظة على توازنه وعلى ديمومة إعادة انتاجه لنفسه وفق النموذج المهيمن، للتغلب على كل العناصر المتمردة التي تظهر في داخله، وتشكك في إعادة انتاجه لنفسه تلك. هكذا نجد أنفسنا أمام صمت عام متواطئ. ويلائم ذلك السلطة بمقدار ما لا يتبنى المجتمع المدني ولا الفاعلين السياسيين اي ردة فعل مناسبة تجاه خطورة الوضع، رغم أنّ ذلك يدخل في نطاق مسؤولياتهم. ويمكن اعتبار مرور «اليسار» الى وزارة التعليم الوطني كاشف جدي على هذه الحالة.من غير المرحب به إذا ولادة نخبة يتوقع أن تكون مزعجة بشكل كبير. ويصبح الهجوم على المدارس الوسيلة الأفضل لهدم الأسس الضرورية لولادتها. فالنخبة في مجتمعنا لا تولد من الإنتاج المادي أو من التشكل المجتمعي، وإنما خصوصاً من سحر الكتب. وهكذا دمرت هذه الأخيرة وأزيل بالمناسبة نفسها من المشهد الثقافي، التفكير، ما ترك المجال مفتوحاً أمام «ماكينات» التوزيع الآلي للآيات، وأمام الدجالين!

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه

فخّ الصورة بين الحقيقة والوهم

ما يجري أشبه بلعبة على الويب، وظيفتها امتصاص الحقيقة الاجتماعية الصعبة، التي تفرغ وتمتلئ بعيداً، وبشكل عميق، بفضل الشعارات، وبفضل انطباع القوة والشرعية الذي تعطيه التظاهرات الأكثر احتفالية من أي...

مغرب الورثة: الاصطفاء الطبيعي لا يحصل

كلمة السرّ في أيامنا هذه، "افتح يا سمسم" العالم الحديث، هي "الابتكار"، مصدر كلّ تقدم. وسرّها هو الإنسان. الإنسان المتعلّم والمتحرّر، المتمتع بكرامة مضمونة. يبدو أن المسؤولين في المغرب واعون...