كان جورج زريق لا يطلب سوى حقّ أن تتعلّم ابنته في مدرسة. مطلبٌ بسيط. عندما عجز عن تحصيل حقّ ابنته، أضرم النار في نفسه وفارق الحياة. لم يرد حياة لا تسمح له سوى بعيش الذل والحرمان. حصل ذلك في الكورة في الثامن من شباط/ فبراير من هذا العام، 2019، عام الثورة.
تريدون مطلباً بسيطاً مفهوماً واضحاً قابلاً للتحقق؟ هذا مطلبٌ بسيط جداً، وهذا أيضاً ثمنٌ مرتفع جداً، أكبر من أن يُحتمَل. بين شباط/ فبراير وتشرين الأول/ أكتوبر 2019 ثمانية شهور فقط، تُرى كم مطلباً بسيطاً مفهوماً واضحاً رُفع في هذه الشهور فقط، ما بين موت جورج ومقتل المواطنين علاء أبو فخر وحسين العطار؟ في الأيام التي لم يطالب فيها أحدٌ الحكومة أو الرئيس أو المجلس النيابي بالرحيل، كم مطلباً رُفع من نوع مطالب "الحق الطبيعي"، البديهي، الأساسي، الضروري؟ الآن، عندما ارتفع الصوت كثيراً وصار مدوّياً ومخيفاً، نظف رجال السلطة آذانهم، وصار الكل جاهزاً للاستماع. تفضّل يا جورج زريق لنسمع صوتك الآن، صرنا حاضرين، بعد أن متّ وأحرقت جسدك، تعال نسمعك، وسنغضب كثيراً لو لم تتكلم ونعاتبك على قلة كلامك كذلك، فبالآخر، الحق عليك!... كأن هذا هو منطق السلطة اليوم، حتى لتشعر أنّ إحباطها من الشعب أكبر بأشواط من إحباط الشعب منها. النكات التي تنتشر على فيسبوك تقول أنهم على وشك التظاهر والهتاف: "السلطة تريد إسقاط الشعب!".
في أيام الحرب الأهلية، كانت شخصية رشيد في مسرحية "فيلم أميركي طويل"، القابع في مستشفى الأمراض العصبية والمخدّر بشتى أنواع الأدوية والمهدئات من قبل الأطباء الذين يحاولون إفهامه كيف يكون مواطناً جيداً، يُسأل عما فهمه من الأوضاع القائمة في البلاد فيردّ: "الشعب عم يستغل الزعما والزعما معترين". في الحقيقة فالحرب الأهلية التي يحرص كل من في السلطة على التذكير بها، ملمِّحين لأنّ النزول إلى الشارع هو بعينه احتمال الحرب، هي دين هؤلاء وديدنهم. هي الوسيلة والطريق الذي سلكوه حتى صاروا ما صاروه. ولكن الأنكى من ذلك هو أنهم أيضاً أرباب حرب "معترين"، ويظهر أنهم مقتنعون بأنهم "معترين"، والآن يستجدون اعترافاً من الناس بأنهم يستغلون "تعتيرهم" وطيبة قلبهم.
"حددوا مطالبكم" يقولون. ولكن المطالب محددة وكثيرة ولهم أن يختاروا منها، وقد كانت لوقت طويل جداً بسيطة واضحة، كالكهرباء والماء والعمل. جورج زريق الذي أضرم النار في نفسه، ومات، مطلبه بسيط جداً ولكن الثمن مرتفع جداً... أكبر من أن يُحتمَل.
هذا رئيس الجهورية يقول في مقابلة 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 أنه لا يفهم كيف لا يرى الناس "الأوادم" الذين في الحكم، وقال كذلك أنه كان بإمكانه استخدام القمع والعنف ولكنه لم يفعل. مشكلة التواصل مع السلطة هي مشكلة عويصة، فهم بعد مرور حوالي الشهر على بداية الثورة ما زالوا غير معترفين بأن المشكلة فيهم. وكل تدهور وتسارع مخيف في الانهيار ما هو إلا نتيجة حالة الإنكارالعميقة والعقيمة. إنه الـ Denial الكامل مع انعدام تام في كل أنواع الكفاءات لإدارة أصغر ملف في البلاد. الشارع الذي فهم سيرة "الحرب" أجاب بهتافاته "نحن الثورة الشعبية وأنتم الحرب الأهلية".
يا لبنان!
25-10-2019
"حددوا مطالبكم" يقولون، ولكن المطالب محددة وكثيرة ولهم أن يختاروا منها، وقد كانت لوقت طويل جداً مطالب بسيطة واضحة، كالكهرباء والماء والعمل، كأن يستطيع جورج زريق أن يسجل ابنته في المدرسة مثلاً... كأن لا يتعرض طفل منذ يومين إلى موقف مثل ذلك الذي اضطره أن يقف شاهداً على مقتل والده في خلدة برصاصات مباشرة، وكأن لا يسمع صراخ أمه المفجوعة ويرى بعينيه دماء أبيه تصنع بركاً على الأسفلت. وعندما يئس الناس من الإفهام وأرادوا اقتلاع كل النظام، جاءت الملامة ومعها حائط النكران المتعمّد، منصوباً في وجه كل الأصوات. ها هي نصف الزمرة الحاكمة تقف اليوم في عزاء أهل الشهيد علاء أبو فخر كأنهم ليسوا جزءاً من العصابة، يستدرجون طفله ليصير وسطهم، لتأطرهم عدسات الكاميرا معاً، فيغسلون – سريعاً سريعاً - عن سجلاتهم أية علامات سوداء. وجودهم هناك جريمة أخرى.
ألمٌ كبير، وقبله ألمٌ آخر، في اليوم الثالث فقط من الانتفاضة، قُتل الشاب حسين العطار على طريق المطار برصاص أحد "المدعومين" الذي أراد استغلال الناس مادياً في "بزنس" ارتجالي بتشغيل دراجات نارية توصلهم بضعة أمتار إلى المطار بمبالغ طائلة، الأمر الذي رفضه حسين ورفاقه. أحد أصدقائه قال أن حسين أراد أن يصل الناس مجاناً، وقال لقاتله "لا تشوه تظاهرتنا"، وأنه حاول كسر الشرّ وقبل رأس الرجل وابتعد إلى موقع آخر قبل أن يلحق به القاتل ويصوب رصاصته إلى قلبه. "المدعوم" وحشٌ كاسِر لأنه مدعوم، لأن لا عقاب له، ولأنه لا يحتمل أن يقول له مواطن عادي أن ليس بإمكانه الانتفاع والاستغلال والاستفادة من داعميه...
آلام البلاد ليست بهؤلاء المظلومين فقط، ثمة حكايات كثيرة لا نعرفها أيضاً. وهذه أطراف حكايات شهداء الأمس، ولعل حيواتهم كانت ملأى بلحظات قهر ولوعة وتعب، ولعلّهم اختطفوا منها لحظات هروب بالفرح واللعب بين أحبائهم وأهلهم. تحكي كل المقابلات والتلفزيونات والخطابات عن أشياء كبيرة، عن مؤمراتٍ ومخططات، عن موقع الرئاسة وعن تشكيل الحكومة، عن ملفات ومبالغ بأصفار كثيرة لا يستطيع العقل تخيل شكلها وفعلها... ويصير حتى الشهيد الذي يقع، جزءاً صغيراً من حكاية "القصة الكبيرة" التي تحصل في البلد، لا يراه المحللون سوى خبراً له دلالات سياسية، ولا يراه السياسيون سوى فرصة للاستثمار بوجع المفجوعين. "لا تستهروا بالدم"، قال والد حسين العطار، "كلنا ولادك يا بو حسين"، هتف رفاق الشاب الذين عاهدوا الفقيد، كما عاهد أصدقاء علاء أبو فخر، بمواصلة النضال. بين جولة وأخرى، يداوي الثوار تعبهم، هم الذين استُكْثِر عليهم الرقص والفرح، يعرفون الحزن والفقد والألم...