عاد النفط في العام المنصرم يلعب دوراً أساسياً في الحياة الوطنية العراقية، فحضر كموجة من القلق في عموم المواقف والاصطفافات على مستويي المجتمع والجماعة الحاكمة. ذكّر ذلك بحالة الصراع بين حيّزي الدولة والمجتمع المساواتي التقليدي، وهو الصراع الذي فَرَض على الإطار الحاكم على مر الزمان لجوءاً إجبارياً صوب الاستقلال عن المجتمع الأسفل، عبر توسيع مجال الريع التجاري ــ الزراعي، ما جعل الأفق الإمبراطوري ثابتة لا غنى عنها لتأمين الفيوض التجارية اللازمة وتخفيف حاجة الإطار الحاكم للريع الزراعي الداخلي صعب الاستحلاب من مجتمع محارب متضامن مساواتي لا ينتج سلطات منفصلة عنه ويرفضها لأسباب بنيوية وتكوينية. هذه الخاصية ميزت الكيان العراقي تاريخياً، وهو ظل في حال اختلالها ينحدر إلى الفوضى والخراب، أو ما يمكن تسميته دورات "الانقطاع الحضاري" والتي انتهى آخرها (سقوط بغداد بيد هولاكو في 1258) في القرن السابع عشر، يوم بدأت ملامح التشكل الوطني الحديث تظهر مع قيام أولى الاتحادات القبلية في جنوب البلاد ("اتحاد قبائل المنتفك").
الطور الأول: إلغاء مشاعية الأرض الزراعية
هذه الخاصية غابت، ولم تدخل في اعتبارات أي من الاقتصاديين العراقيين المعاصرين، وبالذات منهم المختصين بقضايا النفط ومتابعة دوره في الاقتصاد الوطني. فقد غلب تصور مسبق افترض قسراً وجود الطبقات والوحدة المجتمعية الكيانية، وأخضعها لقوانين جاهزة وذهنية عن الدولة، الأمر الذي منع مجال البحث والجهات المعنية والمجتمع، من التعرف على جوانب خطيرة مارستها النخب الحاكمة لصالح تكريس سلطاتها والحفاظ عليها.. مدعية حرصها على تحقيق الاستقلال الاقتصادي والتنمية، ناهيك عن عدالة التوزيع. وهو حال معظم الدول الحديثة أو تلك التي رفعت شعارات الوطنية. ففي العراق على سبيل المثال، لعب الريع النفطي، على عكس المطلوب، دوراً في تدمير البنية التاريخية الزراعية، وأفقر البلاد بتحطيمه عن عمد وسبق إصرار حيز الإنتاج الرئيسي، لا بل الوحيد الصالح لان يكون مرتكَزاً لما بعده. والأهم أن هذه السيرورة ظلت ثابتة ومعتمدة كمذهب حكم تتناوب عليه جميع الحكومات، بغض النظر عن توجهّاتها، "تقدمية" كانت أو "رجعية"، كما كانت تسمّى أو تسمِّي نفسها. ومع بعض اختلافات في الأساليب بين فترة ما قبل الريع النفطي وما بعده، فإن فئة الحاكمين ظلت مصرّة على تدمير المجتمع الزراعي المنتج كسياسة ثابتة. وتُظهر متابعة خط سير تلك السياسة ميلها المطرد إلى التكامل وصولاً لصيغتها الأعلى والأكثر شمولاً وفعالية، كما هو الحال مع صعود البعث و "الصدامية" إلى السلطة (1968/2003).
خلال فترة الدولة الحديثة الأولى (1921/1958) ومباشرة بعد تأسيسها، اعتمد كسياسة ثابتة وحيوية لوجود الدولة الناشئة مبدأ خلخلة وتخريب علاقات الملكية في الريف العراقي المنتِج، أي أرض السواد الممتدة من بغداد إلى البصرة، فوضع "قانون التسوية" لسنة 1932 الذي حوّل المشايخ المشاعيين إلى ملاك إقطاعيين نهّابين للأرض (المشاع تاريخيا)، ليلحقوا بالحكم كركيزة اجتماعية له في مناطقهم. هذا الانقلاب القسري العنيف في العلاقات الإنتاجية، حظي بالأصل بدعم سلطات الاحتلال الإنكليزية واستجر ردة فعل عنيفة وشاملة مضادة له. ولأن سكان الريف وقتها كانوا يشكلون النسبة الأكبر من السكان، أو ما يزيد على 80 في المئة منهم، فقد تحولت عملية السخط والرفض حينها إلى حركة شعبية كاسحة، سمحت بتغلغل الأحزاب الإيديولوجية الوليدة والأكثر جذرية، واتساع قاعدتها ونفوذها بسرعة ملفتة، فاكتسحت المدن والعاصمة. ومع نهاية أربعينات القرن الفائت، تكررت تباعاً الانتفاضات الشعبية العارمة (في 1948/ 1952 /1956) ورافقتها عشرات الإضرابات العمالية والعصيانات الفلاحية المسلحة.
على وقع ذلك، ظهرت بعد ذلك فجأة خطوات "تنموية" شكلية، عرفت وقتها ــ وبسبب عدم ظهور تعبير التنمية بعد ــ بسياسة "الإعمار". ففي عام 1950 أصدرت الحكومة قانوناً خصصت بموجبه 70 في المئة من عائدات النفط لمشاريع الإعمار، تاركة 30 في المئة للميزانية العامة. ومع أن "مجلس الإعمار" الذي أنشئ في حينه، اعتبر من قبيل الرضوخ لضغط الحركة الشعبية ومطالبها، إلا أنه كرس على مستوى الأداء والإنجاز، نمط سياسة "اللا-إنتاجية"، والتركيز خصوصاً على المشاريع الإنشائية، مع مواصلة إدخال عوائد النفط في الميزانية العامة وزيادتها، وإتباع طريق قتل الزراعة. فقد غابت عن عمل "المجلس" أية خطة تنموية مدروسة.. وسرعان ما تبيّنت المبالغة في الإعلان الأول عن نسب حصة الإعمار من الميزانية العامة. وفي الفترة ما بين أول الخمسينات وعام 1961، أصبحت واردات الدولة من عوائد النفط تساوي أربعة أخماس مجموع الواردات، وهو ما تُفصح عنه الإحصاءات لتلك السنوات على التوالي.
الطور الثاني: صدّام حسين
أسس ذلك لاحقاً لخيار التوظيف الأقصى، أو إخراج العاملين من المجال الإنتاجي نحو الوظيفة، أصبح كمَيل معتمد لتحوير البنية التاريخية الاجتماعية، بغرض إخضاعها وإطفاء مصدر المعارضة والرفض التاريخي المتأتي من بنية زراعية طابعها مساواتي ظلت ترفض الاندراج تحت سطوة سلطات مركبة فوقها.
ومع أنّ البعثية "الصدامية" التي طبعت الطور الثاني من عمر الدولة الحديثة (1968/2003) تمثل كمال مشروع الدولة "الحديثة" العراقية، والتجسيد الأقصى لأغراضها المحركة، إلا أن ملامحها لم تكن غائبة قبل عام 1968. فالميل الى التبذير غير المنتج والتقليص المتعمد لدور الزراعة في الاقتصاد، وتضخيم مجال الوظيفة المطرد، كانت الملامح الأبرز لتوجهات الدولة أصلاً. فقد أنفقت الدولة مليار دينار عراقي من عائدات البترول في الفترة بين 1950 و1963 في غير الوجه المنتج، كما زادت رواتب الموظفين من 53 مليون دينار عام 1960 الى 73 مليون دينار عام 1961، بينما تردى موقع الزراعة في الناتج الوطني من 40 في المئة عام 1950 إلى 30 في المئة عام 1953 وإلى 19 في المئة عام 1961. والفارق بين اللحظتين، أن الأخيرة وُفرت عن طريق الحزب العقائدي، والنواة القرابية، والريع النفطي عناصر نظام ثابت شمولي مستقر، الأمر الذي لم يتوفر لما قبله.
قبل ذلك، وخلال حوالي أربع سنوات بعد أزمة الطاقة (1973) وتعاظم عوائد النفط، كانت "الصدّامية" قد عرفت لحظة استثنائية من الوفرة، مكنتها مع الحزب العقائدي وتغول أجهزة القمع الأمنية، من استكمال عملية الاجهاز على الخاصيات البنيوية، فأنهت دور الزراعة ومجتمعها، من دون تحول إلى الاقتصاد المنتج. ومع أنها استخدمت الوفرة الريعية في التنمية، لكن ذلك على الرغم من إلحاح العقيدة التنموية في حينه، قد حُرف باتجاه تحاشي الصناعة الثقيلة، مع إلحاق اليد العاملة بالدولة، فتمّت في خطوة صارخة الدلالة نزع صفة "الطبقة" من العمال بتحويلهم إلى "مستخدمين" ملحقين بالملاك البيروقراطي الوظيفي للدولة، الموظف الأكبر الذي صار رب عمل لملايين من السكان، عدا منتسبي القوات المسلحة في جيش تعدى قوامه المليون في الثمانينات، خلال الحرب مع إيران.
ولم يخرج سلوك "الصدامية" عن الأغراض والدوافع ذاتها حتى أيام الحصار (1991/ 2003 ) فإعالة المجتمع بـ "بالبطاقة التموينية"، والهرب من إطلاق حملة وطنية للإنتاج، مع حصر عملية إعادة الإعمار مما تهدم في الحرب الأولى 1991 في إعادة بناء الجسور والمباني، واعتماد "تهريب النفط" كمورد للدولة.. كان من قبيل تأكيد نهج ثابت أقصى ما يهمّه ويؤرقه احتمال عودة حضور المجتمع في العملية الإنتاجية، تحاشياً لمترتباتها السياسية. وكانت البعثية "الصدّامية" قبل ذلك قد أفقرت ذاتها والاقتصاد الوطني، ففقدت ما كان فائضا لديها من عوائد النفط وكل ما دخل العراق من تلك العوائد من الثلاثينات حتى 1988، يوم انتهاء الحرب مع إيران ابتدأت عام 1980، ليصبح ذلك الإفقار سبباً ليقظة نزعة الإمبراطورية التاريخية، ولو بطبعة كاريكاتورية، تحت هاجس الخوف من تغيّر التوازنات بين الحكم والمجتمع، ما كان وراء خطوة احتلال الكويت ودخول العراق مساراً آخر.
.. واليوم؟
هذا النمط من السلوك المُفقِر للبنية التاريخية المنتجة وللاقتصاد الوطني، والمعرّض لان يُفقَر بفعل دوافع طاغية على مسلك جماعات الحكم، يعلّمنا بأن الأصل الغالب في إدعاء الحداثة أو "الوطنية" كان يغلِّف نوازع خاصة وضيقة لأهل السلطة والحكم، وأن هذه النوازع تقف فوق أي اعتبار للمصلحة العليا والعامة. وهو ما يتكرر في العراق اليوم في ظروف أخرى، ومع جماعات سائدة ليست تحديثية هذه المرة، بينما مكانة الريع النفطي على مشارف التغير مع فقدان الجهات الحاكمة العنصر المساعد على درء احتمالات تبلور حالة سخط واسعة، باعثها تراجع قدرته على رشوة المجتمع بالوظيفة.
وقد أمكن في الفترة من 2003 وحتى عام 2015، توسيع نطاق التوظيف في الجيش والقوات المسلحة، وإتاحة مسارب التوسيع لمجالات النهب عبر مشاريع غير منتجة، تستفيد منها قطاعات قريبة من دائرة الحكم إبان فترة ارتفاع أسعار النفط. إلا أن احتمال عجز الحكومة عن دفع رواتب الموظفين كما صرح بذلك وزير المالية تحديداً، مع الشروع بتخفيض الرواتب، أصبح بمثابة بداية جديدة، تأتي في أعقاب تحول موارد الدولة خلال السنوات العشر المنصرمة إلى غنيمة يتوزعها المسؤولون الذين أثروا ثراء فاحشاً، متبعين نهجا تقليديا متجددا يمنع أي ميل إنتاجي، بحيث وصل الاقتصاد العراقي إلى الدرجة "صفر" من الإنتاجية، وهو ما يلائم تماما سياسة المحاصصة في النهب، وإبعاد المجتمع عن السياسة الذي يمكن ضمانه عبر تضخيم الشعائر الدينية وتشجيع ممارستها، مع تغذية الانشغالات الطائفية سواء في الممارسة الانتخابية، أو بتأجيج وافتعال النزاعات بين المجموعات والمكونات.
هكذا تعود طبعة أخرى من "الريع المُفقِر/ المُفقَر" العراقي الآن، عبر الإنتاجية صفر والاستيراد المطلق، والمجتمع العاطل عن العمل الغارق في الشعائر، بينما تفقد الجهات المهيمنة والحاكمة وسيلة إلحاق المجتمع بالوظيفة، مع التزايد المطرد في عدد السكان، وتراجع أسعار النفط، ما يبشر باحتمال إعادة اصطفاف قوى المجتمع خارج تقليد التوظيف الذي طال أمده وانتهى بخراب متواصل لبنية الاقتصاد العراقي خلال قرابة عشرة عقود، هي تاريخ ما يعرف بـ "التحديث" و "الدولة الحديثة".