ربما الدهشة، أو اليأس المتأصّل، هما ما يدفع لاعتبار أن تظاهرات تشرين الأول/اكتوبر في العراق حققت غاية لم يكن أكثر المراقبين والمحللين تفاؤلاً يعتقد أنها ستتحقق: تحطيم أصنام المقدس السياسي، أو حتى ذاك الديني/ المذهبي الذي يمد السياسي بهذه القدسية. وربما هي فعلاً غاية ثمينة تحققت، وجسدتها شعارات وهتافات المتظاهرين حين طالت كلّ أطراف العملية السياسية بالنقد والرفض.
تستند أغلب الحركات والأحزاب السياسية في عراق ما بعد 2003، وخصوصاً الشيعية منها، إلى تصدير نفسها كحركات "مقدسة"، تتمتع بوصاية إلهية على الناس، وتمتلك صلاحية إصدار صكوك الغفران بحبر مقدس هو الآخر. فهي غالبأ أحزاب إسلامية أصولية، لها مرجعيات دينية، جديدة أو قديمة.
وعلى مدار 16 عاماً من نشاطها، تعرّضت هذه الحركات والأحزاب لهزّات دفعتها أحياناً لتغيير قشرتها وتنويع أثوابها، سواء بفعل الإنشقاقات أو للإستجابة الى المزاج الجماهيري، في تجسيد واضح للبراغماتية السياسية. فهناك من اصطبغ بالمدنية وآخر رفع شعار العلمانية، وتشدق آخر بالقانون أو بالدولة كمفاهيم أو خطوط عريضة بديلة للإسلام المذهبي الذي انبثق برعايته. لكنها جميعها لم تستطع تغيير طبيعتها ولم تستبدل أداتها الأهم في تسويق نفسها أو تثبيت أقدامها: القدسية.
جذور
ليست جذور تقبل المجتمع العراقي أو خضوعه للمقدس السياسي حديثةَ العهد. وليس لهذا المقدس صبغة واحدة تستند دوماً الى الدين. كان صدام حسين قد بدأ بوضع دعامات ذلك في ذهنية المجتمع بسطوته وإجرامه، وترسيخ فكرة القائد الأوحد الذي لا بديل له. فصار العقل الجمعي في العراق مسلّماً بخلود صدام على كرسي الحكم، ولم يضع في حساباته زوال هذا القائد إلّا بموته البعيد. وحتى بعد الموت - الحلم، كان الناس يعايشون تهيئة نجلَي صدام حسين (قصي وعدي) ليكون أحدهما وريثاً لكرسي أبيه وأجهزته القمعية. أينما ولّى الناس وجوهَهم كان صدام حسين في الأفق، فصار الفضاء العام مليئاً بجدارياته وتماثيله، وازدحم منهاج الإذاعة والتلفزيون الوحيدين بصوره وأخباره. وحتى الأطفال، كان صدام يستقبلهم بصورته في مطلع كل منهاج دراسي، ويبدؤون يومهم بترديد مقولاته الفضفاضة التي كان يعتقد أنها ستبقى خالدة.
تستند أغلب الحركات والأحزاب السياسية في عراق ما بعد 2003، وخصوصاً الشيعية منها، إلى تسويق نفسها كحركات "مقدسة"، تتمتع بوصاية إلهية على الناس، وتمتلك صلاحية إصدار صكوك الغفران بحبر مقدس هو الآخر.
وفي مخاطرة كبيرة، أطلق صدام حسين في تسعينات القرن العشرين "الحملة الإيمانية" في محاولة لسد جوع الناس جرّاء الحصار الإقتصادي، بالتوجه نحو العبادات. كان بذلك يضحي بجانب كبير من شعارات حزب البعث التقدمية ويستبدلها بأخرى إسلامية. وسواء كان يدرك ذلك أم لا، كانت هناك قوىً وشخصيات دينية برزت حينذاك لتستحوذ على نسبة ليست بالقليلة من الذهنية المجتمعية المهيئة أصلاً للإنصات والخضوع.
المقدس في عراق "الديمقراطية"
بعد الإجتياح الأمريكي لبغداد عام 2003 أصبح الوضعُ مؤاتياً لدخول الحركات المعارضة لصدام حسين في معادلة الإقتسام والتحاصص، على أن يستحوذ ممثلو الشيعة على الثلث الأكبر من الأثلاث الرئيسية في المعادل - شيعة وسنة وأكراد – على أساس أن النسبة الكبرى من تعداد العراقيين شيعية. ولم يكن هناك منافس للأحزاب والحركات والشخصيات التي تكوّنت ونشطت خارج العراق في سنوات حكم صدام، وبعضها – الغالب - حركات وشخصيات وأحزاب دينية مذهبية، ترعرع أغلبُها في إيران أو سوريا وبعض بلدان الغرب. كان المزاج الشيعي مهيئاً لمناصرة مَن يهدف الى الإنقضاض على مقاليد السلطة، فعبأ رجال الدين وشيوخ المساجد في المدن والقرى باتجاه ذلك، وصار هتاف الناس في أغلب التجمعات البشرية "ماكو ولي إلّا علي ونريد حاكم جعفري".
أينما ولّى الناس وجوهَهم، كان صدام حسين في الأفق، فصار الفضاء العام مليئاً بجدارياته وتماثيله، وازدحم منهاج الإذاعة والتلفزيون الوحيدين بصوره وأخباره. وحتى الأطفال، كان صدام يستقبلهم بصورته في مطلع كل منهاج دراسي، ويبدؤون يومهم بترديد مقولاته الفضفاضة التي كان يعتقد أنها ستبقى خالدة.
بالإضافة لتعطّش المجتمع الشيعي للسلطة، دخلت المرجعية الشيعية في حوزة النجف على الخط، حين زكّى المرجع الأعلى علي السيستاني مسوّدة الدستور بطريقة أو أخرى. واندفع الناس الى التصويت له دون الإطلاع على محتواها واستيعاب فقراتها. وتكرر موقف السيستاني - بالإضافة لمراجع آخرين - حين بارك قائمة انتخابية بصبغة مذهبية، وإن لم يكن بشكل مباشر. فقد أخذ وكلاء وشيوخ على عاتقهم تنفيذ مهمة التسويق لهذه القائمة، حتى وصل الحال بإشاعة تحريم الزوجة على زوجها إذا لم يناصر هذه القائمة.
وضعت هذه المواقف اللمساتِ الأخيرةَ على قدسيةِ القوى السياسية المزكّاة. وحين بدأ مخزونُ القدسية هذا بالنفاد، كانت الطبقة السياسية التي تتغذى عليه تعمل على صناعة مبررات أخرى لوجودها.. مبررات أخرى لقدسيتها.
خلق مبررات القدسية
قدمت التنظيمات الإرهابية - تنظيم "القاعدة" على وجه الخصوص - خدمة للأحزاب الدينية / المذهبية، فصارت ذريعة لوجودها وتوسّعها وامتلاكها السلاح، وأصبح شعار "الدفاع عن المذهب" متصدراً لكل تبريرات القوى الشيعية. وبقيت القوى السياسية السُنية تخوض تحديّ إقناع مجتمعاتها بالاشتراك في "العملية السياسية" من جهة، والتخلص من تهمة دعم هذه التنظيمات الإرهابية من جهة أخرى (السياسيون السنة متهمون دائماً بدعم الإرهاب، خصوصاً ايام انفجار الصراع الطائفي). أما الأكراد فكانوا في إقليمهم يخوضون في مشروعهم الإنفصالي. فاشتعلت الحرب الطائفية في عام 2006 والتي عززها الخطاب الطائفي للقوى والأحزاب السياسية، وتأييدهم تكوين مجاميع مسلحة مذهبية.
دخلت المرجعية الشيعية في حوزة النجف على الخط، حين زكّى المرجع الأعلى علي السيستاني مسوّدة الدستور الجديد بطريقة أو أخرى. واندفع الناس الى التصويت له دون الإطلاع على محتواه واستيعاب فقراته. وتكرر موقف السيستاني - بالإضافة لمراجع آخرين - حين بارك قائمة انتخابية بصبغة مذهبية، وإن لم يكن بشكل مباشر.
وفي تكرار للمشهد القاتم، أعاد دخول تنظيم "داعش" إلى العراق واجتياحه ثلث مساحته تقريباً الحياة لهذا الخطاب، كما أعاد الحياة أيضاً لمجاميع مسلحة كانت لعبت دوراً رئيسياً في الحرب الطائفية، كـ"جيش المهدي" التابع لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر –تحت مسمى "سرايا السلام" هذه المرة. وكان الباب واسعاً لدرجة ظهور فصائل مسلحة أخرى، كوّنت القاعدة الأساسية لـ"قوات الحشد الشعبي" – أطلق عليه فيما بعد "الحشد الشعبي المقدس".
احتجاجات العراق: عن أي ديمقراطية نتكلم؟
29-10-2019
كلها بذريعة الدفاع عن المقدسات والأعراض بوجه التنظيم الإرهابي، مستمِدة قدسيتها من فتوى المرجع الأعلى علي السيستاني بالجهاد الكفائي. ثم تحولت إلى حركات سياسية جديدة خاضت إنتخابات 2018 البرلمانية تحت لواء "قائمة الفتح" التي فازت بـ 47 مقعداً برلمانياً وكوّنت حكومة رئيس الوزراء – التوافقي - عادل عبد المهدي بالتنسيق مع كتلة "سائرون" التي تتبع الصدر.
كل ذلك جرى بمعزل عن اهتمامات جيل جديد لم يجرّب الخنوع لسطوة صدام حسين، ولا تُجْدي يافطات المقدس السياسي نفعاً معه. جيلٌ تفتّحت مداركُه على الفشل المتكرر لحكومات ما بعد 2003، ونشأ مع الثورة الرقمية التي تتيح له المقارنة بين بؤس حياته ومشاهد الراحة في حياة مجتمعات أخرى.
جيل ساخط
على مواقع التواصل الإجتماعي، كان الجيل الذي ولد بين مطلع تسعينات القرن العشرين وبدايات الألفية الجديدة، يُعرف بسخطه على كل شيء. وهذا الشيء الوحيد الذي عُرف عنه. أداته السخرية التي أطلقها على كل شيء. لم يكن متابعاً لطبقة المثقفين اللذين كانوا يكتبون ويُنظّرون على الطريقة القديمة، الطريقة التي لا يمكن لها فهم هذا الجيل الجديد أو مخاطبته.
وبدافع خلوّ حياتهم من مقوّمات الحياة، وانعدام القدرة على ضمان الغد، أو حتى تبين ملامحه، خرج هؤلاء الشباب في الأول من تشرين الأول/اكتوبر محتجّين على فساد الطبقة السياسية، ومدركين أن النظام السياسي أرضٌ لا تُنبتُ سوى الفساد والخراب. خرجوا دون انتظار وصاية من أحد، ولا تزكية من قائد ديني أو مذهبي أو سياسي، ودون قيادة حتى، ليهدموا في طريقة خروجهم هذه أول أسوار "المقدس" الذي اعتاد تحريكَ المجتمع وتوجيهه. وتركّزت التظاهرات الإحتجاجية في العاصمة والمحافظات الجنوبية ذات الغالبية الشيعية.
على مواقع التواصل الاجتماعي، كان الجيل الذي ولد بين مطلع تسعينات القرن العشرين وبدايات الألفية الجديدة، يُعرف بسخطه على كل شيء. أداته السخرية التي أطلقها على كل شيء. لم يكن متابعاً لطبقة المثقفين اللذين كانوا يكتبون ويُنظّرون على الطريقة القديمة، الطريقة التي لا يمكن لها فهم هذا الجيل الجديد أو مخاطبته.
ذاك الجيل الشاب لم يجرّب الخنوع لسطوة صدام حسين، ولا تُجْدي يافطات المقدس السياسي نفعاً معه. فقد تفتّحت مداركُه على الفشل المتكرر لحكومات ما بعد 2003، ونشأ مع الثورة الرقمية التي تتيح له المقارنة بين البؤس المدقع لحياته ومشاهد الراحة في حياة مجتمعات أخرى.
في المقابل، واجهت السلطة - وليدة المقدّس - خروجهم بالرصاص. وساق زعماءُ الأحزاب عليهم اتهاماً بأنهم "أداة أمريكية صهيونية سعودية"، حيث يغيب عن المشهد العام أيُّ تنظيم إرهابي يمكن إلصاقهم به، بعد أن أعلنت السلطات تحرير أراضي العراق بالكامل من تنظيم داعش في كانون الاول / ديسمبر 2017. لكن ذلك لم يُثنهم، فاستمروا بمراوغة رصاص القناصة والهتاف ضد أحزاب السلطة والنفوذ الخارجي في العراق.
موجة عصيّة على الركوب
قبل عودة حركة الإحتجاج في 25 تشرين الأول /اكتوبر، بعدما كانت قد توقفت مع ذكرى أربعينية الإمام الحسين، بادر بعض رجال الدين لتزكيتها والدفاع عن المتظاهرين، وفي مقدمتهم المرجع الأعلى علي السيستاني وزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر. لكن ذلك لم يوقف السلوك العنيف للقوات الأمنية فارتفعت أعداد الشهداء إلى نحو 400 بالإضافة لحوالي 12 ألف مصاب، ومئات المعتقلين والمغيبين. وبدوره لم يوقف العنفُ سخطَ المحتجين على الطبقة السياسية، خصوصاً تلك المرتبطة بإيران. فكان الهتاف الأعلى هو "إيران بره بره، بغداد تبقى حرة"، وأُحرقت صور زعماء الأحزاب وصور المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي ومقرّات الأحزاب السياسية - الأغلب الأعم منها أحزاب وحركات دينية - في محافظات الجنوب. وفي واحدة من أكثر اللقطات الفوتوغرافية انتشاراً: شابة محجّبة في التظاهرات ترفع لافتةً كُتب عليها "لا بعث لا ايران لا برزاني لا مقتدى ولا سيستاني". ورُسم على الأرض في بداية جسر الجمهورية المقابل لنصب الحرية في ساحة التحرير، مركز تظاهرات العاصمة بغداد، علَمَا أمريكا وإيران لتمرّ عليهما أحذية المتظاهرين هناك، في إشارة منهم بأنهم لا ينتمون لأيّةٍ من الدولتين أو أيّةٍ من الجهات السياسية المرتبطة بهما.
صفحات أخرى للخسران
لم يكن الإحتجاج الصفعة الوحيدة للقوى السياسية المذهبية، بل تجسد ذلك مراكز الإحتجاج وأماكن فورته أيضاً. فهم - السياسيون الشيعة - يعتبرون المحافظات الجنوبية مفقساً للأصوات الإنتخابية التي تصل بهم للكراسي، وامتداداً مجتمعياً لخطابهم وسلوكهم السياسي. لكن الشباب في تلك المحافظات تجمعوا أمام المقار التابعة لهذه الأحزاب وأمام بيوت السياسيين، وأحرقوا بعضها بعد سقوط العشرات برصاصٍ صَدَرَ من هذه الأماكن والمقار. وليس ذلك غريباً على محافظة كذي قار أو البصرة، التي احترقت مقارّ الأحزاب والفصائل المسلحة فيها على هامش تظاهرات 2018، لكنه جديد على محافظة وديعة، يعتبرُها زعماءُ السياسة المذهبية "مضمونة"، كمحافظة كربلاء التي تضم مرقدَي الإمامين الحسين والعباس، حيث احتشد متظاهروها أمام مقر القنصلية الإيرانية واستبدلوا علم إيران الذي يعتليها بعلمٍ عراقي، وعادوا في يوم آخر بعد أن فرّقتهم القوات الأمنية من أمامها بالرصاص الحي، ليضرموا النار بمحيطها، في أقصى تعبير عن سخط الناس من النفوذ الإيراني وامتداده المتمثل ببعض الأحزاب والفصائل (المقدسة!).. التي تحولت لغة أعضائها من التخوين والشَيطنة إلى التضامن مع المحتجين.
الحلم الذي صار حقيقة
بعد اشتداد الاحتجاجات، جرّبت السلطات والكُتلُ البرلمانية كلَّ أوراقها من أجل امتصاص زخم التظاهرات: تسابقت الرئاسات الثلاث (رؤساء الجمهورية والوزراء ومجلس النواب) نحو إلقاء خطابات وإصدار كلمات وإطلاق وعود، وتقاسم ممثلو وزعماء أحزاب السلطة شاشات التلفاز لإجراء مقابلات عبّروا من خلالها عن تضامنهم مع مطالب المحتجين واجتمعوا على مشروعيتها، بعدما كانوا خوّنوها، واستنكروا العنف الذي تعرض له المتظاهرون – على الرغم من استمراره وتضاعف وتيرته.
لكنهم، جميعهم، يجيدون الالتواء إذا ما سُئلوا عن إمكانية تحقيق المطالب الجوهرية للمحتجين والمتمثلة بعزل ومحاسبة الحكومة، وتعديل الدستور، وتغيير قانون الإنتخابات بآخرٍ منصف. هذا الشيء لم يعد خفياً على ألأبطال الجُدد للمشهد العراقي، حيث يستمرون بتأدية الدور الذي عجزت أجيالٌ سبقتهم عنه، ويملؤون ساحات الإحتجاج بهتافاتهم وأعلامهم، غير آبهين بالرصاص أو القنابل المسيلة للدموع، ولا بتصريحات السياسيين، في مشهد لم يكن أكثرُ صنّاع السينما إقتداراً ليجسدوه.
حتى وإن لم تأت إحتجاجات التشرينين (اكتوبر ونوفمبر) بجميع مطالب المحتجين، لكنها، بفضل شبابها، فتحت سبيلاً جديداً للمواقف الشعبية، سبيلاً يسير فيه الناس دون الحاجة لمرشد أو فتوى، ونزعت لثام "القدسية" مِن على وجوه أحزاب السلطة لتصبح مكشوفةً أمام الناس، عاريةً من خط دفاعها الأهم.
وحتى إذا بقيت الشخصيات والأحزاب ذاتها متصديةً لمفاصل الحكم، فلن تكون بمأمن من سخط الشباب في المستقبل بعد أن اهتزت أركان قدسيتها مع اهتزاز أول كتفٍ في ساحات الإحتجاج.