يتنامى مؤخرا اعتقاد بان صعودا لما يمكن تسميته "السيستانية" قد بدأ. ومع أن عوامل متشابكة ما تزال تحول دون تشكل ملامح الظاهرة الجديدة، إلا أن الأدلة عليها لم تعد قليلة. والمؤكد أن مرجعية النجف، واستنادا لذاكرتها التاريخية، قررت ــ راغبة او مضطرة ــ عدم تضييع فرصة استعادة دورها القيادي على المستوى الوطني، في حقبة ما بعد الحداثة ونهاية مرحلة الوطنية الحزبية والإيديولوجية التي استمرت غالبة منذ الثلاثينيات وحتى 2003. ولو تسنى لهذه العملية ان تتكامل، فان نمطا أو "طبعة عراقية" من "ولاية الفقيه" تكون قد بدأت، وهو تحد يشبه ذاك الذي واجهته الصفوية مع التشيع العراقي الذي انتج في العصر الحديث "نظام الاجتهاد" و "التقليد" و "الحوزة".. مما تكرس لاحقا واعتمدته المراكز الشيعية كافة في العالم.
التّطابق مع بنية المكان
ستكون النّجف أمام امتحان التّناغم مع مقتضيات التعبير الوطني التعددي الشامل، بعد نجاحها التاريخي في التناغم مع الخاصيات الجزئية إبان فترة التشكل الوطني ما قبل الحداثي،عندما توافقت مع خاصيات المساواتية والديموقراطية الفطرية للبحر القبلي المحارب الذي نشأت ضمنه. والاغلب انها ستركز على المصالحة الفعلية بين المكونات العراقية، أو تميل لتبني آلية "المؤتمر الوطني التأسيسي"، حيث تتركز ضرورة واحتمالية تحقق النصاب الوطني بتلازم التعددية والوحدة الوطنية، أي الفعالية المشتركة الحرة لمكونات المجتمع الاساسية، ما يتطابق مع بنية "نظام الاجتهاد العراقي" وطبيعته.
يُتوقع لمثل هذه الاستعادة للطاقة الوطنية العراقية أن تفتح باب استعادة التوازنات الاقليمية المختلة منذ غياب العراق، الكيان الدينامي المزدحم بالطاقات البشرية والثروات، مع غزارة وألق الماضي والموقع، ما جعله نقطة حفظ، أو بالعكس، تبديد مثل هذا التوازن تاريخيا، مع كل ما يعنيه ذلك في ظل الاختلال واضطراب أوضاع الإقليم اليوم.
ولكي تتضح أبعاد مثل هذا التطور الاستثنائي، تلح العودة لتاريخ التشيع الحديث، أي الصفوي، الذي انتقل لإيران من أذربيجان، وتحوَّل على يد عباس شاه الى حركة "تشييع" بالقوة والسيف، ومن ثم الى سلطة يتبعها "فقيه". وأول فقيه ألحِق بالسلطة هناك هو المحقق الكركي، اللبناني الأصل، كان قد انتقل من النجف إلى إيران، ملبيا طلب شاهها الصفوي الثاني، لتقوم بينه وبين مرجع نجفي آخر هو القطيفي، محاجة علنية، حرَم فيها ممثل التشيع العراقي الالتحاق بالحاكم وإن كان شيعيا. وبدل الحكم والسلطة الوراثية، قامت في العراق بعد القرن الثامن عشر حركة تجديد دينية، ونشأت في النجف "دولة - مدينة غير سلطوية" لا تستعمل العنف ولا تحتكره، تقوم على مفعول العقيدة، ويسودها نظام داخلي تعددي في "الاجتهاد" و "التقليد" وأساليب التدريس في "الحوزة".
ذلك هو نظام "ولاية الفقيه" العراقي، أي ولاية "المجتهد الأكبر". هذا النمط من الولاية لا يقيم سلطات وحكومات، ويمارس نفوذه وكأنه "نظام لا ـ دولة" برأس اكبر ورؤوس متعددة، ليست بالحتم اصغر، ويستمد بنيته من طبيعة مكانٍ خاصياته البنيوية مساواتية تشاركية ديموقراطية فطرية، انجبت على مر التاريخ نماذج سلطات وظواهر من هذا النوع، آخرها "القرمطية"، استجابة لطبيعة الوحدات الزراعية المحاربة. مثل هذا الشكل من الظواهر ظلت ملامحه مطموسة أو غير مقنَنة لصعوبة تجسيدها مفهوميا، بينما الصفوية نمط معروف وتقليدي من الحكومات، يسهل إبرازه وإشاعة تصورات مبالِغة حوله. وبينما قامت النجف في العصر الحديث بـ "تشييع" القبائل السنية بعد القرن الثامن عشر في الجنوب العراقي والفرات الأوسط، سلماً، بواسطة الدعاة "الموامنة" المتغلغلين بين العشائر، قامت الصفوية بـ "تشييع" الإيرانيين بالقوة والسيف.
انتهاء "العملية السياسية"
والآن يلوح في الأفق تحول يأتي على أنقاض "العملية السياسية الطائفية المحاصصاتية" التي أرساها المحتلون الأميركيون منذ 2003، وفي لحظة انهيار هذه العملية وفقدانها مبررات الاستمرار، وذلك برغم أن مثل هذا التحول لا يزال لم يُلحظ على نطاق واسع لسببين رئيسيين: أولهما غياب السردية الفعليّة لتشكل العراق الحديث لمصلحة تصورات إيديولوجية مجتزأة، تلغي التاريخ الحديث السابق عليها، استمرت هي الغالبة خلال فترة ليست قصيرة. وثانيهما مصدره خاصيات تُميِّز الجهة الأهم في التمخضات الراهنة والمنتظرة. فالمرجعية النجفية العراقية تعتمد في الممارسة "سياسة الكتمان" واخفاء النوايا الى الحد الاقصى، ما يجعل خطواتها " التكتيكية" غير كاشفة أو مؤشرة على استهدافاتها الإستراتيجية. وهذا مبدأ يمكن استخلاصه من سيرة المرجعية على مدى تاريخها منذ تبلورت في العصر الحديث. وكمثال، فإن الفتوى التي أصدرها السيد علي السيستاني في حزيران/يونيو من العام المنصرم، اثر احتلال "داعش" للموصل ومحافظات عدة من شمال بغداد، لم يتسنَّ لأي من المتابعين قراءتها بدلالاتها المحتملة ونتائجها. ويشمل هذا من هم بموقع الحكم أو يظنون ذلك أو يأملون باستمراره، من قادة "العملية السياسية"، أو من النخبة المنسوبة لما يعرف بالقوى العلمانية، ما منعهم من ملاحظة السياقات التي اصدرت في غضونها فتوى الجهاد، فلم يكشف أحد منهم عن اعتقاده بأن الفتوى يمكن أن تكون مؤشرا على انقلاب في المسارات والأوضاع.
الفتوى التي اصدرها المرجع السيستاني بالجهاد، هي الاولى الصادرة عن المرجعية النجفية منذ قرن بالتمام والكمال. وخلال القرن الماضي، لم تكن المرجعية النجفية أصلا تحتل موقعا متصدرا في الحياة الوطنية، فقد أخلت مكانها للقوى الإيديولوجية الحزبية و "للدولة الحديثة" بسرعة لافتة منذ أواسط العشرينيات. وبعد آخر تظاهرة وطنية قادتها عام 1920، تراجع نفوذها بقوة تاركة فراغا قياديا سرعان ما ملأته الأحزاب اليسارية والقومية والليبرالية، في حين بدا ظاهريا ان الآليات "الحديثة" في قيام وعمل الدولة ومختلف جوانب الحياة غدت هي المتغلبة كليا، وبحكم أجواء العصر الأوروبي، وما عُرف بحقبة النهضة الحديثة في المنطقة، إذ ترسخ المفهوم والخطاب الحداثيان، وكأنهما تعويض إيديولوجي دافِعه العجز عن بلورة مفهوم وطني عام، على الرغم من مساس وإلحاح الحاجة إليه.
بدأ تشكل المجتمع العراقي الحالي اثر توقف عملية انهيار البنية الحضارية بعد سقوط بغداد واحتلالها على يد هولاكو عام 1258، فتراجع عدد السكان من 31 مليون نسمة حسب تقديرات متواترة، الى ما دون المليون، بفعل الاحتراب الداخلي المستمر بين الزرّاع، والأوبئة والطواعين.. إلى أن بدأت مفاعيل الانهيار تتراجع بحدود القرن السابع عشر، لمصلحة عودة النمو السكاني، وظهور التجمعات القبلية الكبيرة، وأولها "اتحاد قبائل المنتفك"، متَّبعة قوانين التشكل الوطني العراقي التاريخية نفسها، صعودا من الأسفل جنوبا إلى الأعلى شمالاً، كما تكرر في الدورة الحضارية الأولى، من سومر الى بابل، والثانية من البصرة والكوفة إلى بغداد، أي انطلاقاً من موضع الدينامية والفعالية الحضارية التاريخية، وركيزة تشكل الملامح والسمات الكيانية والوطنية. في هذا المكان قامت في العصر الحديث الحركة التجديدية الدينية، فتمكنت النجف من تشييع القبائل السنية في الجنوب بعد اندثار التشيع القديم، متدامجة مع البحر العشائري وانتفاضاته المسلحة التي لم تكد تتوقف ضد الحكم العثماني، ومانحة اياه قوة اضافية، ومقوما عقيديا مناهضا للتسلط وللدولة.
خلال الحقبة الإيديولوجية، تفاعل الفكر الشيعي مع المناخات المتغلبة، وظهرت مواجهات فكرية متميزة مع "العصر" وموضوعاته، كان ابرزها مجهود المفكر الإسلامي "محمد باقر الصدر". كما اسهم "صادق صادق الصدر" في محاولة تجديد أسس "المرجعية"، ومارس عمليا مفهوم "مرجعية الميدان"، أو "المرجع مبسوط اليد". كما أسست وقتها أحزاب وفق البنية العصرية، مثل حزب الدعوة الاسلامية، وتيارات اخرى برزت للصدارة بعد الاحتلال الأميركي، إلى جانب ــ وأحيانا بتعارض مع ــ "المرجعية التقليدية". وظل من الملاحظ وقتها ان الاخيرة لم تنخرط في الحكم الذي أقيم بعد عام 2003 بصورة مباشرة، بينما انغمست جميع التيارات والاحزاب الشيعية في التركيبة التي أقامها الاحتلال، بما في ذلك تلك التي رفعت السلاح بوجهه مثل التيار الصدري، وفي وقت كانت "العملية السياسية الطائفية"، تثبت كل يوم فسادها وعدم أهليتها وعجزها عن إقامة نظام يضمن المشاركة العامة، عدا استباحتها ونهبها للمال العام، وعزوفها عن كل ما يمت بصلة لتأمين الخدمات للمواطن، أو تنمية البلاد، أو توفير الأمن، فقد وصلت اخيرا لحد الانهيار امام "داعش" بدون مقاومة، ما اوحى باحتمال ضياع السلطة مِن يد مَن اصبحوا يتمتعون بالأرجحية السياسية للمرة الاولى.
النجف يمسك بالوضع
بالتزامن مع تردي "العملية السياسية"، كانت المرجعية النجفية تبتعد عنها، ووصل الأمر لحد رفض السيستاني اللقاء بالسياسيين، قبل ان يعلن رفضه عودة المالكي للاضطلاع بدورة ثالثة كرئيس للوزراء. الا ان اللحظة الفاصلة في موقف المرجعية السيستانية جاءت مع احتلال داعش للموصل في حزيران/يونيو الماضي. فالفتوى التي صدرت عنها كانت قرارا بالإمساك بالوضع وتهميش "العملية السياسية". ومع تعاظم دور "الحشد الشعبي" (أكثر من مليون متطوع) وتفكك الجيش الحكومي وسوء أدائه، لم يعد للحكم والاحزاب والتيارات الضالعة في "العملية السياسية" من أمل في الاستمرار في إدارة الأوضاع من جديد.
دفع هذا التطور الكبير والحاسم، ببعض الشخصيات في إيران لإصدار تصريحات عصبية مستفزة، رد عليها السيستاني عبر ممثله احمد الصافي، مؤكدا على السيادة الوطنية العراقية، مع قبول المساعدة من الجميع لأجل دحر الإرهاب. وكان قبلها قد جرى الترويج، عبر بعض القنوات التلفزيونية والميليشيات، لمبايعة نوري المالكي رئيسا للحشد الشعبي، وذلك لانتزاع الاخير من يد المرجعية، الأمر الذي أثار حفيظة الحشد على المالكي، وزاد في تشويه صورته.
ويعبر الأميركيون اليوم عن قلقهم من هذه التطورات الأخيرة، كما اتضح خلال معركة تكريت حيث امتنعوا عن المشاركة فيها بطيرانهم، ناهيك عن تصريحات رئيس الاركان الاميركي المستنكِرة والمرتبِكة أمام احتمال استرجاع تكريت من يد "داعش"، وبدء الانتقال لمرحلة تحرير الموصل.. ما يعني تكريسا لسلطة المرجعية، أي بداية صفحة جديدة من تاريخ العراق.