مبعوثة إلى الصين

بما أني كنت مقربة جداً من أبي، فقد استدعيتُ الى وزارة الخارجة العراقية على عجل، وبسرية تامة. كان الوصول مضنياً، لأنني اضطررت لتغيير مسارات عدة. فالرقابة الصينية كانت صارمة، وأجهزتنا كلها اخترقت، وإخباري عن ضرورة مجيئي الى بلدي، الذي لم يسبق لي العيش فيه، جاء بالاتصال المباشر. كان المطلوب شيئاً ما غير عادي. والدي توفي قبل أكثر من عشرين سنة، وها أنا الآن في منتصف الستين، ومن القلائل
2014-03-26

عبدالأمير الركابي

كاتب من العراق


شارك
عن الانترنت

بما أني كنت مقربة جداً من أبي، فقد استدعيتُ الى وزارة الخارجة العراقية على عجل، وبسرية تامة. كان الوصول مضنياً، لأنني اضطررت لتغيير مسارات عدة. فالرقابة الصينية كانت صارمة، وأجهزتنا كلها اخترقت، وإخباري عن ضرورة مجيئي الى بلدي، الذي لم يسبق لي العيش فيه، جاء بالاتصال المباشر.
كان المطلوب شيئاً ما غير عادي. والدي توفي قبل أكثر من عشرين سنة، وها أنا الآن في منتصف الستين، ومن القلائل الذين يتقنون اللغة الصينية ويملكون شيئاً ما رأت الحكومة العراقية ان له مفعول السحر. تذكرت وقتها ما رواه لي والدي عن ذهابه الى العراق اواخر القرن الماضي، عندما كان الاميركيون يتهيأون لاحتلاله. حينها قرر أبي مع بعض رفاقه في المعارضة التفاوض مع نظام صدام حسين، وتقرر اختياره هو للقيام بتلك المهمة، فاضطر لدخول العراق خلسة في صندوق السيارة عبر الحدود الاردنية.
كانت الاخبار قد تسربت عن نية الجنرال «ياو سين باو» الحاكم الصيني المنتدب، تنفيذ خطة إزالة العراق من الخارطة. لقد دافع هو عن نظريته حول إلغاء هذا الجزء من العالم، متحججاً بأنه «قديم جداً وغير نافع». مقدم البرنامج الذي حاوره ـ ولا نعرف إذا كان حقيقيا أو مفبركا ـ سأله: «أليس من الوجيه ان تتم المحافظة على مكان له هذه الأقدمية الحضارية؟» فأجاب: «ينبغي أن لا يفهم موقفي على انه إلغاء كلي من الوجود، نحن حريصون على الحفاظ على الذاكرة البشرية، وقد هُيِّئت كافة المستلزمات لتصوير كل ما يتعلق بهذا الموقع، لكننا نبدأ اليوم عصر تجديد العالم. هنالك أمم وأماكن تتحول الى تراث محفوظ للدارسين. إنها أمم اثرية كما كان عليه الأمر في الماضي، اقصد أن نوع المتاحف تغيّر». عاد المذيع وسأله: «سيدي الجنرال، قد تكون الفكرة جديدة ولا يفهمها الجمهور، فالمفترض أن هذه الشعوب تظل حية كي تشارك في صنع الحياة والمستقبل». هنا ضحك الجنرال قبل ان يجيب قائلا: «نعم هذا سؤال جيد ومنطقي، فالحكم على شعب بالزوال ليس من حق احد، لكن العلوم اثبتت أن هناك أقساماً من البشرلم تعد تملك ما تعطيه للحياة. لقد ادت وظيفتها، وصار علينا ان نكرمها بأن نحفظها في الذاكرة بكل إجلال».
لم يكن القرار مقبولا، ومع كل التضليلات والتشويش الصيني على امتداد المعمورة. تم تناقل الخبر، وسمع عن تظاهرات على وسائل التواصل، بعضها تحول الى لقاءات في الشوارع عبر مدن وعواصم مختلفة. تذكرت مرة أخرى ما كتبه أبي في مذكراته عن خروج 13 مليون متظاهر، قبل اكثر من نصف قرن، في العالم أجمع، ضد الحرب الاميركية على العراق. ولكن السطوة التكنولوجية الصينية على المعمورة الآن، تكاد تصل حد «صيننة» البشر، حتى على مستوى الخبر والموقف منه. لقد أحكمت الصين سيطرتها على كل شيء، والخوف الذي ينبئ به قرار ازالة العراق، هو عما اذا كانت الصين قررت ان يسود العالم جنس واحد هو جنسها الاصفر.
حين دخلتُ احد مكاتب وزارة الخارجية العراقية، شعرت بثقل الاحتياطات الامنية المتخذه في قسم الامن الخارجي في الوزارة. كان الموظف يحاول إخفاء قلقه، قال لي فوراً: «لا بد انك تعرفين ان المرحوم والدك كان كتب مرة عن علاقة بين بغداد العباسيين والصين، انقذ فيها الخليفة العباسي عرش الامبراطور الصيني». وأردف مكملا: «نحن بحاجة لهذا المقال، الأمر غاية في الأهمية ونريدك انت بالذات مبعوثة خاصة لإقناع الحكومة الصينية بالعدول عن فكرة ازالة العراق من الخارطة». عدت من توي الى منظّمي فوجدت المقال، الذي كتبه قبل وفاته بأكثر من عشرين عاما في جريدة مغمورة، كان يصدرها شخص فلسطيني: «بغداد تنقذ عرش الصين، لعبد الأمير الركابي»، قال فيه إن احد أباطرة الصين فقد عرشه وطلب النجدة من الخليفة العباسي، الذي بعث له بعدة آلاف من الفرسان وصلوا بفترة زمنية قياسية، لانهم كانوا يجدون في كل محطة وصلوها خيولا مستريحة يمتطونها إلى أن بلغوا مقصدهم وتمكنوا من إعادة امبراطور الصين لعرشه»، وفي المقال بأن «علاقات تجارية نشطة كانت تربط العراق بالصين، وان سفن الصين كانت تصل بحر النجف الذي جف الآن».. ويضيف بأنه «رأى بحر النجف في طفولته». فرح موظف الخارجية وقال: «من السهل على الصينيين أن يثبتوا هذه الوقائع عن طريق «الكاشف الضوئي للوقائع الماضية»، كما انك ستقومين حتماً بإقناعهم بضرورة أن يعدلوا عن نيتهم، علماً أن معلومات وصلتنا تقول إن مهمة إزالتنا من الخارطة لن تتحقق قبل عشر سنوات من الآن في اقل تقدير».
قلتُ للموظف: «اقترح ابنتي شهرزاد للمهمة، لقوة منطقها وشخصيتها الطاغية، ثم انها تتقن أفضل مني اللغة الصينية... وقلوب الصينيين ستخشع لجمالها». تمنيت ساعتها لو أنني تناولت دواء «دكتور جيمس» الذي اكتشف قبل 15 سنة بروتيناً يعيد الناس 50 عاماً إلى الوراء. لكن الصين اختطفت الرجل، ووضعت اكتشافه تحت «منظم الكشف»، بحيث لا يمكن أبداً تكراره او استعادته. فسياستها كانت منع سائر الأمم من التكاثر. والمقاومة في كل مكان تحاول كسر رغبة الهيمنة الصينية الطاغية، ونية جعل الأرض من جنس واحد. كان البشر يتصورون انهم سوف يبتعدون بمرور الزمن عن الطغيان، وهاهم يتعرضون لخطرالإفناء.. ويقاومون.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

الثورة الأخيرة

كتب الكثير عن حدث 14 تموز 1958 العراقي، من دون أن تذكر الثورة، أو بالأحرى أن الثورة لم تجسَّد من حيث الوقائع الدالة عليها أو التي هي روحها. ربما تكون...