عاشت فدعة، الشاعرة العظيمة، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في جنوب العراق. فبعد الانهيار والفوضى الشاملة اللذان أعقبا سقوط عاصمة الخلافة العباسية على يد هولاكو العام 1258، والتي استمر طغيانهما على الحياة العامة لقرون، بدأ الانهيار بالتوقف مع القرن السابع عشر، وظهرت أولى علائم التشكل الوطني الحديث، مع تكوّن «الاتحادات القبلية» في جنوب العراق، بينما اضطلع بالقيادة من كان من رؤساء القبائل متلاحماً مع أبناء جلدته من الزرّاع المساواتيين المحاربين، أعضاء « الدِيَر»، في مجرى الصراع مع الولاة المماليك، والحكم العثماني.
بدأت تلك الزعامة القبلية تتكرس في القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين، بوصفها أول أشكال الزعامة الحديثة، قبل أن تحل مكانها الزعامة الدينية الإصلاحية، لتصبح الأولى جيشها المحارب وكتلتها البشرية التي تستند اليها في الفصول اللاحقة من الصراع مع الحكم العثماني... خلال الحقبة الأولى، القبلية، وذروتها، برزت مجموعة من الزعامات القيادية، منها سليمان الشاوي الذي قام بفعل شبيه بفعل السموأل، حيث حمى دخيله، وعرّض قبيلته ونفسه لانتقام الوالي. والمعروف ان الشاوي هو احد امراء قبيلة عبيد القريبة من بغداد، وكان شاعراً ومثقفاً معدوداً بمقاييس ذلك الوقت. وظهرت شخصية محمد الحمد وهو أحد مشايخ «تحالف المنتفك» القبلي، وعرف بعصيانه وتكرار مقاتلته العثمانيين على مدى عشرين عاماً على رأس قبيلته بينما هو «أعمى»، كذلك عرفت شخصية الشيخ الأمثولة «حمد آل حمود» رئيس الخزاعل، وهذا الأخير تحوّل لاحقاً لأسطورة، ما تزال تُذكر بين الناس حتى اليوم، بينما تروى أفعاله البطولية والمناقبية. وظهرت شخصية من غير هذا الصنف، ولظهورها دلالة خاصة، هو «حسن الصويح»، صديق وغريم حمد آل حمود، والذي شكّل معه ثنائياً يذكر بثنائية «كلكامش ـ انكيدو» الشهيرة.
صانعة أخيها، صانعة الاسطورة
غير أن أغرب شخصية عرفتها تلك اللحظة كانت شخصية نسوية. وُجدت في صلب تلك اللحظة امرأة شاعرة من طراز استثنائي، فاحتلت في تضاعيفها مكانة غير عادية، لدرجة أن دورها أصبح لا يمكن الاستغناء عنه أو إزالته من المشهد العام، لا بل لا يمكن تخيّل المشهد من دونها، ومن دون ما فعلته وحققته. ومع أن أُخوّتها لـ«حسن الصويح»، غريم وصديق «حمد آل حمود» تبدو للوهلة الأولى وكأنها هي العامل الذي هيّأ لفدعة الدخول إلى المسرح، إلا أن هذه الناحية على وجه الخصوص تلفت بحد ذاتها الانتباه لاستثنائية هذه المرأة. فـ«فدعه»، كما يُروى عنها، لم تكن مجرد أخت حسن الصويّح، فهي تكبره عمراً بأكثر من ثماني سنوات، وقد اعتنت بتربيته منذ ولد، بل يمكن القول إنها «صنعته». وهناك بيت من الشعر لها قالته وهي في عمر التاسعة، أثناء ما كانت تهزّ مهده، تنبأت فيه «بحسن» الشخصية التي لا حدود لإرادتها، وظل هو يسمع منها أشعاراً تقولها بحقه، وهو طفل لم يصل بعد حداً يؤهله للتعبير عن ذاته وخصاله. لقد صنعته فعلاً، وكانت تهيئه كما يهيئ شخص وسيلة يُعدّها لمعركة يشرف على خوضها. و«فدعة» هنا متنبئة وجوداً وصيرورة، وهو ما يعززه شعرها وكلامها العجيب، باعتبار ما كان متعارفاً عليه شعرياً ولغوياً. فالناس لم يسبق أن سمعت من قبل بمثله، أو ما هو قريب لجزالته واستدعائه العقل للتوقف الحائر أمام مراميه، ما أهّلها لان تحتل موقعاً لا يُمحى في عالم الثقافة الشفاهية العراقي في حينه، ولأن يتحوّل شعرها إلى تداول تصمد منطوياته لامتحان الزمن، ولا تتوقف أو تنضب، فلا يكفّ أهل المنطقة في بيوتهم ومضايفهم الى اليوم من التغني بها ومعالجة دلالاتها.
راوية الوقائع التاريخية ومؤبدتها
تشير وقائع العلاقة بين حمد آل حمود وحسن الصويّح للحظة اندماج سكان الأهوار، أي مربي الجاموس، بالبحر الفلاحي. فالأول قرر أن يتخذ من الثاني صديقاً له يجالسه وينادمه، متعللاً بكونه ضيفه، لأن حسن الصويّح كان نازحاً من أقصى الجنوب مع جواميسه، الى ارض الخزاعل في منطقة الديوانية. وهذا أثار حفيظة أبناء الخزاعل، لأنهم كانوا يأنفون من مجالسة «المعيدي»، ويعتبرونه أدنى منزلة ومكانة منهم كفلاحين محاربين. تماماً كما تعكس هي الأخرى قصة «كلكامش وانكيدو» قبل آلاف السنين، تلك اللحظة من توسّع التشكل الاجتماعي. غير أن الحالة الراهنة اتخذت سياقات ووسائل تعبير مختلفة، وبدل «القوة العضلية» قديماً، حلت قوة الفطنة والامتحان العقلي اليوم، فكان حسن الصويّح يخضع لاختبارات لا تنتهي يعالجها بقوة الذكاء وسرعة البديهة. ومع عودة حمد آل حمود في كل مرة لتعريضه للاختبار علناً، وبحضور أبناء الخزاعل، وتكرار نصب الفخاخ له، ظل الصويّح يثبت دائماً قدراته العقلية الخارقة، فيحل الألغاز ببديهة وفطرة تسقط بيد الخزاعل، وتجبرهم على الإعجاب بهذا الضيف الأدنى اجتماعياً، ولكن الأرفع عقلاً ومعرفة.
شعر حديث قبل ثلاثة قرون
وفي تلك الأحاجي الصعبة، كانت «فدعة» تلعب دور الراوي، وهي تُعلي من مكانة ومنزلة أخيها، مواصلة صناعته وتوجيه خطواته. لا بل تعدّى دورها تلك الحدود، ليصل الى الخزاعل عامة والى «حمد آل حمود» نفسه، فصار الجميع رهيناً لها ولسطوتها الشعرية الطاغية. وبمرور الوقت وتكرار حضورها، تحوّلت الى منبع مفهومي وقيمي عام، والى مصدرلأسطورة حية، لولاها لما ظلت تتجدد في الاذهان. واليوم وبعد قرابة ثلاثة قرون، فإن الشاعرة العظيمة «فدعة»، وما تركته، يظل هو المادة والمنطلق الأساسي لأي بحث، سواء في حداثة الشعر المحلية قبل الحداثة الحاصلة بفعل الأثر الأوروبي، وصولاً الى الشاعر العظيم الآخر «الحاج زاير» بين نهايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين، أو في فهم وفحص القيم المعتمدة وتغيّراتها وأنساقها الغالبة في تلك اللحظة من تاريخ العراق.
دور فدعة الشعري والحياتي متعدّد الوجوه. فهي تزوّجت رجلاً من الخزاعل، أنجبت منه ثلاثة أولاد فقدتهم في معركة قبلية دارت بين الخزاعل وزبيد، ما يقرب بينها وبين الخنساء. لكنها لم ترثهم رثاء عادياً، كما فعلت الخنساء، بل واصلت أسلوبها في التعبير الفاعل عملياً، فتسببت في آخر أيامها بمعركة كبيرة ثانية بين الخزاعل وزبيد، كان سببها قول قالته واستفز الخزاعل، فقرروا الحرب بناء عليه طلباً للثأر. قالت وقتها:
«هذا السلَف آيست مّنه
وأريد أعبر للزبيدي وأخذنّه (بمعنى أتزوّجه)
بلكن يجيني ولد منّه
يكبر ويأخذ ثار أهلنه».
ومما اشتهر عنها بحق أخيها، قولها:
أخوي الذي جاراته خواته
أخوي يغطي جاراته بعباته
أخوي الذي خطّاره أغاته (خطاره في اللهجة العراقية ضيوفه.. وأغاته أسياده)
أخوي العزم منّه والثبات