يحكي علي لسلمى حكاية الجد وحفيده الضائع، يبث لها ألماً لا ينقله"الواتساب" بوجوهه الصفراء المقيتة، يقول لها في النهاية إنه يحتاج لشيء واحد، لكنه يخشى أن يطلبه مخافة أن " تفهمه غلط". تنكمش سلمى تحت بطانيتها القديمة وتبتسم بينما تسأله: جربني، ما هو الشيء؟ قال لها علي: أريد حضناً، ثم بعث لها بصورة القلب المكسور. لدقائق اتسعت الفجوة اللطيفة في أحشاء سلمى، ووفقاً للتقاليد لم ترد سلمى بشيء، تجاهلت الطلب، ثم بدأت حكايتها هي. كان الاثنان يتبادلان الحكايات، وقد طورا تقنية حديث يقضيان بها الليالي والأيام، دون أن يتورطا في الملل الناتج عن المحادثات السطحية، التي ينخرط فيها عادة كل من هم حديثو المواعدة الافتراضية. وحال تنتهي الحكاية التي يجب أن تُروى بتفاصيلها المملة، يستلم الآخر دفة الحديث. وغالباً ما كانت الحكايات جريحة، منهكة، لكن لم يكن أي منهما ليغير التقنية.
قالت سلمى أنها غيّرت حكايتها، وأنها ستبدأ حكاية سعيدة. لم يعرف علي، الساذج بطبعه، أن ذلك سببه طلبه الذي خشي أن تفهمه "غلط"، لكنها أحسنت فهمه وتلك الفجوة الصغيرة التي ما فتئت تتسع كانت مصدراً لسعادة لا يمكن التكهن بها، لذة الشعور الأولي بالحب، تلك العضة الناعمة لوحش الرغبة والشوق. كان مزاج سلمى ليلتها في أحسن ما يكون، عجزت عن التنفس الطبيعي لكنها كانت ملأى بالهواء، ولأسباب عديدة تخيلت أمها، شابة غضة، منبوذة اجتماعياً، تذوب من تلك العضة في مواجهة الرجل فاتح البشرة، الذي يتربع على عرش المجتمع كما تعتقد. أحست بالسعادة لأمها، إذ بغض النظر عما تقاسيه هذه المرأة الخانعة، إلا أن معرفة سلمى بأنها كانت واقعة في الحب يهب الابنة الرضا والارتياح.
تفكر سلمى، تعيد تاريخها كله بينما يأخذ علي حمامه الليلي القصير بمائه البارد. تسترجع الحكايات، ثم تقرر ما الذي ستحكيه، إذ لم يكن سواه الكثير. بدأت سلمى قبل أن يكمل علي حمامه البارد، ويعود مرتجفاً إلى فراشه:" في مرة، في الصيف، سافرنا جميعاً لقرية أبي، كنت في العاشرة من عمري، كانت القرية جميلة في الصيف، مياه وأمطار، عيون في الوادي، وعصافير تزقزق منذ الفجر. كنت أنهض غبشاً لأرافق ابنة جيراننا الذين يسكنون الدار المجاورة، كان اسمها ماجدة.لشهر كامل رافقتها في غزواتها الصباحية نحو عيون الماء في الوادي، كانت أكبر مني ربما بخمس سنوات. أجمل شابة رأيتها في حياتي،وعلى الرغم من أني لا أتذكر تفاصيل وجهها بالضبط لكني متأكدة أنها الفتاة الأجمل في نظري.
شعرت سلمى بلذة الشعور الأولي بالحب، تلك العضة الناعمة لوحش الرغبة والشوق. ولأسباب عديدة تخيلت أمها، شابة غضة، منبوذة اجتماعياً، تذوب من تلك العضة في مواجهة الرجل فاتح البشرة، الذي يتربع على عرش المجتمع كما كانت تعتقد.
صادقتني منذ لحظة وصولنا دار جدي القديم، إذ استقبلتنا بخبز طازج وبدجاجة ذُبحت وطُبخت على شرفنا. ابتسمت لنا ورحبت، ثم أطلعتنا على تفاصيل الحياة، قالت أنها وأمها نظفن الدار، واعتذرت حيث أنه ما زالت هناك أماكن أخرى مليئة بالغبار. في البداية ذهلت من فكرة أن الجيران في القرى يقومون بتنظيف بيوت جيرانهم، ثم اكتشفتُ بعدها أن ذلك فقط لأننا زائرون وبصفتهم حاملي مفاتيح دار الجد، كان لزاماً عليهم حسب دفتر القواعد القروي أن يجعلوا كل شيء لائقاً حين وصولنا، ومن ضمن كل شيء كان التنظيف والدجاجة الشهيدة.
أصحو ما إن يؤذن للفجر. كنت أكسل من ذلك بكثير، لكن تلك الفتاة لو أمرتني أن أقفز من أعلى الدار لكنت قفزت بدون تردد. كنت أنام في القرية بسعادة لأن النوم يعني أن ساعات فقط تفصلني عن رحلة الفجر المنعشة، حيث أكون معها لوحدنا وتحدثني هي بلهجتها القروية المضحكة حكايات عن الجبال والمراعي والأغنام ونميمة عن الفتيات الأخريات التي سنلتقي بهن فيما بعد عند نبع الماء. كانت هي أول الواصلين، دوماً أول الواصلين، كانت تضحك بسعادة لأي سبب، لم أشاهد في حياتي أبداً أسعد من تلك الضحكة، تمتلئ بها عيناها ثم تنفجر مرة واحدة. وكمراهقة في بداياتها، كنت أتأمل فاحصة كل تفاصيل جسدها، كنت أتنهد داعية الله أن يهبني ما وهبها، وكانت تعرف تماماً ما تملك من السحر. لكنها كانت على درجة من الحياء تمنعها من استعراضه بالطريقة التي يستحق، ومع هذا فهي لم تتأخر عن القفز لتهز ثدييها اللذين لم يسجنا بحمالات الثدي السخيفة، ولم تتوانَ عن إظهار تدويرة ردفيها، أو نحول خصرها. لكني لا أعتقد أن أحداً قد لمح استطالة عنقها.اشتم رائحة شعرها، ألمس شفافية فوديها. مثل كل فتيات القرية، كان جسدها هناك، لكن يُرى منه فقط ما استطاع اختراق الفساتين بألوانها كلها، وما تحدى إسدال أغطية الرأس حتى منتصف البطن.
في البداية ذهلتُ من فكرة أن الجيران في القرى يقومون بتنظيف بيوت جيرانهم، ثم اكتشفتُ بعدها أن ذلك فقط لأننا زائرون، وبصفتهم حاملي مفاتيح دار الجد، كان لزاماً عليهم حسب دفتر القواعد القروي أن يجعلوا كل شيء لائقاً حين وصولنا، ومن ضمن كل شيء كان التنظيف والدجاجة الشهيدة.
نتجه نحو الوادي بينما تهمس في أذني كي لا تحس بنا البيوت التي أضاءت من برهة. كنت أظل شاهقة ببصري إليها، ولأني لم أكن قد تعلمت بعد المشي في تلك الطبيعة المختلفة تماماً عن المدينة، كانت تضطر دوماً للإمساك بي، وأحياناً أتعلق بها فتصعد بي منحنى أو تهبط بي منزلقاً. وقد رفضتْ بشكل قاطع أن أجلب الماء معها وحين رافقتها لمآرب أخرى، رفضت أيضاً أن تدعني أتصرف كما تتصرف هي. كنت قد توسلت إليها حتى الدموع، أردت أن أكون مثلها، أن أتبختر حاملة الوعاء البلاستيكي للماء على رأسي دون أن أسقطه، وأن بضربة واحدة بالفأس أطيح بالغصن الغض من موقعه فيهوي طريحاً أمامي، أن أقبض بكفي الصغير على ثدي البقرة فتستكين وتنفخ من منخاريها الكبيرين، فأناجيها بمحبة كأنها طفلة ثم أقبلها ما إن أفرغ من حلبها. أردت أن تحدثني أمي بنفس الطريقة التي تحدثها بها أمها: شيء ناعم من محبة وإعجاب، أردت أن ترتمي أختي الصغيرة في حضني، تماماً مثلما تفعل أختها فتعصر وجنتيها وتضمها. لكن أكثر من كل ذلك أردت أن أحظى بنظرتين فقط: نظرة الشاب الذي ينتظر في الأفجر المغبشة مرورها السريع دون أن يقول كلمة واحدة، ونظرتها الضاحكة التي تتحول للهب وامض ما إن تمر من أمامه. ولكي لا أشك بشيء، أخبرتني أن الشاب يسكن تماماً في البيت المحاذي للطريق. وكانت حقيقة، لكن الشاب لم يكن هناك لأن منزله بمحاذاة الطريق، إذ بعد أسبوع واحد تعلمتُ أن أراقب، لأني بإحساس الطفل عرفت أن هذا شيء خطير جداً ولا يمكنها مشاركتي به، وبالتالي لا يمكنني أبداً إثارة هذا الأمر. ثم وكمن اكتشف النار، لمحتها تبتسم له بينما نمر مسرعات. كان ذلك أهم اكتشافاتي، شعرت بسعادة لا يمكن وصفها، على الرغم من الغيرة التي أكلتني. أردتها أن تحبني أنا، أو على الأقل أن تحبني كما تحبه، لكن تلك النظرة كلهب ساحر كانت تجعلني أشتعل وتنسيني الغيرة لصالح فكرة واحدة: أريد أن أكبر الآن وأصير هذه الفتاة!
____________
من دفاتر السفير العربي
اليمن بعدسة ريم مجاهد
____________
لن تصدق إنْ أخبرتك أني توسلتُ لأمها أن تتبناني! لم أشأ العودة للمدينة، انتحبتُ ليلة سفرنا وتضرعت لأمي أن تتركني هناك، ووعدتها بأني سأزورهم في الإجازات، لكن بالطبع لم يأخذ أحد كلامي على المحمل الجد، وسافرنا في اليوم التالي. ولسنين، ظللت أسأل أمي إن كان بإمكاني أن أبعث لها برسالة بريدية، لكن أمي لم تبال بهذه الأمنيات. ولم نعد بعدها للقرية قط، كانت هناك دوماً أعذار، وحين بدأت الحرب كان أحد الخيارات أن نعود للقرية، كدت أطير من الفرح، لكن الحرب كانت أسرع من قرارنا إذ تلقى أبي اتصالاً يفيد أن المعارك صارت في أعالي جبال قريته.
أكثر من كل ذلك، أردت أن أحظى بنظرتين فقط: نظرة الشاب الذي ينتظر في الأفجر المغبشة مرورها السريع دون أن يقول كلمة واحدة، ونظرتها الضاحكة التي تتحول للهب وامض ما إن تمر من أمامه.
حين أفكر بالسعادة والرضى، تخطر في بالي هذه الفتاة، "ماجدة"، وأصلي بكل صدق أن تكون قد واصلت حياتها على نفس المنوال، برضاها وهنائها اللذين لم أشهد لهما نسخة أخرى مشابهة. لا أعتقد أن تلك الفتاة تعرف أكثر من حدود قريتها، ولمَ تحتاج أن تعرف؟ لو كان لي القرار، لن أظل ساعة في المدينة، سأعود لتلك القرية لأتماهى مع كل المخلوقات حولي: مع غبش الفجر، وعصافير الصباح، مع أدخنة المواقد ونداء الأبقار، مع الماء والأشجار وسماء الليل، مع الرعد الهادر في "العصريات"، مع الصمت الوارف ما بعد منتصف الليل، ماذا نفعل هنا في هذه المدينة البشعة على أي حال؟ التقيت اليوم بفتاة توزع ثياباً للمحتاجين، لا أعرف كيف أصف لك الشعور السيء الذي انتابني لحظة وقفتْ أمامي وبدأت الحديث إلي، ليس من حياة في عينيها، شيء ميت، ورغم أنها تبدو غنية، لكن البؤس واضح من جفاف كلماتها. لقد طلبت مني أن أكون صديقتها على الفيسبوك، وألحت بشكل غريب ومخيف، لن تكون صديقتي ولو افتراضياً، قالت لي أن اسمها نادية".
تنهدت سلمى تتنظر ردود علي، وما زالت الفجوة تلتهم أحشاءها. أرادت أن تخبره أيضاً أنها على استعداد لتحقيق طلبه، لكنها بالمقابل ستطلب المثل.
... بالطبع، رسالة مثل هذه لم تُرسل أبداً.
موت
06-06-2019
نادية
14-06-2019
علي
27-06-2019
سلمى
18-07-2019
نادية: إكتشافات ما بعد الظهيرة
26-07-2019
علي: القصص الأخرى
08-08-2019
سلمى، ليالي الحب والحرب
16-08-2019
لقاء نادية بسلمى
29-08-2019
علي: البحث عن أسير
12-09-2019