العراق «ديموقراطي» فقط بدلالة صناديق الاقتراع. سوى ذلك علينا أن نتعرف على ممارسة هي من غير عالم الديموقراطية ونظامها، إلا انها تصر بالقوة على الانتساب اليها. فاستفحال الفساد والنهب والمحسوبية، وفقدان الأمن والخدمات، وشلل الاقتصاد وتوقفه، وفضائح سوء استخدام السلطة وتسيّد الميليشيات، أو تهميش مكونات من المجتمع العراقي وتجاهل مطالبها، يجب ألا تصل، مهما تعاظمت، الى حد التشكيك بجدوى العملية الجارية، أو خصوصا إلى الاعتقاد بـ«لاديموقراطيتها». ولعبور هذا التناقض الصارخ، لا تعود المساوئ سوى «نقص طبيعي» في الممارسة الجديدة، قابل للتدارك مع الوقت.فكأنما العراق يعيش تراكبات زمنية من حقب متعددة حلت عليه فجأة. ومع اقتراب موعد الانتخابات في 30 نيسان/ابريل، تضخم المهرجان فائق الألوان، فالانتخابات هنا «ديموقراطية « بامتياز، أو هكذا يجب اعتبارها بالإكراه الإعلامي والتزوير المفهومي العمد وسط تناقض صارخ بين الممارسة اليومية والشعار. والسبب معلوم، فلم يعد لدى الجهات التي تتصدر «العملية السياسية الطائفية» أي مصدر للشرعية غير هذا الملمح الذي بدأ أصلا بتدخل من خارجها في العام 2005، يوم أصدر المرجع السيستاني فتواه المحفّزة للناس على الانتخاب. وقد عبر نوري المالكي عن المكانة الاستثنائية للممارسة الانتخابية بالنسبة للعملية السياسية بقوله إن مجرد تأجيلها «سيُنهي العراق ويفتح باب جهنم». وكان بذلك يرد في مهرجان أقيم مطلع الشهر الجاري على دعوات للتأجيل.
أزمة أدوات التحشيد
أكثر جوانب هذه الممارسة أهمية يأتي من ضمان مشاركة واسعة للجمهور. وعلى رغم كل المثالب الفاضحة، ومع فداحتها، لا بد من جلب أصوات الناخبين، حيث لا سبيل إليها سوى التحشيد والاستنفار الطائفي. ولهذا أشكال تتغير مع الوقت: كانت «العملية السياسية» في المناطق الجنوبية، في بدايتها، تعوّل على إشباع الناس بالشعائر، تلبية لتعطشهم لأدائها بعد طول منع (وهو مسلك يضمن في الوقت نفسه إخراج الناس من السياسة). واختارت القيادات الكردية أسلوب الضغط معتمِدة «التهديد بالانفصال» بالتوازي مع البحث المحموم عن موارد مالية تؤمن رشوة المجتمع الكردي، وسط هاجس احتمال ظهور ذاتيات كردية فرعية بانت مؤخرا على شكل احتجاجات في حلبجة واربيل، وفي انشقاق حركة «التغيير» وتقدمها انتخابيا. وفي دائرة ثالثة، يتخذ الموقف في المناطق الغربية وجهة اعتماد كل ما من شأنه منع استقرار «الدولة» وتحولها إلى أمر واقع. تناقصت جدوى هذه التكتيكات وفعاليتها داخل كل دائرة من الدوائر الثلاث، لتنتقل منذ أكثر من سنتين الى تصادم تزداد وتيرته بين متصدري المكونات الثلاث.فضرورات التحشيد بظل التردي العام واستفحال الفساد صارت تستدعي تضخيم خطر الآخر، ما دفع المنطقة الغربية للانتقال للاعتصامات، في وقت ارتفعت وتيرة الانفجارات في بغداد وبقية مدن العراق وصولا الى الجنوب أحيانا. بالمقابل، وردا على هذا التصعيد، جرى غض الطرْف عن بعض المليشيات الطائفية الشيعية لتمارس عمليات الخطف والقتل. أما قيادة الأكراد التي وافقت على الدستور، وكانت الطرف الرئيس في إرساء «العملية السياسية الطائفية»، فلم تعد تقبل تأجيل ما كانت تؤجله من مطالب مثل «الأراضي المتنازع عليها»، وضم كركوك لكردستان، وحق تصدير النفط باستقلال عن المركز، في الغالب لشعورها بأنها فقدت ما كانت تتمتع به من حماية أميركية مطلقة خلال الفترة ما بين 1991 و2010 قبل الانسحاب الاميركي، ولاستباق احتمال ما يُتوقع أن ينجم عنه من تغيّر في الموازين قد يستغلها المركز، للتعنت بوجهها مستقبلا.
المالكي كديكتاتور؟
كل هذه التصرفات هي نتاج ممارسة تحكمها لحظة مؤقته وانتقالية، مشوّهة، وبلا ملامح متبلورة ونهائية، يرتفع فوق جبينها عاليا علم «الديموقراطية» الانتخابية. في هذا السياق يُتهم نوري المالكي رئيس الوزراء بإحياء الديكتاتورية، فيتحالف المتذمرون منه داخل معسكره مع الأكراد، ويسعون لـ«سحب الثقة» منه في البرلمان. وحيث تفشل المحاولة، تكون الاحتجاجات في المناطق الغربية في تصاعد، ما زاد في تكريس فكرة تعنت المالكي الذي واصل إصراره على عدم تلبية مطالب الاكراد والمعتصمين معا، وظل يماطل الطرفين من دون أي نتيجة تذكر. ويتعاظم حضور هذا المظهر مع بروز موضوع إضافي هو «الولاية الثالثة»، فالأطراف جميعها متخوفة من احتمال حصول المالكي على فترة حكم جديدة، وسط اقتناع عام بأنه يسعى لتحقيق هذا الهدف، بينما هو يرفض التصريح، ولا يعلن إن كان ينوي فعلا الاستمرار في موقعه أم لا. وقد كثرت التوقعات حول هذه المسألة بالذات، بما في ذلك احتمال لجوء رئيس الوزراء الى «الأحكام العرفية» وإلغاء الانتخابات، تحاشيا للهزيمة عبر صناديق الاقتراع. وبينما هادن الأكراد المالكي لفترة، وأبدوا استعدادهم لدعم رغبته بولاية ثالثة، وجد هو ضالته في زيارته الأخيرة الى الولايات المتحدة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. فما إن تيقن من نية الولايات المتحدة تصفية «داعش» في صحراء الرمادي بالاعتماد على الجيش العراقي وبدعمه اللوجستي والتسليحي، حتى بادر لتحويل هذه الرغبة إلى فرصة سانحة للهجوم على الاعتصامات في المنطقة الغربية، تحت حجة «تصفية الإرهاب»، مستقوياً بالغطاء الأميركي وبحاجة الأميركيين له، على «سوئه»، لإنجاز مهمة أصبحوا يرونها داهمة.
قوى ما قبل الدولة
إن الذي يثير الانتباه حاليا هو عودة الدوائر الثلاث التي سبقت «الدولة الحديثة» للحضور من جديد، مترافقاً مع تقدم فعل قوى «ما قبل الدولة» وتحديدا منها البنى الطائفية/ القبلية/الجهوية، علما ان المكونات الآنفة الذكر لم تعد هي نفسها ما كانت عليه قبل قيام الدولة الحديثة القسرية عام 1920، وخاصة مع تبدل العوامل المحركة في الحياة الاجتماعية، وتحول المكونات الى موضوع للتلاعب السياسي الحزبي، بعدما ضعفت مرتكزات تلك المكونات المادية الأصلية بتراجع دور الزراعة التاريخي، وطغيان عامل الريع النفطي. وهذان متغيران حاسمان، وإن كان البحث فيهما وفي آثارهما لم يُنجز بعد، بل توافرت مراقبة بعض المظاهر المتولدة عنهما مؤخرا، كمثل حالة القيادة الكردية التي تعاني مصاعب التحول من ظروف «المقاومة التحررية» الى العيش ضمن كيان يتمتع فيه الاكراد بشبه استقلالية، ما قد يولد تغيرا في الاهتمامات والأولويات لدى أبناء هذا المجتمع، وقد يزعزع دور القيادات «التقليدية» التي حظيت بمكانتها ضمن ظروف التمرد والقتال. وهو ما يفسر الرغبة المحمومة لدى هذه القيادات بالحصول على موارد نفطية مستقلة، وتقاسم أفضليات الريع السلطوية مع المركز.ومع تشابه القوى القائمة في «الدوائر الثلاث» في ضيق نطاق تصوراتها واستجاباتها، إضافة لنزوعها الجزئي، تختلف علاقتها بجمهورها من حيث أساليب الاستنفار الطائفي والمناطقي. ففيما تميل القوى المتنفذة في المناطق الجنوبية الى صرف الجمهور عن السياسة خوفا من بروز بدائل لها، وكذلك تعمل على تضخيم الجيش والقوات المسلحة لاستيعاب اليد العاملة والشباب، يطمح القادة الكرد «التقليديون» الى رشوة ناسهم لضمان «وحدتهم»، ويعمدون بانتظار ذلك الى تضخيم الذاتية الكردية ويسعون لإعادة إنتاج «تلاحم الكرد إزاء العرب» باللجوء للتصادم مع المركز. وبالمقابل تنحو المناطق الغربية الى جلب الجمهور لأقصى ما يمكن من المشاركة السياسية والاحتجاجية بمختلف درجاتها، بما فيها العنف، بهدف منع استقرار الحكم والحيلولة دون بسط سلطته على عموم البلاد.تعكس هذه الحالة في الجوهر تباينات «تضاريسية» بين ثلاث مناطق (الدلتا النهرية في الجنوب، والمناطق شبه الصحراوية في الوسط، والجبلية في الشمال)، أنتجت بمرور التاريخ اختلافات مفهومية وتصورية، ليس من الاكيد انها ثابته أو مغلقة، أو أنها لا تتضمن أفقا وعوامل توحيدية قوية، وخاصة اذا أتيحت ظروف انتقال من منطق الغلبة الى «المشاركة»، وقبول «الوحدة مع التعدد» التي هي أنسب الصيغ لعراق يستعيد قوامه ودينامياته.
تدخلات عليا لتهدئة الموقف
المهم حاليا وبمناسبة قرب الانتخابات هو بروز حالة خطرة من العجز عن إدامة هذا الشكل من ممارسة السلطة، فقد اتضح أن «العملية السياسية الطائفية» لم تعد تملك بذاتها تأمين عوامل استمرارها، ما استدعى حضور مبعوثَين معاً، إيراني وأميركي (هما قاسم سليماني، وبريت ماكيغيرك) لترتيب البيت الشيعي الممزق من جهة أولى، ولإيجاد صيغة تهدئة للحالة في الأنبار، وبين الأكراد والمركز من جهة ثانية، بينما وفي الوقت نفسه، شاعت أنباء عن نية المالكي القيام بمغامرة «انقلابية» يستخدم فيها الجيش لاعتقال خصومه من القوى الشيعية، ممن عقدوا حلفا مع مسعود البارزاني ضده مؤخرا، ونجحوا في إقناع مقتدى الصدر بالعدول عن اعتزاله السياسي والانضمام اليهم... ويبذل المبعوث الاميركي جهودا متواصلة لإيجاد حل لموضوع تصدير النفط الكردي، بعدما قُطعت رواتب الاكراد بسبب تأخر إقرار الميزانية في البرلمان، وهو ما اعتبره المالكي مؤامرة من رئيس البرلمان أسامة النجيفي لإثارة المشاكل بوجهه، فصرح بأن «البرلمان لم يعد شرعيا»، بينما عمد الاكراد الى قطع مياه «سد دوكان» ردا على قطع رواتب موظفي الإقليم! وقد اقترح المبعوث الاميركي حلا للرمادي يقوم على انسحاب الجيش من المدن، يخلفه شكل من أشكال الأمن الذاتي. كل هذا لأجل حصول الانتخابات في موعدها في 30 الشهر الجاري.وتثبت الحاجة لوقوع التدخل الإيراني والأميركي خلال الشهر الفائت أن «العملية السياسية» القائمة لم تعد قابلة للاستمرار بقواها وطاقتها الذاتية، ما يزيد خيار أو صيغة «المشاركة» والتفاهم وجاهة وإلحاحا، بينما يغدو صحيحا القول بأن قوى «ما قبل الدولة» بحالتها التي هي عليها، أدنى بنية ومن ثم أهلية لإقامة صيغة نظام يضمن وحدة البلاد، ناهيك عن تحقيق «الديموقراطية» التي بشّر بها الاميركيون عند غزوهم العراق واحتلاله عام 2003.