العراق: مشروع دولة محكومة بالاهتراء

يبدو أن اهتراء الدول أمر قائم أو ممكن الحدوث. لا نعني بذلك حالة «الدول الفاشلة»، فالحكم الحالي في العراق لم يدخل السجلات الرسمية المعلنة عن الدول الفاشلة، الا انه دخلها فعلياً وواقعياً، إذا اعتمدنا المقاييس المعيشة. واذا حدث وأدرج العراق في القائمة المذكورة، فانه سيحتاج حتماً لجملة من الشروح كي تُبرَّر لماذا يمكن لدولة، كانت قبل العام 2003 دولة فاعلة، في بلد يتوفر على
2013-11-06

عبدالأمير الركابي

كاتب من العراق


شارك

يبدو أن اهتراء الدول أمر قائم أو ممكن الحدوث. لا نعني بذلك حالة «الدول الفاشلة»، فالحكم الحالي في العراق لم يدخل السجلات الرسمية المعلنة عن الدول الفاشلة، الا انه دخلها فعلياً وواقعياً، إذا اعتمدنا المقاييس المعيشة. واذا حدث وأدرج العراق في القائمة المذكورة، فانه سيحتاج حتماً لجملة من الشروح كي تُبرَّر لماذا يمكن لدولة، كانت قبل العام 2003 دولة فاعلة، في بلد يتوفر على إمكانات غير عادية وثروات متنوعة، ونخبة واسعة حتى وان كانت غير مؤطرة بكل فئاتها ضمن مجرى موحد، كيف يمكن لبلد من هذا الطراز أن يتردى منحدراً لدرجة الاهتراء المؤسسي، والشلل القريب من الفوضى، والمستقبل المبهم.
المجريات اللاحقة على الاحتلال الأميركي العام 2003، سحقت الدولة الحديثة القسرية بعد 82 عاماً من قيامها، لتتنطح مكونات ما ـ قبل الدولة لإعادة بناء هذه الأخيرة. الترتيب الذي اقترحه الاحتلال الأميركي قام على دوائر ثلاث: الأولى، دائرة «المشَّاية واللطم العظيم»، وتشمل المناطق الجنوبية وكتلها النافذة، تتصدرها مجموعة فاسدة، نهّابة، تتعمّد صرف المواطن عن الشأن العام باستغلال تعطشه الطويل لأداء الشعائر المذهبية، فتدفعه للانغماس فيها. والدائرة الثانية تسعى لمنع إعادة بناء الدولة، وهو ما تعتمده النخب الغالبة غرب العراق، فتلجأ للعنف وأساليب «الحرب غير المتناسقة». والدائرة الثالثة، الكردية، وهي تميل لسياسة «التهديد» بالانفصال. هذا الترتيب الثلاثي ميّز فترة 2003 ـ 2011، وطبعها بطابعه. لكن ما تلا في السنتين المنصرمتين أثبت أن الثلاثية المذكورة تفتقر لأساس راسخ مؤهل لمدّها بقابلية الاستمرارية الطويلة، او الديمومة. فسرعان ما حل التأزم طاغياً على المشهد العام منذ العام 2011، ليتجه بالبلاد نحو وضع أسوأ.

الاهتراء كردياً

الاهتراء الحالي للسلطة في مجالات أساسية كتوفير الأمن والخدمات العامة الحياتية للناس، لا يقتصر على دائرة واحدة من الدوائر الثلاث. والمثير للاهتمام انه يواصل تأكيد ملامح العجز المشتركة، موزَّعاً عليها، خاصة بعد دخول كردستان السيرورة نفسها. فالبقعة الأكثر تمتعاً بالأمن والاستقرار، أصابتها هي الأخرى تقلبات في المواقف السياسية، حين غادر فجأة مسعود البارزاني، رئيس اقليم كردستان حالة التصادم الحاد مع المركز منذ 2011 الى التحالف مع رئيس الوزراء، ومن العمل بكل ما هو متاح على سحب الثقة من المالكي، الى دعمه للحصول على فترة حكم ثالثة، ومن الإيحاء بالزهد بالمنصب، الى التجديد لنفسه لسنتين قادمتين كرئيس لكردستان، ما أثار حفيظة المعارضة الكردية. كما حدث تبدل في المواقع، فقد تقدمت المعارضة، ممثلة بحركة «التغيير»، في الانتخابات الأخيرة في كردستان لتحل في الموقع الثاني بدلاً من تيار جلال الطالباني، وظهر أنها هي والطرف الثالث في الترتيب، أي ما تبقى من حزب الطالباني، تشكل ـ لو أعيد توحيدها ـ القوة الرئيسية في كردستان، بينما فقد أي طرف قدرته على تشكيل الحكومة. وقد توّج كل ذلك اختراق أمني تمثل في هجمات انتحارية نفذت ضد قيادة الاسايش (جهاز المخابرات) في اربيل عاصمة الاقليم، اوقعت قتلى وجرحى. ومع الاختراق الأمني الذي لم يكن يخطر في بال القيادة الكردية على الإطلاق، والتقلبات المفاجئة في أوزان القوى، تكاد كردستان تغادرالفترة الذهبية التي عاشتها بين 1991 و2011. ويضاف الى ذلك احتمالات اهتزازها بفعل الضغط الناجم عن التوترات الاقليمية، وحالة الأكراد في سوريا، والتداعيات المصاحبة.

... وفي المنطقة الغربية

اما المجال الآخر، المناطق الغربية، فقد خضع لتكرار ما شهده أيام بدء المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الاميركي، حين تراجع العمل الوطني المقاوِم لمصلحة إرهاب القاعدة. وقد حدث ذلك بالاستناد إلى ضعف التبلور السياسي في تلك المناطق تاريخياً، وطغيان الجزئية المناطقية، مما تجلى بالعجز عن إقامة حركة مقاومة وطنية شاملة. فحركة الاحتجاج المستمرة هناك منذ أشهر ظلت منغلقة على ذاتها داخل مناطقها، وطغى على خطابها إجمالاً ما يكرس هذه النزعة، الأمر الذي خدم كثيراً مخططات الحكومة المركزية، وساعدها على تغذية المشاعر الطائفية المضادة في المناطق الجنوبية. بينما تعاظمت وتزايدت وتيرة العمل العنفي الارهابي، والتفجيرات والعمليات الانتحارية في بغداد، قبل أن تمتد لمحافظات الجنوب، ومنها البصرة والناصرية، ما أزاح السياسة والحركة المطلبية في مناطق الرمادي والموصل وصلاح الدين الى المؤخرة، وأفقدها الألق والحضور الفعال.

السلطة: التأزيم آلية ضمان الناخبين

في المنطقة الرئيسية الغالبة على صعيد الإمساك بالسلطة، جرى الانتقال تباعاً من «المحاصصة الطائفية» بداية بعد العام 2003 (وهو ما تقبلته وشاركت فيه معها القوى الطائفية والاثنية الاخرى، كتدبير احتلالي، وأمر واقع تولَّد عن سحق الدولة، وطغيان قوى ما قبلها)، الى اعتماد أسلوب الشحن والاستنفار الطائفي والغرائزي وسيلة لضمان استمرار تأييد الناخبين وتراصهم. وتعطي حالة العراق هنا نموذجاً لآليات «الطائفوقراطية» في الممارسة التعبوية، ما لا يمت بصلة للديموقراطية والمفهوم المدني للدولة. هذه الممارسة جعلت البلاد محكومة بالتأزم أو التأزيم كآلية إجبارية لضمان أصوات الناخبين، مع أن هذا الاسلوب ظل يفصح عن تدني هذه الممارسة، ولاقابليتها على إدارة بلد ينطوي على محركات وديناميات أوسع وأعقد وأشمل معاً.

ديناميات التوحيدية الكيانية

الافتراض التقسيمي، وهو تيار موجود أصلاً، وظهر تكراراً في التاريخ الحديث، يلوح عند منعطفات بعينها وكأنه محفز لإعادة تأكيد وحدة الكيان. فالطائفة او الطائفية عموما في العراق قد مالت كما تثبت التجربة الماضية، ومنذ 1920 حين قامت الدولة المركزية الحديثة، الى «توحيدية كيانية»، اي الإبقاء على البلد موحداً، وتحت سلطة هذه أو تلك منها، وهو أمر مختلف عن تحقيق الانصهار المجتمعي. فهذه الوحدة تطابق مصالحها مجتمعة ومتفرقة. السنة يحققون مصلحتهم اذا كانوا راجحين في السلطةعلى مستوى العراق، والشيعة أيضا، مستندين الى ارجحيتهم العددية. اما الاكراد فهم يفكرون بالانفصال ولا يستطيعون الإقدام عليه، لأنه ولأسباب متشابكة «حلم شعراء»، حسب قول جلال الطالباني، فهو مستحيل إقليمياً وكما بالنسبة لمقدار انسجام بنيتهم الداخلية هي نفسها. التقسيمية نزعة غير واقعية، تتصادم معها الطائفية والوطنية العامة في آن. وبينما الأولى تريد وحدة الكيان من دون وحدة المجتمع، يبدو التعبير الوطني غير قادر على تجسيد وزنه الفعلي. ولكنه، رغم تبعثره، فهو ما يزال نزوعاً عميق الجذور ولا يُستهان بثقله.
ومن هنا يتأتى اضطراب الخطاب الوطني. ففي نصف القرن الأخير، عرف العراق عملية انتقال من قوانين وخاصيات زراعية عريقة، الى ترييع الزراعة وكل عمليات الإنتاج. كرّس ذلك بقوة، وسرّعه نظام استمر 35 عاماً، حقق استقلالاً عن المجتمع بفضل الدخل الريعي الهائل (النفطي حتى ذلك التاريخ، والذي تُضاف إليه مخزونات غازية كبيرة). اما في السنوات العشر الأخيرة، فقد ازداد توطيد هذه الوجهة، مع تعمد إلغاء الإنتاجية التي بلغت الدرجة الصفر. وهذا التغيير، او الانقلاب التاريخي الخطير في بنية عريقة، انعكس بقوة على أوضاع الفئات والطبقات ومواقعها، فخلخلها وشتتها، ما يمكن تحسسه عبر الانقلابات السلوكية والقيمية العامة كما كانت مألوفة.

أزمات تعالج باختلاق الأزمات

وهذا كله يقربنا من المشهد الذي تحول منذ العام 2011 الى سلسلة من الأزمات التي تعالَج باختلاق الأزمات، كافتعال التصادم بين المركز وكردستان (حول مشكلة «الأراضي المتنازع عليها» التي تسببت بتحريك البشمركة من جهة والقوى المؤللة للسلطة المركزية من جهة أخرى)، الى تقصد الاستفزاز واعتماد التهميش من قبل سلطة المالكي الذي ولَّد تصاعد الاعتصامات والاحتجاجات في المناطق الغربية، ما هو بالمقابل طريقة نخبها لتوسّل تحقيق سطوتها على بيئتها. وقد سهل كل ذلك على قوى الارهاب التمدد من بغداد الى الجنوب، وجعل من العاصمة هدفاً سهلاً، ومن كردستان ساحة غير منيعة. لقد حاول اقطاب الحكم مؤخراً عقد اتفاق شرف، وحضر المالكي والنجيفي وآخرون، لكنه نُقض بعد يومين بخطاب ناري من المالكي تحدث فيه عن «أنهار الدم التي تفصله عمن وقّع معهم الوثيقة»، بينما دعا مقتدى الصدر الى ملتقى آخر، حضره قادة لم يحضروا الأول، ولكنه ظل بلا جدوى ولا نتيجة.
ماذا بعد اللجوء الى «الممارسة الأولية»؟ وهل سيسلِّم هذا المستوى من الممارسة من قبل النخب المتنفذة البلاد للفوضى؟ هل ستعود الآليات التوحيدية على مستويي الطائفة والقوى الوطنية العامة، كل لأسبابه، الى العمل، أم أن مراحل أو حقباً أخرى ما تزال تنتظر العراق قبل أن يتراءى في الأفق بصيص الانتقال الى ما بعد الحقبة الحالية. من يتابع مواقف المجتمع الأهلي في البصرة والناصرية، او بعض التمخضات الاخيرة في المناطق الغربية، يميل الى عدم استبعاد عودة صيغة من صيغ الوطنية والدولة. ففي سوق الشيوخ في محافظة ذي قار (الناصرية)، قاتلت العشائر الشيعية دفاعاً عن عشيرة السعدون السنية ضد ميليشيات هاجمتها لدوافع طائفية. وفي البصرة ومحافظات جنوبية، اتخذ موقف سياسي سجل في مضبطة موجهة الى السيستاني، وقعتها العشرات من العشائر الشيعية، تطالب بتحريم قتل السنة. وفي الرمادي والموصل يطغى الاستشعار بضرورة تهدئة المطالبات، وعدم تأجيجها، ما يدل على إدراك لخطورة رفع سقفها. وقبل أيام، تواترت أنباء عن اجتماع لشيوخ عشائر الأنبار (في المنطقة الغربية) عقد لمعالجة موضوع وجود مجموعات للقاعدة في المنطقة، وقرر عدم السماح لها بدخول أي قرية أو مدينة، وأهدر دم من ينتمي الى القاعدة من أبناء العشائر، بينما تبدأ حركة تظاهر مدني في بغداد ومحافظات الجنوب ضد فساد الحكم ومختلف وجوه ترديه (تكررت التظاهرات او الدعوات اليها منذ الثلاثين من آب /أغسطس)، فإذا أمكن لهذه الحركة الالتقاء والتنسيق مع المعتصمين في المناطق الغربية، فإن بداية تحوّل كبير ونوعي تكون قد حصلت. وهكذا تتزايد وتيرة السباق بين مظهرين، اولهما حمى التوتير الطائفي، يقابله مظهر معاكس قوي. ففي الآونة الأخيرة قامت «عصائب أهل الحق»، وهي ميليشيا معزولة حتى داخل بيئتها، باستفزاز محلة الأعظمية، فسيّرت مجموعة تعرِّض بالصحابة، ما أثار مواقف تميّز منها موقف المرجع السيستاني الذي أدان هذا التصرف خطياً، وموقف أهم رجال الدين السنة، اضافة لموقف الصدر الرافض والمعتذر.
وفي سياق اهتراء الحكم، أثار حديث المالكي تلفزيونياً عن بطولات ابنه، وكأنه يورِّثه، سخطاً واسعاً، وسخرية مرّة، زادت من ابتذال صورة الحاكمين. وبتحري ما ينمو وراء الظواهر الإعلامية من تمخضات وظواهر فكرية وتنظيمية، يظهر بأن ديناميات تجاوز الوضع الحالي حية ومتدفقة، خاصة باعتبار فداحة ومأساوية تجربة البلاد. والانتخابات العامة ليست بعيدة، يفصلنا عنها أشهر، ويفترض أنها ستعكس بقوة بعض ملامح التغيير.
 

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

الثورة الأخيرة

كتب الكثير عن حدث 14 تموز 1958 العراقي، من دون أن تذكر الثورة، أو بالأحرى أن الثورة لم تجسَّد من حيث الوقائع الدالة عليها أو التي هي روحها. ربما تكون...