استخدامات الريع النفطي كما تتجلى في حالة دول الخليج، انما هي خصوصية تحيلنا الى تاريخ تلك البلدان وبنيتها. وهي تمثل اتساقا بين حالتين نجد أصلهما في واقع ما قبل النفط، حيث سيادة الريع التجاري والغزو والغلبة. وهي مع النفط قد حرِّفت، وأعيد تصفيفها بضوء المصدر المالي الجديد، ما أعطى قوة استثنائية للقبائل أو القوى المتغلبة قبل أو حوالي ظهور النفط وعوائده، فزاد من رسوخ سلطتها وإطلاق يدها ضمن واقع يفتقر أصلا الى الديناميات الصراعية المجتمعية. ويضطلع تكتل دول «مجلس التعاون الخليجي» اليوم بمهمة التزام اقتصادات الدول غير النفطية، فيضخ فيها مليارات الدولارات التي تتحول الى عنصر فعل وتأثير ومن ثَمّ قيادة لتلك البلدان، وأولها مصر وتونس، تأكيداً لرسوخ ظاهرة تولِّي نموذج الريع النفطي الاستهلاكي القيادة عربيا، بعد أن كان دور القيادة بيد نموذج الدولة الزراعية المنتجة، مثل مصر والعراق والجزائر.
هذا التحول الرئيسي في البنى السياسية والاستراتيجيات الغالبة في المنطقة لم يحدث عفوا. كما لم يجر القضاء على النماذج أو الاحتمالات النفطية المخالفة أو المعاكسة من دون تخطيط أو تقصد. فالحرب على العراق وتدميره هي، في احد مبرراتها وخلفياتها، عملية محو لاحتمال رسوخ نموذج لا يتماشى مع نموذج «البئر الاستهلاكية»، المتطابق مع آليات وشبكة بنية الرأسمالية العالمية والعولمة. واختلاف نموذج العراق عن كتلة دول الريع الاستهلاكي ليس ناتجاً في الجوهر عن سياسات نظامه السابق، بل هو حالة موضوعية وتكوينية تاريخية، تتجاوز وتتعدى إرادة حاكميه، إن لم تكن تُكرهها على اعتماد خيارات مناقضة لمصلحتها المباشرة والذاتية. فهؤلاء الحكام أضطُروا أحياناً الى وضع العوائد النفطية في مجالات تتفق مع النزوع التنموي، مجبَرين على سلوك لا يتماشى مع مقتضيات الحفاظ على السلطة بأيديهم أو على تعظيمها.
احتل النفط في الحالة العراقية مكانا لا يشبه على الإطلاق ما يحتله هذا المصدر من مصادر الثروة في غيره من البلدان العربية النفطية. ففي هذا المكان، ينقلب التأثر والتأثير من أولوية قوة العوائد النفطية، وما تمنحه من استقلالية للسلطات الحاكمة عن مجتمعاتها، الى حالة أو مسار يغلب فيه التكوين التاريخي أو الخاصيات والحوافز الجيوبوليتيكية، على قوة المصدر الجديد للثروة.
عدم استقرار رغم الريع
حلَّ النفط كعنصر حاسم في الدخل العراقي منذ عام 1930. ومنذ ذلك التاريخ وحتى عام 2010، شكل هذا العائد معدلا يساوي 95 بالمئة من عوائد الدولة، اي انه ظل يمثل مقياساً ثابتا، تقابله متغيرات مطردة في عدد السكان، والتضخم، وتغير احتياجات الاسرة العراقية. فالزيادة السنوية في عدد السكان هي بمعدل متوسط هو 2,95 سنويا، اما التضخم خلال السنوات الثمانين الماضية فبلغ حوالي 6,29 في المئة، أي أن البضاعة التي كان ثمنها دولارا واحدا عام 1968 اصبح ثمنها 6.29 دولارات في سوق اليوم. فإن أخذنا الاعوام الثمانين معاً، وقسمناها على فترات، تكون الفترة الملكية، التي استمرت 15 سنة، هي الفترة الاولى، وتتبعها الفترات التالية: فترة عبد الكريم قاسم 1958 ـ 1963، فترة الحكم العارفي 1963 ـ 1968، فترة البكر الاولى أي فترة الحصار النفطي 1973 ـ 1979، فترة البكر الثانية 1979 ـ 1980، فترة صدام حسين قبل الحروب 1979 ـ 1980، فترة صدام خلال الحرب مع ايران 1980 ـ 1990، فترة صدام حسين خلال الحصار 1991 ـ 2003، فترة ما بعد الاحتلال 2003 ـ 2010.
ويبين هذا التحقيب ظاهرة بارزة تصادفنا كطابع تتصف به حالة الحكم في هذه البلاد، وهي التغيير المستمر، بما يؤكد غياب الاستقرار او الاستمرارية. ويترافق ذلك مع تغيرات في النهج المتبع والخطاب من ناحية، وتغيرات في المعطيات النفطية وسبل استخدامها.
خيارات خطرة
وهذا نوع من الدينامية يلفت الى واقعة كون النفط لم يفعل الفعل المطلوب منه بوصفه يمنح السلطات مصادر الاستقلالية عن المجتمع والتحكم فيه، كما في دول الخليج الريعية. علاوة على ذلك، هناك الخيارات التي اضطرت الحكومات المتعاقبة للجوء اليها، ومنها خيارات خطرة ومجازفات مهلكة. فالعراق خاض حربا هي الأطول بين دولتين بعد الحرب العالمية الثانية، مع جارته إيران (1980 ـ 1988)، كما ان النظام البعثي قام باحتلال الكويت، ووضع بلاده أمام مخاطر التدمير والاحتلال. هذه التصرفات، وغيرها، تدل على أن عوائد النفط لم تؤثر أو تفعل مفعولها وفق الاعتقاد السائد بأن الريع النفطي لا يشجع الحكومات على المغامرة، بل هو يساعد على دفعها الى اعتماد سياسات تسووية، والابتعاد عما يهدد الاستقرار، خوفا من ان يتسبب ذلك في إضعاف مركزها، ومصادر قوتها المضافة المستحصلة من موارد النفط. فخسائر العراق الكلية جراء الحروب تقدر بثمانية آلاف مليار دولار (بعد تدويرها). وهو كان قد خاض الحرب مع إيران ولديه فائض يزيد على 200 مليار دولار، ليخرج منها مدينا بـ 120 مليار دولار.
وتفصح التجربة العراقية أيضا عن تجل آخر غير ذلك الذي تمثله حالة «القبيلة ـ الطبقة» كما عبَّر عنها المستشرق الفرنسي بول فييل في أواخر السبعينيات، وشاع استخدامها كمفهوم. فتلك الموضوعة لم تطوَّر، برغم ان العراق شغل المنطقة وكان مدار اهتمام عالمي مكثف لسنوات. لأن أقصى ما توصل اليه الاقتصاديون، أو منظرو هذا المجال، هو التمييز بين «الدول النفطية ذات القوة السكانية» مثل العراق والجزائر، بمقابل الدول القليلة السكان، حيث يظل النفط في الحالتين العامل الرئيسي الفاعل. في حين ان حالة العراق تشير الى هيمنة الآليات الاجتماعية السابقة على حضور النفط واستمرار فعلها الحاسم. وحتى السياسات والقرارات المتعلقة بالنفط والسيادة الوطنية عليه، تأخذ في العراق شكلا مختلفا، وجهته التصاعدية هي تملُّك هذه الثروة وطنياً ووضع اليد عليها. فعبد الكريم قاسم وضع القانون الرقم 80 لسنة 1960 الذي منح العراق الحق في أرضه غير المنقب فيها، بعد ان كانت بأيدي شركات النفط. ونظام البعث أمم الثروة النفطية عام 1972. كما ان عبد الكريم قاسم هو صاحب فكرة منظمة الأوبك النفطية، وهي المنظمة الوحيدة من منظمات العالم الثالث التي احتفظت بديمومتها، واستمرت فاعلة وحية وسط تجاذبات ومحاولات الهيمنة الرأسمالية العالمية.
بتر التنمية
وفي عام 1978 محا العراق الأمية، كما ان تقديرات منظمة الصحة العالمية كانت تقول بأن الخدمات الصحية في العراق ستصل عام 1990 الى مستوى بعض بلدان أوروبا مثل اسبانيا وايطاليا. وفي عام 1980 وصل العراق الى العمالة الكاملة، واصبح العمل شبه إجباري. ويلفت النظر تطور ومسارات عملية الاكتفاء الذاتي في العراق. فنسبة الاكتفاء الذاتي من مستهلكات المواطن كانت تصل الى 90 بالمئة أيام العهد الملكي، ووصلت في السبعينيات الى 50 بالمئة، رغم التطور الهائل في نمط معيشة العائلة العراقية. الاّ ان هذه النسبة انخفضت أيام الحرب العراقية الى 30 بالمئة، لانشغال اليد العاملة في مستلزمات الحرب. وتردد أثناء الحرب العراقية ـ الايرانية، بين شركات الاسلحة العالمية والفرنسية منها بالذات، ان العراقيين على وشك ابتكار «النوع الثالث» من الاسلحة، بعد تطوير ومزج استخدامات السلاح الشرقي والغربي. كذلك لوحظت في الاوساط العسكرية العالمية، باهتمام غير عادي، القدرة المتوفرة على إدارة وتنسيق وتحريك قوات وصل تعدادها الى مليون ومئة الف جندي. وكان الطيارون العراقيون قد تمكنوا من تزويد طائراتهم بالوقود في الجو. وبملاحظة عدد الجامعات والمتخرجين، والاهتمام بالجوانب التكنولوجية، والتقاطع بين ذلك كله، وتصور احتمالاته، مع أخذ الدينامية الدافعة وراءه، يمكن لنا ان نتوقع القفزة التي كانت تنتظر البلاد.
كما تلفت النظر ظاهرة بالغة الاهمية، وهي أنه، حتى استلام صدام حسين للسلطة عام 1979، لم يكن يعرف في العراق فساد مالي مستشرٍ، او اختلاس للمال العام. وإنْ حدث فيكون أولاً نادراً، وثانياً محدودا. وقد كان راتب البكر مع مخصصاته الشهرية يبلغ الف دينار شهريا، (أو 144 ألف دولار سنويا بلغة أرقام اليوم)، بينما كان معدل دخل العائلة العراقية 200 دينار شهريا، (أو 29 ألف دولار سنويا بلغة أرقام اليوم)، بينما دخل الاستاذ الجامعي حوالي 60 ألف دولار سنوياً ودخل المهندس العراقي 45 الف دولار، ودخل الطبيب العراقي يصل الى 100 الف دولار، ما بين راتبه وواردات عيادته بلغة ارقام اليوم.
وعليه، فالتركيز فحسب على الجانب القمعي الشمولي من تجربة هذا النظام، لا يوفي تحليل الواقع حقه. فرغم وجود هذا الجانب بقوة، إلا أن هذه التجربة تقع في صف المشاريع التي عرفتها المنطقة للعبور الى عالم العصر والحداثة، مثل تجربتي محمد علي أو عبد الناصر.
تتوزّع موارد العراق النفطية على الفترات التسع كالتالي:
1930- 1958: 7.46 مليار دولار سنويا
1958ـ1963: 25.3 مليار دولار سنويا
1963ـ1968: 30.96 مليار دولار سنويا
1968ـ1973: 34.74 مليار دولار سنويا
1973ـ1979: 100.09 مليار دولار سنويا
1979ـ1980: 242.49 مليار دولار سنويا
1980ـ1991: 65.5 مليار دولار سنويا
1991-2003: 9.96 مليار دولار سنويا بعد طرح التعويضات
2003ـ2010: 37.9 مليار دولار سنويا بعد طرح التعويضات