هذا المقال من أرشيف السفير العربي نعيد نشره لراهنيته
في العراق، ومنذ عام 2003، لم تعد هناك دولة على النمط المعروف في المنطقة منذ الحرب العالمية الاولى. إذ انهارت تلك الدولة وسُحقت مع الاحتلال الاميركي. والبلاد تمر من وقتها بلحظة انتقال من الصعب الآن تخمين مآلاتها اللاحقة، كما يصعب الادعاء أنها قابلة للاحاطة الكلية. سقطت الدولة الحديثة العراقية التي عاشت بين 1921 و2003. وهي كانت دولة قسرية مركبة من أعلى، وقد مرت بحقبتين، الأولى حتى العام 1958، والثانية بدءاً من 1968 وحتى 2003. وهما فترتان تكادان تكونان متساويتين، تفصل بينهما لحظة انتقالية دامت عشر سنوات. خلال هذا المدى التاريخي، أي طيلة 82 عاما، كانت القواعد المتبعة في إدارة البلاد تنتمي بالعموم للمتعارف عليه حديثاً في إدارة الدولة وبيروقراطيتها وتوجهاتها. وهي كانت متطابقة مع مصالح وتطلعات شرائح متجانسة، ولها تمثيل شامل على المستوى الوطني، شكلت الركيزة الاجتماعية لتلك الدولة. فلم يكن لأيٍ من المكونات أو الأفكار الأيديولوجية السابقة على الحداثة حضور رئيسي أو غالب من النواحي الدستورية أو حتى العملية، رغم حالات من قبيل "قانون العشائر" الذي ظل معمولا به في نطاق خاص في الفترة الاولى حتى 1958، أو كون الدولة ارتكزت في حقبتها الثانية (رغم أولوية دور الحزب العقائدي)، الى نواة صلبة "عشائرية" قَرابية. وحضرت في فترات قصيرة أشكال من استحضار دور بُنى ما قبل الدولة الحديثة، إلا أن ذلك كان يدخل في باب استغلال هذه المكونات لأغراض الدولة الحديثة، لا العكس. يدخل في ذلك سياسة بعث دور شيوخ العشائر بعد عام 1991 أو سياسة "الحملة الايمانية" في الفترة نفسها، مباشرة قبل الغزو الاميركي في 2003.
وبسحق الغزو الأميركي للدولة الحديثة القسرية وتشتيتها، أفسح في المجال لقوى ما قبل الدولة بالانبعاث، فعادت وطفت الى السطح: العشائر، الطوائف، المناطق، الاثنيات، الديانات... الخ. بل هو استنفرها عامداً، متوسلاً إياها لملء الفراغ الذي تسبب به. لقد وُضعت على رأس البلاد قوى "حزبية" لم تصل الى السلطة من داخل التفاعلات الاجتماعية. وهي اعتمدت وحميت ودعمت، رغم أنه لم يتبين أنها تتوافر على ممثلين يصلحون للحكم.
ارتكزت هذه القوى على مكونات ما قبل الدولة وتداخلت معها، الى أن استقرت طريقة في إدارة المجتمع العراقي تقوم على ثلاث داوئر، فتولد عن ذلك نمط ضمَن إدارة عملية الحكم واستمراريته. تلك الدوائر هي:
1ـ دائرة "المشّاية" و"اللطم العظيم"، الراجحة على مستوى العراق.
2 ـ دائرة التهديد بالانفصال.
3 ـ دائرة منع قيام الدولة بالعنف.
لا يمكن في المعتاد تخيل حالة "دولة" تحكمها ثلاثة مواضع فعل تنتسب الى نوع غير مألوف من أنواع السلطة. الا أن افتراض وجود الدولة المركزية حاليا في العراق لا يتفق مع أية حقيقة متعارف عليها في قوام الدول. وعليه ينبغي النظر للحالة القائمة على انها حالة "لا تقسيم ولا وحدة". وهي لها سابقة تايخية، مع بعض المتغيرات الطفيفة جغرافيا، وُجدت ابان فترة ما قبل الدولة الحديثة. فأيام العثمانيين شهِدت عراقاً بثلاث ولايات، هي البصرة والموصل وبغداد، أتت بعدما برزت قبلها ملامح جنوح نحو التبلور الوطني.
أرض السواد
في الدائره الأولى، الأكبر والأضخم عددياً، تحوَّل زوال الدولة الحديثة الى عنصر "توحيد شعوري" يعتاش على الخلاص من وطأة الدولة. فالمنطقة الممتدة من بغداد الى البصرة، أي "أرض السواد"، لها شروط متماثلة جعلتها في حالة تصادم مستمر مع الدولة المركزية المركبة من أعلى على مر التاريخ، وحديثاً. وتضم هذه المنطقة تسع محافظات من أصل المحافظات الثماني عشرة، بينها البصرة، المدينة الثانية بعد العاصمة. وهي المنطقة الأشد خصوبة ومصدر الثروة الزراعية لبلاد زراعية نهرية تاريخيا وبامتياز، وذلك حتى سبعينيات القرن الماضي. كما يعيش فيها أكثر من نصف سكان العراق. وأما امتلاكها شروطاً متماثلة فإحدى مميزاتها، لأن المناطق ليست متشابهة أو متساوية من ناحية مصادر الدخل والطبيعة وآليات التفاعل الاجتماعي. المنطقة الجنوبية، وهي الأعلى دينامية، وموضع الفعالية الحضارية الفائقة في الماضي والحاضر، حل فيها اليوم فراغ نجم عن اختفاء ثقل الدولة التاريخي ووطأتها. وتُرجم هذا الاختفاء بصفته انتصاراً، يُجسَّد عملياً في حرية ممارسة "الشعائر الممنوعة". اصطنعت هذه كرمز وتجسيد لـ"المظلومية التاريخية"، ما يمنح كلمة "الديموقراطية" في هذا الجزء من العراق مغزاها العملي المعيش باعتبارها "رفعا للمظلومية" الواقعة على الشيعة، فيتم قصداً وبالتخطيط والتدخل، تركيز تلك المشاعر في الجانب الشعائري المُفرَغ من أية دلالة سياسية أو وطنية. كما يتم، عبر اصطناع بنية ممارسة الشعائر، فصل هذه الكتلة عن "السياسة"، ومن ثَمّ إخراجها من الفعل الوطني.
هناك 120 يوما من السنة في العراق أصبحت "عطلا رسمية"! وترتبط هذه عادة بمناسبات وزيارات الى المراقد المقدسة، تشهد عمليات "مشي" من كل المحافظات لمئات الألوف في كل مرة، يقصدون تلك المراقد، بينما يمارس أناس آخرون عملية رعاية مسيرة "المشاية" على طول الطرق بالمأكولات والعصائر والماء، وبكميات تفوق الحاجة، ويتوسلون بالناس حتى يقبلوا الطعام والشراب. وفي المسافة الفاصلة بين الناصرية والسماوة في الجنوب، تشاهد مئات من أبنية "قضاء الحاجة" للنساء والرجال التي أقامها هؤلاء الرعاة. وكل هذا ينتهي الى نقطة هي في الغالب النجف أو كربلاء أو الكاظمية في بغداد، حيث تتركز التجمعات الهائلة بالملايين، ويمارس اللطم العظيم.
هذا الوضع ينحو للتحول الى نمط، يشترك فيه ويعتاش عليه عشرات الألوف، ويمثل اقتصاداً فريداً من نوعه، وممارسة حياتية يقوم على تنظيمها رجال دين ومراجع، ووجهاء، وأشخاص عاديون منتظمون في تجمعات. وكل هؤلاء يحصلون على إعانات كبيرة، تشكل موارد حياتية تبلغ عشرات ملايين الدولارات، توزعها الدولة أحياناً، ودول مجاورة أيضاً. يضاف الى كل هذا ممارسات الأشهر الحرم. وهنا تصبح هذه الدائرة عالماً غريبا تسوده حالة مشاع غذائي، حيث البيوت كلها تتلقى يوميا "الهريسة" و"القيمة" والخبز وحتى الماء النقي. يحدث ذلك في بغداد وبقية العراق حتى أقصى جنوبه، ترافقه الممارسات الشعائرية المعتادة من زناجيل ولطم وتطبير.
يحرر هذا الوضع الحكم من أية تبعات، ويلغي الدينامية السياسية. وفي بلد نفطي ضخم الموارد كالعراق، يمارِس الحكم عملية استيعاب أخرى تتمثل في المؤسسة العسكرية التي يبلغ منتسبوها قرابة الـ700 الف، تدفع لهم رواتب عالية نسبيا. وكل هذا يفضي الى صناديق الاقتراع، فاللُحمة الطائفية هي الآلية الرئيسية التي تدعم العملية الانتخابية، وتزكي النخبة الشيعية الحاكمة والمتخففة من أية رقابة أو ضغط من أسفل، ما يُشعر المسؤولين بانعدام المساءلة، ويشجع على السرقة وكل أنواع الفساد، الأمر غير المألوف في تاريخ الحكم في العراق. فالدولة هنا عاشت دائما محاصَرة من المجتمع، الذي تطبع حركته ومواقفه معارضته لها.
المنطقة الكردية
للمنطقة الكردية، أو "كوردستان"، "مظلوميتها" هي الاخرى، التي تُستغل هنا أولا لضمان اللُحمة وتكريس سلطة ونفوذ القيادة الحاليه، وثانيا لمنح المنطقة قوة الضغط على الدائرة الراجحة الجنوبية. ولأجل ذلك تُعتمد سياسة التهديد بالانفصال كممارسة دائمة، مع أن ميزانية المنطقة الكردية المعلنة لهذا العام بلغت 12 مليار دولار. ويبدو التناقض صارخا، حين تتكرس الممارسة الانفصالية بينما رئيس جمهورية العراق كردي، ولكردستان برلمانها الخاص وحكومتها ورئيسها. تجد قيادة هذه المنطقة نفسها مأخوذة بإدامة اللحمة تحت قيادتها بعد اختفاء الدولة المركزية، وهو ما كان يغذي وجودها كزعامة، وانتفى الآن. وهي تسعى الى خلق بدائل له عبر ضخ أسباب وهمية للعداء مع بقية البلاد، ومع المركز المفترض، وتعمل على إثارة الازمات من قبيل قضية نفط منطقة "زالاراش" المتنازع عليها، بينما هي بذلك تستبق أي تطور ديموقراطي في كردستان، وتمارس القمع المنظم عبر أجهزتها الأمنية وتضطهد أصحاب الرأي، ما تكرر مرات، وتسعى الى إقامة ريع فرعي عبر عقود التنقيب عن النفط واستخراجه التي تبرمها مباشرة مع الشركات العالمية. وعلى ذلك فهي تقوم بمشاريع إرضاء آنية لسكانها، وتبذل جهودا ملحوظة في مجال الخدمات والبنية التحتية لكردستان.
المنطقة الغربية
تبقى "المنطقة الغربية" من العراق، محافظات الأنبار والموصل وصلاح الدين، وأطراف بغداد الغربية، وهذه يحكمها، أو يشكل لحمتها اليوم كل ما ينافي وجود الدولة، وترتهن الممارسة التي تؤمن لها موقعها واستمرارها، بالعنف الذي يتدرج من المقاومة المسلحة للأميركيين (مع تضخيم الاعتقاد بامكانية استعادة الحكم عن طريقها بعد طردهم)، الى غلبة "القاعدة" والارهاب المركَّز على المجتمع ومؤسسات الدولة في منطقة تمتاز بضعف التبلور السياسي وحتى المذهبي تاريخياً، مع تأخر التحاقها بالفعالية الوطنية الى حين مجيء البعث ودولته للحكم، ما يجعل المتوافر هنا من وسائل ينصب على منع الدولة المركزية من الاستقرار، مع استعارة "القاعدة" تنظيمياً كجيش خاص. ولهذه المنطقة خصوصية، يغذيها شعور متأت من "الحق التاريخي المكتسب" بالسلطة، لهذا فهي موجودة داخل "العملية السياسية" من جهة، وتمارس ابتزازها لها من جهة أخرى. فالمقاومة التي تركزت في هذه المنطقة سرعان ما طغت عليها "القاعدة" وتنظيماتها بتشجيع واحتضان من أهاليها، الامر الذي حجَّم دور "المقاومة" ودفع به الى الخلف تماما، بينما يستمر الإرهاب الآن ناشطاً.
وتتحول بغداد اليوم الى مكان لقاء للدوائر الثلاث لتكريس المحاصصة، او لمنع تغول "الآخر"، وهي إذاً ليست مكان تجسيد الوحدة المجتمعية والكيانية، ولا مكان تركز الزخم الوطني، ان لم تكن النقيض، أي مكان انتقاصه.
ورغم تضاعف سعر النفط عما كان عليه في السبعينيات، إلا أن الزيادة السكانية صارت تهدد هذا المصدر بالتأكل، وبالعجز عن تغطية حاجات العراق، أو منع تفاقم الفقر، هذا إذا تغاضينا عن اتساع نطاق النهب بكل أشكاله، وتفاقم الفساد. ويرافق "عجز الريع النفطي" معطى ثانٍ، هو الخلل الهائل الحاصل في بنية الزراعة، وتراجع دور النهرين اللذين تتناقص نسبة المياه فيهما باطراد. وأخيراً انفلات النزعة الاستهلاكية. وهذه عناصر مؤهلة للتفاعل في ظل وضع غريب وفريد على مستوى الحكم، حيث تنشغل قواه ونخبه، كلٌ منها، بواحدة من تلك الدوائر الثلاث، الخاصة، فتبدو أدنى قدرة من أن تنتقل بالعراق الى نظام يتسم بالوحدة، وتعيش البلاد على وقع استقالة الدولة، وتفاقم المشكلات المستمر.
النفط
أقر البرلمان العراقي ميزانية 2012 البالغة 100 مليار دولار، بعجز يصل الى 13,5 مليار دولار. وتقول الارقام الرسمية ان العراق يصدر حاليا 2,6 مليون برميل يوميا، محتسِبا سعر البرميل بـ85 دولارا، في حين كان سعره الرسمي في السوق العالمية 125 دولاراً عند إقرار الموازنة (وقد انخفض هذا السعر الى 101,4 دولار بحسب أسعار منتصف تموز/يوليو). ومعلوم أن عائدات النفط تمثل 95 في المئة من واردات العراق. وهي بلغت 39 مليار دولار في الشهور الخمسة الاولى من السنة الجارية. ولكن الارقام العراقية متضاربة بشكل مدهش، ما يجعلها غير موثوقة. واسباب ذلك تعود الى انعدام وجود هيئات رقابية واحصائية جدية، وكذلك لأن كميات تهريب النفط من الشمال ومن الجنوب كبيرة، ولكنها مجهولة، وعائداتها تدخل الى جيوب مستفيدين، منها الحكومات والادارات المحلية، ومنها احزاب وميليشيات من كل نوع.
محاصصات
عدد أعضاء البرلمان العراقي 325 نائبا حسب الانتخابات الاخيرة التي جرت في آذار/مارس 2010 وفق نظام اللائحة النسبية. وهناك صراع مستمر على عدد المقاعد وكيفية توزيعها بين المحافظات. ويقسم العراق الى 18 دائرة انتخابية مطابقة للمحافظات الثماني عشرة. وليس في النظام الانتخابي العراقي توزيع صريح للمقاعد بين المذاهب والقوميات. وبالمقابل، هناك توافق على توزيع الرئاسات الثلاث على الاكراد (رئاسة الجمهورية)، والشيعة (رئاسة الحكومة)، والسنة (رئاسة مجلس النواب(.