الدُعامة "الشرعية" الوحيدة للنظام السياسي الحالي في العراق هي "البرلمان". فالقوى المتنفذة التي تدير الحكم متعدد الرؤوس، تتصارع بقوة حتّى تُشكِّل لنفسها مساحة واسعة من التمثيل داخل المجلس النيابي. لكن، وبالنتيجة، يظل الانقسام الطائفي والعرقي والمحاصصة، حكاماً اجلاء لا يمكن الخروج على سلطتهم.
وأما القوة الحقيقية للنظام السياسي في العراق، فتكمن في الجماعات المسلحة الداعمة له، والتي توجه البنادق إلى الشارع بوحشية.
فالبرلمان، وإنْ تعقدتْ وتشعبتْ "الكُتل" و"المجموعات" داخله، وإنْ امتدت التحالفات إلى ما بعد الطائفة والقومية، فهو سيظل محكوماً بثلاثية مقدسة تمثل الانقسام الطائفي والعرقي (السنة، الشيعة، الكرد). وبفضل هذه "الثلاثية المقدسة" تبدو الديمقراطية في البلاد، هشة وضعيفة ولا تمثل الرأي الحقيقي للمواطنين، بل تمثل قوة الأجنحة المتصارعة، ومَواطن الدعم الإقليمية والدولية لها.
الديمقراطية الرديئة
الحكومة الحالية التي يقودها عادل عبد المهدي، واحدة من أسوأ النسخ الحكومية التي ظهرت بعد 2003، لأسباب تتعلق بمدى استجابة "الديمقراطية" والانتخابات لقناعة الجمهور المباشر، وحجم تفشي الفساد والتدخل الخارجي، والإفلات من المحاسبة.
فعبد المهدي الذي يحوز على الجنسية الفرنسية، وُلدت حكومته نتيجة توافقات القوى المحلية النافذة، برعاية مصالح اللاعبين الأساسيين كإيران والولايات المتحدة. وهي تعيش فشلا مدوياً بعد عام واحدٍ فقط على تشكيلها. ومع اندلاع الاحتجاجات الغاضبة، لم تجد هذه الحكومة سوى استخدام القوة المميتة المفرطة لإيقافها. وقد راح ضحيتها 105 محتجين، و6 آلاف جريح وفقاً للإحصائية الرسمية، بينما تقول منظمة العفو الدولية إن عدد القتلى تجاوز 150 قتيلاً.
رئيس الحكومة السابقة حيدر العبادي، انتهت طموحاته بتمديد حكمه لولاية ثانية على وقع احتجاجات البصرة 2018، الغاضبة والدامية والعنيفة، التي عمّت وسط وجنوب العراق، وخلّفت 50 قتيلاً وعشرات آخرين من الجرحى.
حينما جيء بعبد المهدي إلى الحكومة، كانت قوى النظام قد بلغت مرحلة الصِدام فيما بينها، بسبب التنافس ورفض نتائج انتخابات حزيران/ يونيو 2018، وأعمال تخريب متعمدة طالت صناديق الاقتراع، والتشكيك بنتائج الفرز الإلكتروني للأصوات، والهجمات المسلحة ضد منشآت حزبية كتعبير عن عداء عميق بين القوى التي تدير الحكم في العراق.
في الانتخابات التشريعية 2018، قاد الشُبان حملة لمقاطعة الانتخابات، لذا لم يشارك بالاقتراع سوى 32 في المئة من الناخبين في عموم العراق، على الرغم من إعلان مفوضية الانتخابات أن النسبة كانت 48 في المئة. كيف يمكن لقوى لا تتقبل الهزيمة عبر الانتخابات أن تُرسخ الديمقراطية؟ وكيف لقوى غير مؤمنة بالتغيير أن تتعامل بشفافية مع مطالب جموع الشباب الغاضبين؟ا
وكان النظام حينها بمأزق مرعب، فتلك الاحتجاجات كانت الأولى التي عبر المحتجون بها عن رفضهم له، عبر إحراق مقار الأحزاب والقنصلية الإيرانية التي اعتبروها رمزاً للتدخل الأجنبي ولرعاية قوى الفساد.
وحينما جيء بعبد المهدي إلى الحكومة، كانت قوى النظام قد بلغت مرحلة الصِدام فيما بينها بسبب التنافس ورفض نتائج انتخابات حزيران/ يونيو 2018، وأعمال تخريب متعمدة طالت صناديق الاقتراع، والتشكيك بنتائج الفرز الإلكتروني للأصوات، والهجمات المسلحة ضد منشآت حزبية كتعبير عن عداء عميق بين مختلف القوى التي تدير الحكم في العراق.
وحينما تشكلت حكومة عبد المهدي في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2018 بكابينة ناقصة العدد حتى الآن، لم يُعتمد على رأي الجمهور وقناعته السياسية بالتغيير. فالنظام أصرَّ على تشكيل حكومة تمثل مصالحه فقط، ولم يُشكلها على أساس الثقة التي منحها الناخبون لقوى كانوا يأملون وصولها إلى المجلس النيابي لبناء سلطة أكثر نزاهة، فضاعت أصواتهم، وشكل ذلك خيبة أمل مُدمّرة للثقة.
وبالتالي، فكيف يمكن لقوى لا تتقبل الهزيمة عبر الانتخابات أن تُرسخ الديمقراطية؟ وكيف لقوى غير مؤمنة بالتغيير أن تتعامل بشفافية مع مطالب جموع الشباب الغاضبين؟
العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"
22-10-2019
في الانتخابات التشريعية 2018، قاد الشُبان حملة لمقاطعة الانتخابات، لذا لم يشارك بالاقتراع سوى 32 في المئة فقط من الناخبين في عموم العراق، على الرغم من إعلان مفوضية الانتخابات أن النسبة كانت 48 في المئة، لكنها نسبة مضللة لجهة احتساب نسبة تصويت الخارج، كنسبة موازية لنسبة تصويت الداخل، بمعنى احتساب 800 ألف صوت (الخارج) مقابل 10 ملايين صوت (الداخل).
النظام فشل بالحفاظ على شرعيته عبر الممارسة الديمقراطية أوّلاً. وفقدها نهائياً الآن عبر استخدام القوة المميتة، وقتْل العشرات في نوبة هيستيرية لكبح الأصوات المعارضة تحت ظلام التعتيم الإعلامي وقطع الأنترنت وحظر التجوال وملاحقة أجهزة البث الحي وإغلاق مكاتب التلفزيون.
الشعب يرفض النظام
الاحتجاجات هي الوجه "الديمقراطي" الوحيد في العراق، لكنه الآن يُقمع بوحشية. لم يعد العراقيون يؤمنون بعد أربع تجارب انتخابية "فاشلة" (2005/ 2010/ 2014/ 2018) أن الانتخابات تعبّر عن حقوقهم، وتؤدي إلى تغيير حقيقي وتقضي على الفساد وتُصلح النظام.
فقوانين الانتخابات السيئة، تُلغي بالنهاية صوت الناخب وترسخ مصلحة الأحزاب. لذا يلجأ العراقيون إلى الاحتجاج كوسيلة شعبية للتعبير عن الغضب والمطالب. لكنهم بلا حماية من الرصاص الحي والقنّاصة والجماعات المسلحة الشرسة التي تدافع عن النظام، في ظل قوات أمن رسمية خاضعة وضعيفة.
عقب 16 عاماً من تخلص العراقيين من نظام صدام حسين القمعي أيضاً، بات العراقيون اليوم أمام نظام أكثر قمعاً وفساداً. والعقل الأمني يعتبر أية دعوة للتظاهر "مؤامرة" تستحق قتل المتظاهرين.
وسائل إعلام النظام المدعومة إيرانياً عبر ما يُسمى بـ"اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية" كواحد من الأذرع الناعمة لطهران في المنطقة، قابلت الاحتجاج بـ"التجاهل"، واعتبرت أن هولاء المحتجين ينفذون أجندات سعودية – أميركية.
يُنكر الإيرانيون أي تدخلٍ لهم في الشأن العراقي، لكن الشواهد تتراكم يومياً. فحكومة عبد المهدي شُكِّلت بتدخل إيراني مباشر، وغالباً ما يُشاهد رجل الرعب في المنطقة، الجنرال قاسم سليماني، يتنقل في بغداد ليضغط على السياسيين ويملي عليهم الأوامر، بينما يجاهر قادة الجماعات المسلحة بالولاء الصريح للمُرشد الإيراني.
في هذه الاحتجاجات، كان موقف طهران واضحاً وصريحاً بدعم القمع على لسان علي خامنئي، ومعه المتحدث باسم الخارجية أمير عبد اللهيان، ما حفّز الحكومة العراقية على ارتكاب انتهاكات واسعة بمساعدة الميليشيات المسلحة الموالية لإيران ومنها الحشد الشعبي.
النظام فشل بالحفاظ على شرعيته عبر الممارسة الديمقراطية أوّلاً. وفقدها نهائياً الآن عبر استخدام القوة المميتة، وقتل العشرات في نوبة هيستيرية لكبح الأصوات المعارضة، تحت ظلام التعتيم الإعلامي وقطع الأنترنت وحظر التجوال وملاحقة أجهزة البث الحي وإغلاق مكاتب التلفزيون.
وسائل إعلام النظام المدعومة إيرانياً عبر ما يُسمى بـ"اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية"، كواحد من الأذرع الناعمة لطهران في المنطقة، قابلت الاحتجاج بـ"التجاهل"، واعتبرت أن هؤلاء المحتجين ينفذون أجندات سعودية – أميركية.
انتهاكات النظام ضد المحتجين السلميين في العراق، تشابه بداية أعمال القمع ضد الاحتجاجات في سوريا، بإطلاق النار المباشر، ونشر مجموعات من القنّاصة، وإنكار ذلك رسمياً. هذا الأسلوب يكشف عن وحدة العقل الأمني الذي يدير الأزمة.
السلاح الأكثر رعباً، كان القنّاصة الذين أودَوا بحياة العشرات، وفقاً لشهادات المتظاهرين التي وثقت من قبل منظمات دولية.
السلطات الأمنية اعترفت تحت وطأة ارتفاع حصيلة القتل، أن جهات مجهولة استخدمت قناصين، وهو ما أقرّ به أيضاً رئيس الجمهورية برهم صالح.
فوجئ النظام بأعداد هائلة من الشباب الغاضب يخرج إلى الشوارع والميادين منادياً بسقوطه. هذه المرة الأولى التي يُرفع فيها شعار إسقاط النظام في العراق. كان رَفْع مثل هذا الشعار من المُحرمات. لكن الشباب كسروا حاجز الخوف.
القتل مقابل الاحتجاج
انكسر حاجز الخوف بالشجاعة، لكن الرصاص كان الرَّد المفزع. والتساؤل الذي يطغى على أي متعاطفٍ حين مشاهدة فيديوهات القتل: لما لا يتراجع هولاء الشُبان ويعودون إلى منازلهم؟
إنه اليأس المتجذر عميقاً. فإما الانتحار كطريقة احتجاج فردية، أو الاحتجاج كطريقة انتحار جماعية أمام قوة القمع وشراسة القتل، وهو تعبير عن رفض استمرار جماعات النظام وتمسكها بالسلطة.
العراق بلدٌ فتيّ، وتركيبته السكانية شبابية متحركة. فمع تضاؤل نسبة كبار السن، ترتفع نسبة الشباب من الفئة العمرية 15 إلى 30 عاماً إلى ثلثي نفوس العراق البالغة نحو 40 مليوناً.
هذه الفئة تعاني من البطالة والعوز وتعيش حياة مظلمة بلا أُفق، وهو ما يُفسر تنامي ظاهرة الانتحار في العراق على نحو متسارع خلال السنوات الثلاث الماضية. مثلاً: بلغت أعداد المنتحرين من الشباب خلال الأشهر التسعة الأولى من 2019، وفقاً لـمفوضية حقوق الإنسان العراقية نحو 275 منتحراً.
العراق.. كيف تديم سياسات النظام ثورة الجياع؟
20-10-2019
مؤشرات انفجار الأوضاع في العراق باتت تتراكم منذ أن انحسر شبح التهديد الأمني من "القاعدة" و"داعش"، وجماعات مسلحة إرهابية وميليشيات إجرامية. بات العراقيون بمواجهة مخاطر أكثر فتكاً بهم، كانهيار بُنية الخدمات العامة، نقص الطاقة، تراجع القيمة الشرائية، التضخم، تنامي عجز الموازنة العامة، تراجع الإيرادات، فشل مبيعات النفط في تغطية الفاتورة الضخمة للمعاشات الشهرية إزاء حقل الفساد المتسع، والاقتصاد الموازي للأحزاب والجماعات المسلحة، وترهل الجهاز الحكومي بسبب التوظيف المفرط.
إزاء ذلك، فمعدل البطالة يبلغ 16 في المئة من حجم السكان المتزايد، ونسب الفقر مرتفعة: 22.5 في المئة على المستوى الوطني. وأما في المدن التي تأثرت بـ"داعش" فتصل النسبة إلى 41.2 في المئة، والعراق مصنف كأبرز البلدان فساداً في المرتبة 168 من أصل 180 بلداً.
انحسر شبح التهديد الأمني من "القاعدة" و"داعش". لكن العراقيين يواجهون مخاطر أكثر فتكاً بهم، كانهيار بُنية الخدمات العامة، نقص الطاقة، تراجع القيمة الشرائية، التضخم، تنامي عجز الموازنة العامة، تراجع الإيرادات، فشل مبيعات النفط بتغطية الفاتورة الضخمة للمعاشات الشهرية إزاء حقل الفساد المتسع، والاقتصاد الموازي للأحزاب والجماعات المسلحة، وترهل الجهاز الحكومي بسبب التوظيف المفرط.
الحالة الاقتصادية المعقدة للعراق تضعه بمواجهة هزات عنيفة مستقبلاً، مع تنامي الطلب على تعزيز الخدمات الحكومية. لكن العراق يواجه صعوبة في تسديد الفاتورة السنوية لتمويل مؤسساته الحكومية المتخمة بالبطالة المُقنّعة.
نقص الموارد يقابله استشراء الفساد في مؤسسات الحكومة، إضافة إلى اقتصاد الفساد المُشرعن الذي تديره الفصائل المسلحة والأحزاب الإسلامية عبر ما يُسمى بـ"الهيئات الاقتصادية".
يقدر حجم هدر المال العام – الفساد – بنحو 1000 مليار دولار منذ العام 2003، وهو ما يفسر الثراء الفاحش للأحزاب.
سنوياً يزداد عجز الموازنة العامة طردياً مع زيادة المديونية. توقع صندوق النقد الدولي عام 2018 أن ترتفع ديون العراق إلى 132.4 مليار دولار لتصل ذروتها في العام 2020 مع 138 مليار دولار.
والعام المقبل سيعجز العراق عن تحقيق أي مشاريع تنموية، أو تحديث البنية التحتية مع ارتفاع فاتورة المعاشات إلى 60 مليار دولار. بينما مبيعات النفط قد لا تصل إلى 90 مليار دولار سنوياً. أما العجز فسيصل إلى 45 مليار دولار.
حين أطل رئيس الحكومة عادل عبد المهدي فجر يوم 4 تشرين الأول/ أكتوبر، والبلاد غارقة بالدم، جاء بحزمة وعود أسماها بـ"إجراءات التهدئة"، لكنها أججت غضب الشارع، لجهة معرفته باستحالة تحقيقها. فعبد المهدي مثلاً يقترح مشروع لصرف معاش لكل عائلة بلا مورد، وتوزيع أراض سكنية للفقراء، وإطلاق قروض للشباب، لكن بعد أن تُحوّل هذه الوعود إلى مشاريع قوانين تُقدّم إلى مجلس نواب يعاني فساداً سياسياً، وإلى خزينة دولة خاوية.
المشكلة تكمن في طريقة تفكير السلطة، التي تحاول شراء التهدئة برشوة الفقراء بوعود مجانية. الفقراء يعرفون تماماً أن النظام غير قادر على تحقيق وعوده بظل الاستنزاف المستمر للثروة، والحصانة الرهيبة لحيتان الفساد بعدم ملاحقتهم أو محاسبتهم.