لم يتم تنفيذ معظم قرارات مؤتمر الحوار الوطني، لاسيما تلك التي لا ترتبط بصياغة الدستور الجديد، فلم يصدر قانون العدالة الانتقالية، ولم تشكل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، ولا تشكلت لجنة وطنية مستقلة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي حدثت عام 2011، ولم يصدر قانون استرداد الأموال والأراضي العامة والخاصة المنهوبة بسبب سوء استخدام السلطة، ولم يتم إلغاء العقود الاحتكارية في مجال استغلال الطاقة النفطية والخدمات المرتبطة بها، ولم تتخذ الدولة أية إجراءات لاستعادة الأسلحة والمعدات العسكرية التي تم نهبها خلال النزاعات المسلحة، ولم يدمج الجيش بالشكل الذي يضمن بناءه كقوة وطنية مهنية موحدة، ولم يطلق سراح المعتقلين والمخفيين قسراً، ولم تلغ وزارة الإعلام ولا تشكلت هيئة وطنية مستقلة للإشراف على الإعلام، ولم تعد هيكلة جهازي الأمن القومي والأمن السياسي وتحديد اختصاصاتهما، ولم يتم إخلاء مباني الدولة من الأطراف التي استولت عليها... ثورة "11 فبراير 2011" في اليمن هي بالتأكيد أول ثورة قادتها ونفذتها الجماهير الشعبية والطبقة المتوسطة اليمنية، واستطاعت فرض توجهاتها في مؤتمر الحوار الوطني الشامل. لكن الأمور تغيرت كثيراً فيما بعد، وتحول الصراع من صراع بين الثوار والنظام القديم إلى صراعات بين قوى الثورة نفسها. ولذلك، فهذه المقررات وغيرها من مخرجات مؤتمر الحوار الوطني باتت أقرب إلى الأحلام التي يصعب تحقيقها، بسبب ضعف الدولة، وبسبب أن حضور النخب التقليدية في مؤتمر الحوار الوطني لم تكن سوى انحناء أمام عاصفة الثورة، وليس مشاركة جادة تهدف إلى تخليص اليمن من أزماتها البنيوية، التي ظلت تعاني منها خلال العقود الماضية. ومرد ذلك إلى أن بعض تلك النخب كانت مستفيدة من النظام السابق، وبعضها الآخر يرغب في الإبقاء عليه للاستفادة منه مستقبلاً!
تهافت على السلطة
بعد توقيع المبادرة الخليجية ببضعة أسابيع، دشن نشطاء التجمع اليمني للإصلاح ما أسموه "ثورة" المؤسسات. لم يكن الهدف من ذلك هو كشف الفساد ومحاسبة المسئولين الفاسدين، بل إبعاد كبار المسئولين الموالين لعلي عبد الله صالح واستبدالهم بمسئولين موالين للإصلاح. مع ذلك لم تحقق هذه "الثورة" أهدافها. فمعظم رؤساء مصالح وهيئات الدولة ومؤسساتها الذين عينهم صالح هم من شيوخ القبائل وأبنائهم، فنظموا ميليشيات قبلية لمقاومة "ثوار" المؤسسات. ومنذ اجتياحهم للعاصمة صنعاء في ايلول/سبتمبر الماضي، نظّم أنصار الله (الحوثيون) لجاناً شعبية ولجاناً ثورية، ادعوا أن هدفها حماية مؤسسات الدولة، لكنها في الحقيقة مارست أعمالاً تشبه تلك التي كان يمارسها "ثوار المؤسسات" من جماعة الإصلاح، لكن المستهدفين هذه المرة على يد الحوثيين هم المسئولون الموالون للتجمع اليمني للإصلاح. وقد حققت هذه اللجان كثيرا من أهدافها بسبب طبيعتها الميليشياوية.
أين الدولة؟
تنفيذ قرارات مؤتمر الحوار الوطني وكل مخرجاته يتطلب وجود دولة قوية وقادرة وذات سيادة، وهو أمر غير متحقق الآن في اليمن. فالدولة التي كانت ضعيفة قبل الثورة تحولت بعدها إلى دولة فاشلة، وبات كل طرف من أطراف الصراع السياسي يتساءل: "أين الدولة؟". ويجيب الرئيس هادي على هذا السؤال بأنه لم يتسلم دولة، لذلك لم يستطع أن يكون حاكماً فعلياً، بل مجرد حَكَم أو مُحَكَم بين المتصارعين على السلطة، يدير عملية تقاسمها بين المتصارعين، ويوزع الوظائف العليا في ما بينهم، بما في ذلك الوظائف العليا في الجيش والأجهزة الأمنية، ومعظم قراراته ليست سوى إعلان لما يقررونه بالتوافق في ما بينهم، أو لما يفرضه عليهم وعليه أقواهم. وبالنظر لخارطة توزيع القوة في الوقت الراهن، فإن الأكثر قوة هو السيد عبد الملك الحوثي، الذي لا يتورع أحياناً عن إعلان القرارات التي ينبغي على الرئيس هادي إعلانها، ويستطيع الضغط عليه لإعادة النظر في بعض قراراته، كما حدث مع قرار رفع أسعار المشتقات النفطية، ويسعى حالياً للضغط على الرئيس هادي باتجاه إصدار قرار بديل عن القرار الجمهوري الخاص بتحديد عدد أقاليم الدولة الاتحادية، الذي أصدره في ظل خارطة توزيع القوة التي كانت قائمة مطلع عام 2013، المبنية على أساس التوافق على نسب التمثيل في مؤتمر الحوار. أما وقد حقق أنصار الله ما حققوه من انتصارات عسكرية على خصومهم، فهم ما عادوا يكتفون بحصتهم التي تقررت في إطار تقاسم القوة بين نخب السلطة، بل راحوا يشكلون سلطة موازية ممثلة باللجان الشعبية، تفرض قراراتها على الجميع.
ثورة الشعب وثورات الحديقة
طالب ثوار الحرية والتغيير (ثوار "11 فبراير") بإخراج المعسكرات من العاصمة صنعاء والمدن الكبرى عموماً، وتحويل معسكر الفرقة الأولى مدرع بالعاصمة إلى حديقة عامة. واصدر الرئيس هادي بالفعل قراراً بتحويل المعسكر إلى حديقة عامة تحمل اسم "حديقة 21 مارس" وتسليمها لأمانة العاصمة، في إشارة رمزية إلى أن الجنرال محسن هو عراب الثورة، وتخليداً لذكرى انضمامه إليها في ذلك اليوم.
قَبِلَ الجنرال محسن بهذا القرار شكلياً، بل أنه وظّف اسم الحديقة للدعاية الشخصية، إلا أنه لم يسلمها لأمانة العاصمة حسب نص القرار الجمهوري، وظلت الحديقة/المعسكر تحت سيطرته إلى أن هرب منها إلى جهة مجهولة في 21 أيلول/سبتمبر، يوم اجتاح الحوثيون العاصمة صنعاء وسيطروا على معسكر الفرقة الأولى مدرع ("الحديقة")، وما زالوا مسيطرين عليها حتى اليوم. وهم بدورهم غيروا اسمها إلى "حديقة 21 سبتمبر"، بل أنهم ما عادوا يعترفون بثورة الشعب اليمني التي شاركوا فيها بفعالية، أقصد ثورة 11 فبراير، وباتت أدبياتهم وخطابات زعيمهم لا تتحدث إلا عن ثورة 21 سبتمبر.
لا يهتم ثوار 11 فبراير بالجانب الرمزي في تسمية الحديقة وفي تسميات ثورات القوى التقليدية، بقدر ما يهتمون بما أحدثته القوى التقليدية من انحراف في مسار الثورة، وتحويلها من ثورة تهدف إلى إسقاط النظام إلى ثورة تسعى إلى إسقاط أشخاص، أو كما قال الرئيس هادي التحول من المنطق الثوري إلى المنطق الثأري. ومع ذلك، فرب ضارة نافعة.
فقد أسقط هذا المنطق الثأري النخب التي كانت تشكل كابوساً لجماهير الثورة: ساهم الجنرال علي محسن الأحمر والشيخ صادق الأحمر في إسقاط علي عبد الله صالح ومعه مشروع توريث السلطة الذي كان يعده، وبدوره تحالف صالح مع السيد عبد الملك الحوثي للثأر من خصومه، واستطاعا إسقاط الجنرال محسن ومعه مشروع النظام العسكري، والشيخ صادق ومعه مشروع المشيخة، والشيخ عبد المجيد الزنداني ومعه مشروع دولة الخلافة. ورغم إسقاط كل هؤلاء من مواقعهم التي كانوا يحتلونها على خارطة بناء القوة الرسمية و/ أو غير الرسمية، إلا أن حلم الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة لم يتحقق بعد، ويبدو أنه لا زال بعيد المنال، لاسيما وأن هذه السلسلة من الأعمال الثأرية صبت في مصلحة السيد عبد الملك الحوثي وجماعة أنصار الله، التي يتهمها خصومها بأنها تحمل مشروعاً لاستبدال النظام الجمهوري بنظام إمامي، وهي تهمة لها ما يبررها، لاسيما في ظل غموض مشروعها السياسي، والهوة الكبيرة بين خطابها وممارستها، وتوظيفها للقوة العسكرية التي تمتلكها في الثأر من بعض رموز النظام القديم بشكل انتقائي، دون توظيفها في الضغط على الرئيس هادي والأطراف الأخرى باتجاه تغيير مؤسسات وتشريعات النظام القديم. ولعل هذا (أي تجنب تغيير تلك المؤسسات) يضمر الاستفادة منها في تنفيذ مشروع الحوثي السياسي.
فالنظام الذي بناه علي عبد الله صالح خلال العقدين الماضيين لا يحمل من الجمهورية سوى اسمها، وهو نظام مرن ومطاط، يمكن لمن يصل إلى منصب رئيس الجمهورية أن يُحَوّله إلى نظام سلطاني أو مشيخي أو إمامي أو أميري، دون حاجة إلى تغيير تسميته.
ثورة الشعب ستنتصر
رغم هذا الواقع الأسود والمظلم، سوف تنتصر ثورة الشعب اليمني، وهو من سيضحك أخيرا. فالصراع السياسي والاجتماعي لم يحسم بعد، والقوى التقليدية أو قوى النظام القديم (أو حتى النظام القديم /الجديد) لن تتمكن من حسمه حسماً نهائياً، وانتصاراتها التي تحققها حالياً هي انتصارات مؤقتة، مبنية على تحالفات تكتيكية، فضلاً عن أن كل القوى التقليدية المتصارعة تعتمد على رجال القبائل، وخارطة الولاءات السياسية للقبائل اليمنية سريعة التغير، وهي "خارطة مرسومة على رمال متحركة" كما وصفها الأستاذ محسن العيني (رئيس الوزراء الأسبق للجمهورية العربية اليمنية). وأهم من ذلك، أن قوى الثورة الشعبية تنظر إلى الصراع القائم باعتباره صراعاً بين القوى التقليدية، قوى النظام القديم بعضها ضد البعض الأخر، لذلك تقف على الحياد، ولسان حالها يقول: "فخار يكسر بعضه". ولكن إذا تطور الصراع ليهدد مستقبل الثورة، فسوف تجد نفسها مضطرة للانخراط في النزاع بفاعلية..