"حكم اليمن يشبه الرقص على رؤوس الثعابين"، عبارة اقتبستها الباحثة البريطانية فيكتوريا كلارك عن الرئيس السابق علي عبد الله صالح. وكان الشاعر إبراهيم الحضراني قد قال في إحدى قصائده: "وأتعس الناس في الدنيا وأنكدهم / من يركب الليث أو يحكم اليمنَ". هذا الوصف للعلاقة بين النخب المتنافسة على حكم اليمن صادق، إلا أنه ليس دقيقاً ولا صالحا لتوصيف العلاقة بين الشعب اليمني وحكامه. فالفئات الشعبية اليمنية تتداول مقولة نحن "شعب عرطة". و"العَرطة" هو النبات الذي يؤكل دون مضغ، فيسهل أكله حتى على من لا أسنان له. الشعب اليمني وفقاً لمن يتداولون هذه العبارة هو شعب سهل القيادة قابل للانقياد، ومتقبل للقهر والقمع. ولولا هذه السمات لما استطاع الرئيس السابق حكم اليمن 34 عاماً متواصلة.. الصراع على السلطة بالمقابل ما زال محتدماً بين أطراف كثيرة، أبرزها وأكثرها حدة هو الصراع بين رئيس الجمهورية الحالي عبد ربه منصور هادي ورئيس المؤتمر الشعبي العام (رئيس الجمهورية السابق) علي عبد الله صالح.
أوراق الرئيس الحالي
يفتقر الرئيس هادي، حالياً على الأقل، لدعم سياسي من الأطراف الداخلية المؤثرة. فالحوثيون يتهمونه بالخضوع للتجمع اليمني للإصلاح وجناح في النظام السابق، وقادة التجمع اليمني للإصلاح يتهمونه بتسهيل اجتياح الحوثيين للعاصمة صنعاء في 21 أيلول/سبتمبر 2014، وتعطيل قيام الجيش والأمن بمهامهما في مواجهة تمدد الحوثيين في عدد من المحافظات، والمستقلون ونشطاء الحركات الشبابية والمدنية يتهمونه بالضعف والخضوع للنخب المحافظة الساعية إلى أعاقة تنفيذ مخْرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل.. إلا أن هذه الأطراف كلها لم تدخل في صراع مباشر مع الرئيس هادي، بعكس الرئيس السابق علي عبد الله صالح والموالين له في المؤتمر الشعبي العام، وفي أجهزة الدولة المدنية والعسكرية. فهولاء دخلوا معه في صراع مباشر، فاتهموه بأنه وراء عقوبات منع السفر وتجميد الأصول الاقتصادية التي فرضها مجلس الأمن على الرئيس السابق في 8 تشرين الثاني / نوفمبر 2014.
يمتلك الرئيس هادي عددا من الأوراق السياسية التي، إن أحسن توظيفها، يمكن لها أن توفر له فرصة التغلب على الرئيس السابق، في مقدمها ورقة الدعم الدولي والإقليمي. فكثير من قرارات هادي ما كان لها أن تجد طريقها للتنفيذ لولا دعم المجتمع الدولي ورعاة "المبادرة الخليجية"، وضغوطهما على الرئيس السابق. وعلى الرغم من أن هذا الأخير قلل من أهمية العقوبات الدولية وتأثيرها فيه، إلا أنه في الحقيقة يدرك إنها تشكل كرة ثلج قد تتعاظم لتصل إلى درجة طلب مثوله أمام محكمة دولية. أما الورقة الثانية فتتمثل في التأييد الشعبي المحتمل والمرهون باتخاذه قرارات راديكالية. فهو أقرب للجماهير من صالح، وقد بدا ذلك واضحاً في التظاهرة التي حركها الموالون للرئيس السابق في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر، والتي كشف تدني عدد المشاركين فيها المستوى المتراجع لتأثيره في الناس.
أوراق الرئيس السابق
يمتلك علي عبد الله صالح عدداً من الأوراق، في مقدمها تحالفه مع حركة أنصار الله (الحوثيين). وقد استخدم هذه الورقة في الثأر من خصومه، الجنرال علي محسن الأحمر والشيخ صادق الأحمر وإخوانه، والتجمع اليمني للإصلاح. إلا أن هذه الورقة قد لا تكون مفيدة في صراعه مع الرئيس هادي، الذي ليس خصماً لجماعة الحوثي، كما تبين بوضوح خلال الأسابيع الماضية. فاعتراض هؤلاء على حكومة الكفاءات جاء خجولاً، ولم يطالبوا بإسقاطها بل بتعديلها، وتغيير عدد من الوزراء المحسوبين على التجمع اليمني للإصلاح، وعادوا وباركوا الحكومة على لسان عضو المجلس السياسي لحركتهم ومستشار رئيس الجمهورية. فضلاً عن ذلك، فإن التحالف بين الرئيس السابق وحركة أنصار الله هو حتى الآن تحالف تكتيكي غير معلن وينكره الطرفان، وأي إعلان له سوف يؤدي إلى خسائر لطرفيه. فهناك أطراف في جبهة الموالين لصالح ترفض هذا التحالف لأسباب سياسية أو مذهبية، وقد يؤدي الإعلان عنه إلى مزيد من الانقسامات في تلك الجبهة. بالمقابل، هناك أطراف في حركة أنصار الله تقبل التحالف التكتيكي مع صالح، لكنها ترفض أي تحالف استراتيجي، أولاً بسبب أنه المسؤول الأول عن حروب صعدة الست التي اندلعت خلال الأعوام 2004- 2010، وثانياً بسبب أن هذا التحالف الاستراتيجي لمواجهة الرئيس هادي قد يؤدي إلى عودة النظام القديم، خلافاً للتحالف التكتيكي غير المعلن، الذي كانت حركة أنصار الله هي الكاسب الأول فيه. هذا فضلاً عما سيؤدي إليه هذا التحالف لو أصبح استراتيجيا ومعلناً إلى تآكل في شعبية "أنصار الله"، ومزيد من الضعف في علاقتها بالقوى السياسية الأخرى، وبالمستقلين والحركات الشبابية.
أوراق معطلة
يمتلك المؤتمر الشعبي العام أغلبية كبيرة في البرلمان بغرفتيه: أغلبية مريحة جداً في مجلس النواب المنتخب عام 2003، وأغلبية كاسحة في مجلس الشورى المعين. وقد ظهر تأثير صالح في المجلسَين خلال الشهر المنصرم، حين أعلنا عن إدانتهما ورفضهما التدخل الخارجي في شؤون اليمن.. وهو تأكيد (في السياق الذي ورد فيه) على ولاء أعضاء المجلسَين للرئيس السابق. مع ذلك، فمن غير المحتمل أن يستخدم الرئيس السابق هذه الورقة في حربه ضد الرئيس هادي وحكومة الكفاءات المحسوبة عليه، فهو يميل إلى استخدام وسائل الحرب السرية لإفشال الحكومة، عوضاً عن استخدام أدوات علنية لإسقاطها، لا سيما في ظل الضغوط الدولية التي يتعرض لها، وما يمكن أن يترتب على ذلك من تشديد العقوبات الدولية عليه باعتباره معرقلاً لعملية الانتقال السياسي.
ما زال الرئيس السابق محتفظا حتى الآن بمنصبه الحزبي كرئيس للمؤتمر الشعبي العام، وما زال معظم قادة المؤتمر الشعبي محافظين على ولائهم الشكلي له. وهو شرع بتوظيف هذه الورقة في صراعه مع نائبه الأول السابق والأمين العام السابق لحزبه (الرئيس هادي)، حيث اتخذ اجتماع استثنائي للجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام قراراً بعزل الرئيس هادي من منصبيه الحزبيين. إلا أن قطاعاً من قادة المؤتمر، لا سيما في الجنوب، رفض هذا القرار، ورفضه الرئيس هادي نفسه لعدم شرعيته، ووجه مذكرة إلى البنوك بعدم صرف أي أموال من أرصدة المؤتمر من دون موافقته وتوقيعه. فاختيار نائب رئيس المؤتمر وأمينه العام وفقاً للنظام الداخلي للحزب هو من سلطات المؤتمر العام وليس من سلطات اللجنة الدائمة، ما يشير إلى وجود انقسام في الحزب. وإذا تطور هذا الصراع فسيتحول الانقسام إلى انشقاق، لا سيما أن بنية المؤتمر الشعبي هشة وقابلة للتفكك، بسبب أنه حزب سلطة منذ تأسس عام 1982، ومعظم قادته هم من الباحثين عن الريع، وتتحدد مواقفهم خلال الهزات السياسية الكبرى بناء على حسابات الربح والخسارة الشخصية وليس بناء على حسابات أيديولوجية، وربما استطاع الرئيس هادي (الذي يمتلك سلطة التعيين في المواقع السياسية العليا والتصرف بالمال العام) كسب ولاء كثيرين منهم. وهناك مؤشرات ذات دلالة في هذا المجال، فعندما دعا الرئيس السابق أعضاء الحكومة المنتمين للمؤتمر الشعبي العام إلى الانسحاب، لم يَستجِب له (من بين 11 وزيراً محسوبين على المؤتمر الشعبي العام) سوى وزير واحد، أما من تبقى فرفضوا الانسحاب.
مستقبل مجهول
إذا ما استمر الطرفان في استخدام آليات الصراع السياسي، سواء كانت شرعية أو غير شرعية، فإن النتائج السلبية للصراع ستكون محدودة وآنية (وهو ما لا يقلل من فداحتها وأذاها)، وستقتصر على تعطيل العمل اليومي للحكومة ومؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية، وإعاقة إنجاز مشروعات التنمية. أما إذا لجأ الرئيس السابق أو طرف آخر من أطراف النظام القديم إلى إبعاد الرئيس هادي عن السلطة، عبر عملية عسكرية واسعة أو عبر الاغتيال، فإن ذلك سوف يؤدي إلى آثار سلبية بعيدة المدى، تبدأ بإيكال منصب رئيس الجمهورية لرئيس مجلس النواب وفقاً لنصوص الدستور، الذي بدوره سيدعو لانتخابات رئاسية خلال 60 يوماً، وهو ما يعني استعادة النظام القديم للسلطة، والتنكر لكل مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، تماماً كما تم التنكر لـ"وثيقة العهد والاتفاق" بعد حرب صيف 1994، وذلك من خلال تعطيل عمل لجنة صياغة الدستور الجديد، أو تعطيل الاستفتاء عليه. ويعني ذلك كبح التحول إلى دولة فيدرالية، ما سيترتب عليه انضمام الفصائل الجنوبية المعتدلة إلى التيار المطالب بالانفصال، بعد فشل المشروع الذي كانت تراهن عليه لإنصاف الجنوبيين، وكبح التحول من نظام الانتخاب الفردي إلى النظام النسبي، وسلب النساء المكتسبات التي تحققت لهن في مؤتمر الحوار الوطني.. والأخطر من ذلك أن النظام القديم، المستعيد للسلطة، سوف يواصل تطبيق إستراتيجية البقاء التي اعتمدها خلال العقود الثلاثة الماضية، المتمثلة في تأجيج الصراعات والنزاعات والحروب الطائفية والمناطقية والقبلية.. وآثارها هذه المرة ستقضي على البقية الباقية وتكون مدمرة تماماً.