البداوة السياسية للنظام القديم في اليمن

عرف اليمنيون علي عبد الله صالح منذ كان قائداً للواء تعز باسمه مجرداً من أي لقب عائلي أو كنية تدل على مكانة عائلته الاجتماعية، وهو أمر نادر في المحافظات الشمالية التي ينتمي إليها. مع ذلك، فإن كثيرين كانوا يعرفون أنه ينتمي إلى عائلة فلاحية فقيرة من قبيلة «سنحان»، وهذا ما دفع الرئيس إبراهيم الحمدي إلى تعيينه في هذا الموقع العسكري الهام، عند تدشينه مشروع إعادة هيكلة الجيش العام
2014-01-22

عادل مجاهد الشرجبي

أستاذ علم الاجتماع بجامعة صنعاء


شارك

عرف اليمنيون علي عبد الله صالح منذ كان قائداً للواء تعز باسمه مجرداً من أي لقب عائلي أو كنية تدل على مكانة عائلته الاجتماعية، وهو أمر نادر في المحافظات الشمالية التي ينتمي إليها. مع ذلك، فإن كثيرين كانوا يعرفون أنه ينتمي إلى عائلة فلاحية فقيرة من قبيلة «سنحان»، وهذا ما دفع الرئيس إبراهيم الحمدي إلى تعيينه في هذا الموقع العسكري الهام، عند تدشينه مشروع إعادة هيكلة الجيش العام 1975.

«تيس الضباط» وألقاب أخرى
يقال إن الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي أطلق على علي عبد الله صالح لقب «تيس الضباط» تقديراً لشجاعته. وربما كانت صفة الشجاعة هي الميزة الوحيدة التي أكسبته رضا القوى المحافظة وشيوخ القبائل (المهيمنين على مجلس الشعب التأسيسي)، وأقنعتهم باختياره رئيساً للجمهورية في 17 تموز/ يوليو 1978. وبهدف تسويقه شعبياً، سعت القوى التي أوصلته إلى منصب رئيس الجمهورية إلى إضفاء الهيبة والقوة على شخصيته، فروجت انتماءه إلى عشيرة الأحمر في «سنحان»، وأنه أخ غير شقيق للواء علي محسن الأحمر.
ولم ينكر أحد من عشيرة الأحمر (بما في ذلك علي محسن الأحمر نفسه) هذه الادعاءات، وقابلها هو بالسكوت وعدم الرفض، بل استخدم لقب الأحمر في طلب ترشحه للانتخابات الرئاسية عام 2006. وخلال سنوات حكمه الطويلة، أطلق عليه كتاب السلطة عدداً من الألقاب، كالزعيم، الرمز، قائد المسيرة، بشير الخير، ربان السفينة، الفارس، ابن اليمن البار، باني نهضة اليمن الحديث، حكيم اليمن، ووصفه السياسيون بالكريم والشهم والمتسامح، وغيّر موظفو «البلاط» اسم حي «أكمة العكابر» (الفئران باللهجة اليمنية) الذي يقع فيه قصره بمدينة تعز إلى «أكمة الأكابر»، وألّف له المؤرخون أدواراً في معارك فك حصار السبعين يوماً عن العاصمة صنعاء (الذي ضربته القوات الملكية على الجمهوريين في 28 تشرين ثاني/نوفمبر 1967- 7 شباط/فبراير 1968)، وكتب فيه عدداً من كبار شعراء اليمن قصائد مدح، إلى درجة أنْ شبّهه أحدهم بالنبي محمد فقال: «وإن تك فوق من سادوا ومن حكموا ... مثل النبي فهبني اليوم حسانا».
وانضم بعض علماء الدين لجوقة المتملقين له أثناء فترة حكمه، وراحوا يروجون لنظرية طاعة ولي الأمر، وكفّروا معارضيه أفراداً وجماعات.

شيخ الرئيس ورئيس الشيخ
أسس علي عبد الله صالح خلال فترة حكمه نظام أعيان (أوليغاركي)، يحكمه تحالف رباعي؛ عائلي، قبلي، ديني، وعسكري، يتزعمه الرئيس نفسه، والشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، والشيخ عبد المجيد الزنداني، واللواء علي محسن الأحمر، تجمعت بين مكوناته الأربعة علاقة تكافل واعتماد متبادل، أو علاقات رعوية متبادلة. فلولا مشايخ القبائل ومشايخ الدين وجنرالات الجيش المحافظين ما استطاع علي عبد الله صالح الوصول إلى منصب رئيس الجمهورية، والاستمرار فيه أكثر من ثلاثة عقود، ولولا دعمه لهم خلال رئاسته للدولة ما استطاع هؤلاء تحقيق ما حققوه من السلطة والثروة. وتكتسي العلاقة بين المكونين العائلي والقبلي أهمية خاصة في استمرار هذا التحالف، لذلك كان البعض يصف علاقة علي عبد الله صالح بالشيخ عبد الله بن حسين الأحمر بأنها علاقة شيخ برئيسه ورئيس بشيخه، ولخصها البعض بعبارة «شيخ الرئيس ورئيس الشيخ».
وعلى الرغم من أن العلاقة بين المكون العائلي والمكونات الثلاثة الأخرى في هذا التحالف شهدت خلال السنوات الثمان الماضية صراعاً خفياً، إلا أنه لم يكن صراعاً وجودياً، بقدر ما كان صراع على اقتسام الغنائم.

منشقون وبقايا
مع اندلاع ثورة الحرية والتغيير التي دشنها شباب اليمن في 11 شباط/ فبراير 2011، المطالِبة بإسقاط النظام بكل مكوناته، تيقنت المكونات القبلية والعسكرية والدينية في التحالف الحاكم بأن بقاء النظام مرهون بالتضحية بالمكون العائلي، لذلك تبنى رموز هذه المكونات الثلاثة (الشيخ صادق الأحمر والشيخ عبد المجيد الزنداني واللواء علي محسن الأحمر) خلال الشهر الأول من الثورة دور الوسيط، فنقلوا لعلي عبد الله صالح (خلال لقاء جمعهم به في مكتبه بمجمّع وزارة الدفاع) مطالب أحزاب اللقاء المشترك المعارضة (آنذاك)، وفي مقدمها مطلب تسليم السلطة لنائبة عبد ربه منصور هادي، ما ولّد لديه شعوراً بأنهم ليسوا وسطاء محايدين، فقال لهم: «أنا علي عبد الله صالح الحميري من نسل سيف بن ذي يزن. لن أسلم السلطة، وسيسيل الدم للركب». ولا يحتاج المرء لكثير من الذكاء لإدراك مغزى هذه العبارة، التي يعلن فيها تبرؤه من الانتساب لبيت الأحمر بشكل خاص وقبيلة حاشد بشكل عام، وانتماءه (بالحق أو بالباطل) إلى قبيلة حِمْيرْ، وبالتالي التبرؤ من العلاقة الرعوية بشيخ مشايخ حاشد، وأنه يمتلك القوة التي تؤهله للبقاء في السلطة دون حاجه للدعم العسكري للواء علي محسن الأحمر، أو الدعم الإيديولوجي للشيخ عبد المجيد الزنداني، ما دفع هؤلاء الثلاثة بالمقابل إلى إعلان تبرؤهم من علي عبد الله صالح ودعمهم للثورة في 21 آذار/ مارس2011.
فكان هذا الإعلان بمثابة المسمار الأخير في نعش التحالف. وبدأت الصحافة السياسية في استخدام مصطلحَي «بقايا النظام» (المكون العائلي)، و«المنشقون عليه» (المكونات القبلية والعسكرية والدينية). وكشف المنشقون عن النظام لأول مرة عن اللقب العائلي لعلي عبد الله صالح، «عفاش»، والذي ظلوا يتعاملون معه طيلة ثلاثة عقود كما لو كان سراً من أسرار الدولة، وبات قطاع واسع من الثوار في ساحات الحرية وميادين التغيير يرددون هتاف «ارحل يا عفاش»، أكثر من ترديدهم هتاف «الشعب يريد إسقاط النظام». فقد استهوى هذا الهتاف الجماهير الشعبية التي تميل إلى تقبل المقولات والشعارات المهيجة للمشاعر، وهتافات التعبئة والحشد، أكثر من تقبلها للشعارات والمقولات المجردة والمحاجات العقلية، حيث وعيها يميل دائماً إلى المحسوس والملموس.
وهتاف «الشعب يريد إسقاط النظام» يبدو لهذه الجماهير شعاراً مجرداً، وغير مفهوم، بل يبدو كذلك لكثير من المثقفين التقليديين، الذين كانوا يعلقون متسائلين: «وهل هناك نظاماً لنسقطه»؟!

ثقافة سياسية بدوية
سعى المنشقون عن النظام من خلال كشفهم عن لقب «عفاش» والتوسع في ترديده في ساحات الثورة، إلى تجريد علي عبد الله صالح من القوة والهيبة التي كانوا أضفوها عليه عند وصوله إلى السلطة، وإظهاره بمظهر ضعيف، ما يسهل عليهم تعبئة الجماهير ضده، وفي الوقت ذاته إفراغ الثورة الشبابية من مضامينها الحقيقية كعملية تحول سياسي واجتماعي وثقافي شامل، وتحويل مسار الثورة من انتفاضة ضد النظام إلى انتفاضة ضد «عفاش»، وإعلان تبرؤ عشيرة الأحمر وقبيلة حاشد بشكل عام من المكون العائلي، وتحميل علي عبد الله صالح شخصياً وزر أخطاء العقود الثلاثة التي حكم خلالها اليمن، وهو ما بدا واضحاً بعد صدور القرارات الأولى الخاصة بهيكلة القوات المسلحة، حيث كرس فريق من الثوار جهودهم للمطالبة بالإبقاء على اللواء علي محسن الأحمر (قائد الفرقة الأولى مدرع والمنطقة الشمالية الغربية)، وذلك على الرغم من أن أنه كان (حسب تصريح له) الرجل الأول (وليس الثاني) في اليمن خلال فترة حكم علي عبد الله صالح. تكشفت خلال الثورة البداوة السياسية للنظام. ففي مقابل كشف المنشقين عن لقب «عفاش»، راح بقايا النظام يحاولون إعادة إنتاج هيبة علي عبد الله صالح وشرعيته الاجتماعية، عبر ترويج انتماءه إلى قبيلة حمير، وأن جده البعيد «عفاش» كان سلطاناً حميرياً، قدم من «مأرب» إلى منطقة «سنحان» قبل 1200 سنة، ومحاولة إضعاف الشرعية الاجتماعية لخصومه عبر التشكيك في انتساب بيت الأحمر (شيوخ حاشد) لليمن، وادعاء أن أصولهم ترجع إلى ألبانيا، والكشف عن أن لقب اللواء علي محسن هو «الحاج» وليس «الأحمر»، والادعاء أن جده الرابع ليس يمنياً. وبغض النظر عن صدق هذه الادعاءات أو عدم صدقها، فإنها تشير إلى أن كل مكونات التحالف الأوليغاركي الذي ترأسه علي عبد الله صالح تتبنى ثقافة سياسية بدوية مشتركة.

تغيير ولاءات 
لم يتعد النزاع بين بقايا النظام والمنشقين عليه حدود التنابذ بالألقاب والتفاخر الجاهلي بالأنساب، ولم يكشف أي من الطرفين عن دور الطرف الأخر في الجرائم الكبرى التي ارتكبت بحق الشعب اليمني خلال العقود الثلاثة الماضية. فلم يتم الكشف عن الاغتيالات وفي مقدمها اغتيال الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي، ولا عن المخفيين قسرياً، ولا عن الفساد ونهب المال العام، ونهب مؤسسات وأراضي الجنوب وعقاراته... ما يدل على أن أطراف هذا التحالف تتشارك ثقافة سياسية تقاوم التحديث وبناء الدولة، وتنكر مبادئ المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية، وتقاوم إنفاذ القانون، وتتبنى معايير شخصية ورعوية في الترشيح لشغل المناصب السياسية والإدارية العليا، على حساب معايير الكفاءة والتأهيل وتكافؤ الفرص. وهذا كله من شأنه تحويل الثورة من انتفاضة ضد النظام الأوليغاركي إلى مجرد أزمة بين مكوناته، ومن عملية تغيير اجتماعي اقتصادي سياسي شامل إلى عملية تغيير ولاءات. لاسيما أن كثيراً من هؤلاء الذين غيّروا ولاءاتهم لا زالوا حتى اليوم يشغلون مناصب سياسية وإدارية عليا، فيما بقي الثوار بعيدين عن السلطة ودوائر صناعة القرار.
لم تثر القوى الاجتماعية المدنية ضد علي عبد الله صالح لأنها اكتشفت أنه عفاش، بل ثارت عليه لأنه تنكر للقب «عفاش» وانتماءه الاجتماعي، وانتحل لقباً غير لقبه الحقيقي، وانسلخ عن انتماءه الاجتماعي، وفرّط بمصالح الفئات الشعبية التي ينتمي إليها خدمة لمصالح الأرستقراطيات القبلية، وحوّل نظام الحكم من نظام جمهوري إلى نظام شبه ملكي.
وقد اكتشفت هذه القوى خلال مسيرة الثورة أن تحقيق أهداف الثورة لا يتطلب فقط تغيير الأشخاص، ولا حتى تغيير المؤسسات والتشريعات، بل يتطلب بناء نظام اجتماعي جديد، ومنظومة قيم اجتماعية جديدة، وأنْ تتزامن الثورة السياسية مع ثورة ثقافية. فالمؤسسات والتشريعات الجديدة لا تستطيع إنجاز وظائفها الاجتماعية والسياسية إلا إذا تزامن تأسيسها مع تكريس ثقافة سياسية مدنية ديمقراطية: فغياب الثقافة المدنية خلال العقود الثلاثة الماضية مكن التحالف الأوليغاركي من تحويل النظام إلى نظام شبه ملكي، على الرغم من توفره على تشريعات ومؤسسات حديثة شبيهة بمؤسسات وتشريعات الأنظمة الجمهورية في الديمقراطيات الغربية.

مقالات من اليمن

تحوُّلات العاصمة في اليمن

يُعدّ الإعلان الرئاسي عن نقل العاصمة الى "عدن"، في معناه القانوني، إجراءً رمزيّاً، لأن نقل العاصمة يقتضي إجراء تعديلات في الدستور اليمني، الذي لا يزال ينص على أن مدينة "صنعاء"...

للكاتب نفسه

اليمن: قصة الصراع بين رئيسَين

"حكم اليمن يشبه الرقص على رؤوس الثعابين"، عبارة اقتبستها الباحثة البريطانية فيكتوريا كلارك عن الرئيس السابق علي عبد الله صالح. وكان الشاعر إبراهيم الحضراني قد قال في إحدى قصائده: "وأتعس...