تخرق الخلاصات التي خرج بها جوشوا ستاشر وشانا مارشال في بحثهما "جنرالات مصر ورأس المال العابر للحدود" (مجلة "ميدل إيست ريبورت" ــ ربيع 2012 ونقلته إلى العربية سهى فاروق)، الجدار الفولاذي المشيَّد حول الدور الاقتصادي الذي يؤدّيه الجيش المصري في "المحروسة". دور تعاظم مع خلع الرئيس حسني مبارك وحاشية ابنه جمال في 11 شباط/ فبراير 2011، بعدما تخلّص الجيش من منافِس جدّي لدوره الاقتصادي التاريخي في البلاد، كانت تجسّده أسماء شابة من المحيطين بمبارك الابن ممن كانت أولويتهم تشريع اقتصاد البلاد أمام القطاع الخاص بلا أي قيود، والتخلص من أي مظهر من مظاهر دولة الرعاية الاجتماعية وسياسات الدعم الاقتصادي للفئات الأكثر فقراً. وهنا بيت القصيد بالنسبة لبحث ستاشر ومارشال، إذ قد يتساءل مَن يقرأه عمّا إذا كان الجيش المصري جيشاً فعلاً، أو شركة تجارية أو مقاولا أو سمسارا أو مصرفا حتى؟
وينطلق البحث من همّ أساسي، يُختصَر بالسعي إلى تكذيب الرواية التي انتشرت عند البعض غداة تنحّي مبارك، ومفادها أن الجيش المصري سهّل إطاحة أركان النظام السابق لقطع الطريق أمام جمال مبارك والمحيطين به، من رموز "الإصلاح العدواني" النيوليبرالي الذي ساهم بتفكيك آخر مؤسسات القطاع العام في مصر تحت عنوان "الخصخصة". وهي خصخصة ذكّرنا ستاشر ومارشال بأن الجيش يقوم تاريخياً بتسيير أعمال جزء كبير منها.
يضع الكاتبان أطروحة مختلفة تماماً عن نظرية الجيش "الحنون" على القطاع العام و"دولة الرعاية"، تفيد بأن الطموح نحو تطبيق النيوليبرالية والخصخصة بأحدث أشكالها عنفاً، كانا عاملاً مشتركاً بين رؤية كل من الجيش وفريق عمل جمال مبارك وحاشيته. بالتالي كان الطرفان متنافسين اقتصاديَّين، كون جماعة جمال أرادت إقصاء الجيش من الصفقات الكبرى، بينما تمسّكت المؤسسة العسكرية بخصخصة مطلقة شرط أن تكون هي شريكة أصيلة فيها، لا بل شرط أن يكون كل المسار النيوليبرالي بإشرافها المباشر. في النهاية، فاز الطرف المسلَّح على فريق النيوليبراليين المدنيّين فأُقصوا بالكامل، ومنهم أحمد عز وإبراهيم سليمان وغيرهما. وأصبح الجيش اليوم مطلَق الحركة في احتكار القطاعات الحيوية حيث أمكن، وشريكاً لأكبر الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للحدود حيث يعجز عن التغريد منفرداً.
ولأنّ ممتلكات الجيش، ونشاطه الاقتصادي الهائل داخل وخارج مصر، هما بمثابة "صندوق أسود" يُمنع الاقتراب من مفاتيحه، فـ "لا أحد يعلم على وجه اليقين مدى سيطرة الصناعات العسكرية على اقتصاد البلاد". ويُترجَم الغموض المحيط بالوزن الاقتصادي للجيش المصري في أنّ التقديرات بشأن هذا الوزن تتراوح بين 5 في المئة و40 في المئة بحسب مصادر ستاشر ومارشال، مروراً بالرقم الذي يورده وزير التجارة السابق، رشيد محمد رشيد، الموجود حالياً في المنفى، وهو "أقل من 10 في المئة".
ويفرد الكاتبان مساحة واسعة من بحثهما لتعداد الأمثلة عن كيف يشارك الجيش في تصنيع كل شيء، وبأية وسائل تمكّن من حجز مكانةً ريادية في المجالات الاقتصادية المربحة بالضرورة في القطاعين العام والخاص على السواء، وذلك بدءاً من البناء، والشحن البحري والجوي، وتصنيع الأسلحة، مروراً بالنفط والغاز والطاقة المتجدِّدة، وحرق النفايات، ومستلزمات تحويل السيارات للعمل بالغاز الطبيعي، والتطوير العقاري، وصولاً إلى معالجة مياه الصرف الصحي، وتأجير المعدات الثقيلة، وبناء السكك الحديدية، وشق الطرق، وشركات التأمين، أكان بشكل مستقل أو مع شركاء من تكتلات الخليج وأوروبا والولايات المتحدة والصين، فضلاً عن الشركات المتعددة الجنسيات الغربية والآسيوية. كلّ ذلك فضلاً عن مصالح الجيش التجارية في أقدم المصانع التي تديرها وزارة الإنتاج الحربي، والهيئة العربية للتصنيع (AOI)، وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية. (NSPO)
جميعها وقائع دفعت بالباحثَين إلى اعتبار أن الاقتصاد الريعي للجيش المصري يسير بشفاعة شعارات من نوع: "العدالة الاجتماعية لا بد أن تنتظر والمطالبون بها متهمون بإخافة السياح والمستثمرين الأجانب"، أو "الأولوية لجذب شركاء الاستثمار الأجنبي"، و"الإضرابات العمالية تقوّض الاقتصاد الوطني".
ويتوقف صاحبا "جنرالات مصر ورأس المال العابر للحدود" عند ميزة إضافية تجذب المستثمرين الأجانب إلى التعاقد مع الجيش المصري في صفقات كبرى، وهي القدرة على الاعتماد على الجنود المصريين لتأمين أصول الشركات وأموالها وموظفيها وبضائعها، وهو ما حصل مثلاً مع شركة "الخرافي الوطنية" في 2011عندما مُنحت قوّات معززة بدبابات ومدرعات دفاعية لحماية تسليم المعدات اللازمة لمشروع محطة الشباب لتوليد الكهرباء، فضلاً عن معلومات تفيد بأن الجنود المصريين يجري استخدامهم أحياناً كعمال لدى بعض المصانع والشركات المحظية.