صباح الخامس من كانون الأول /ديسمبر الجاري، دوّت أصوات انفجارات عنيفة في «مجمع الدفاع» (المعروف شعبياً بمجمع «العُرْضي») وسط صنعاء، وأعلنت القنوات التلفزيونية غير الرسمية في أخبار عاجلة عن اشتباكات تدور في المجمع، ما أصاب المواطنين بالهلع والصدمة. فمجمع العُرضي (من كلمة أوردي التركية العثمانية وتعني الجيش)، هو رمز هيبة الدولة منذ أمَر السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بإنشائه عام 1881. ويضم حالياً، بعد توسيعه عام 2002، مقارّ وزارة الدفاع، ورئاسة هيئة الأركان، ومكتب القائد الأعلى للقوات المسلحة، والدائرة المالية للقوات المسلحة، ودائرة الأشغال العسكرية، ودائرة التقاعد العسكري، ومستشفى الدفاع. لذلك تولّد لدى المواطنين شعور بأن حدثاً جللاً يجري.
طمأنة تثير المخاوف
كعادتها، لم تبث وسائل الإعلام الرسمية أي أخبار عن العملية خلال الساعات الأولى للهجوم، فيما كانت الأخبار العاجلة تتوالى على القنوات الفضائية الأخرى حول اقتحام مجموعة مسلحة للمجمع، وأصوات الانفجارات يتردد صداها في أحياء صنعاء.
وعند العصر، ومن أجل طمأنة المواطنين أيضاً، بث التلفزيون الرسمي خبراً مصوراً حول قيام رئيس الجمهورية بزيارة تفقدية للمجمع، واجتماعه بعدد من القادة العسكريين، وتوجيهه بتشكيل لجنة للتحقيق في الحادث، ما أشاع تكهنات بأن رئيس الجمهورية كان في المجمع ساعة بدء الهجوم، فلا يمكنه أن يزوره قبل أن تحسم المعركة مع المهاجمين، ولن تسمح له الأجهزة الأمنية بذلك باعتباره رمز الدولة.
تبين في ما بعد أن مجموعة مسلحة اقتحمت مجمع الدفاع واستهدفت بشكل رئيس المستشفى، وقتلت كل من صادفته أمامها. وقد أسفر الهجوم عن 59 شهيداً و188 مصاباً من الكوادر الطبية والمدنيين والعسكريين. ولم يتمكن الجيش اليمني من استعادة السيطرة إلا فجر اليوم التالي. اختيار المهاجمين للمستشفى لم يكن مصادفة، ولا هو نتيجة ضعف الإجراءات الأمنية بسبب تنفيذ أعمال إنشائية جديدة حسب رواية وزارة الدفاع، ولا لأنه يضم مركزاً أميركياً لقيادة وتوجيه الطائرات دون طيار، حسب البيان المنسوب لتنظيم القاعدة، بل يبدو كعمل مخطط لاغتيال الرئيس هادي بناء على معلومات مؤكدة بوجوده في المستشفى، سواء لإجراء فحوصات طبية دورية، أو لزيارة أخيه الذي يعالج هناك...
تزوير بصمات القاعدة
قيل إن العملية تحمل بصمات القاعدة. إلا أنها بصمات تبدو مزوّرة، شاركت في تزويرها (بقصد أو من دونه) أطراف كثيرة، بما فيها اللجنة التي شكلها رئيس الجمهورية للتحقيق في القضية.
فقد أشار تقريرها الأولي الذي قدمته لرئيس الجمهورية، إلى أن معظم المهاجمين يحملون الجنسية السعودية، ما يوحي بأن تنظيم القاعدة هو المسؤول عن العملية. فتنظيم «قاعدة الجهاد في جزيرة العرب» الذي تشكل عام 2009 نتيجة توحد فرعي القاعدة في اليمن والسعودية، هو الوحيد القادر على تجنيد سعوديين لتنفيذ عمليات إرهابية في البلاد. وأهملت اللجنة في تقريرها الإشارة إلى المسلحين الذين ساندوا المهاجمين من أسطح المباني الخاصة المجاورة لمجمع الدفاع، رغم مشاهدة المواطنين للاشتباكات التي دارت بين هؤلاء المسلحين وجنود القوات المسلحة، وهو إهمال يساهم في حصر التهمة بتنظيم القاعدة. فلا يمكن لأصحاب المباني السماح لعناصر من القاعدة باستخدام سطوحها لتقديم الدعم للمهاجمين. فضلاً عن ذلك، قدر مُعدّو التقرير عدد المسلحين الذين اقتحموا المجمع باثني عشر، وأشاروا إلى العثور على اثنتي عشرة جثة للمهاجمين، ما يعني مقتلهم جميعاً.
فينفي بطريقة غير مباشرة القبض على بعض منفذي العملية أحياء على الرغم من أن مصادر كثيرة أكدت القبض على أربعة من المسلحين الذين اقتحموا المجمع. ويوصي التقرير (بطريقة غير مباشرة أيضاً) بتقييد القضية ضد مجهول معلوم (هو تنظيم القاعدة) وإقفال ملف التحقيق.إذا كان هذا التقرير يُلمّح إلى مسؤولية تنظيم القاعدة عن تنفيذ العملية، فقد صدر أيضاً بيان منسوب للقاعدة ليل الخميس/الجمعة، يدّعي فيه صراحة مسؤوليتها عن العملية. وسرعان ما تبين أن هذا البيان مزور شكلاً وموضوعاً. فعلى مستوى الشكل، عادة ما تصدر القاعدة بياناتها التي تدعي فيها مسؤوليتها عن عمليات كبيرة كهذه في مواقعها المعروفة على شبكة الإنترنت، وأهمها «صدى الملاحم»، أما هذا البيان فقد نشر عبر تسع تغريدات على حساب جديد على تويتر تم إنشاؤه في اليوم السابق لتنفيذ العملية. وعلى مستوى الموضوع، يسعى البيان إلى نفي مسؤولية العملية عن أي طرف أكثر مما يسعى إلى تأكيد مسؤولية القاعدة عنها. إحدى التغريدات مثلاً تنفي استخدام «المجاهدين» لأي مبانٍ خارج المجمع، وهي إحدى القرائن في دحض حصر المسؤولية عن العملية بتنظيم القاعدة. أما ادعاء البيان بأن الهدف هو تدمير مركز عمليات أميركي لتوجيه وقيادة الطائرات دون طيار، فهي محاولة غير موفقة لإثبات مسؤولية القاعدة. فعلى افتراض وجوده فعلاً في مجمع الدفاع، فلكان الأقرب للمنطق ان يوجد في مبنى وزارة الدفاع أو مقر هيئة الأركان، وليس في مستشفى الدفاع الذي يتردد عليه يومياً مئات المرضى والزائرين وعشرات الكوادر الطبية. ولا يمكن أن ينفذ تنظيم القاعدة عملية كبيرة كهذه بناء على شكوك، ودون توافر معلومات دقيقة عن المكان الذي فيه هذا المركز.
في مقابل بيان القاعدة المزوّر، حرّف طرف ما بياناً تنفي فيه القاعدة مسؤوليتها عن العملية. وقد يكون هو نفسه الذي زوَّر بيان ادعاء المسؤولية، حيث تم إنشاء حساب مزور على فيسبوك باسم رئيس هيئة الأركان العامة اللواء الركن الأشول، نشرت عليه تصريحات غير حقيقية. وتبادلت التراشق والسعي لإلصاق التهمة بالآخر، وسائل إعلام تابعة للرئيس السابق علي عبد الله صالح وأخرى تابعة لخصمه اللدود اللواء علي محسن الأحمر. وحاولت بعض الأطراف إلصاقها بالسعودية، أو بجماعة الحوثي وإيران. ففي مقال بعنوان «متفجرات إيرانية استخدمت في الهجوم على وزارة الدفاع اليمنية»، قالت صحيفة الشرق الأوسط «إن معظم المواد التي استخدمت في التفجير مطابقة لما جرى ضبطه في سفن الأسلحة الإيرانية التي حاولت الوصول إلى السواحل اليمنية خلال الأشهر القليلة الماضية»، وهو أمر لم يقل به أحد. فالمتفجرات المستخدمة حسب تقرير لجنة التحقيق كانت مكونة من مادة «TNT»، وبنادق كلاشنيكوف، وصواريخ «LAW».
انقلاب سياسي ناعم
وصفت وسائل الإعلام الرسمية العملية بالإرهابية. إلا أنها تبدو أقرب إلى محاولة انقلاب فاشلة. فأشخاص النظام القديم ما زالوا يسيطرون على كل مؤسسات الدولة وأجهزتها المدنية والعسكرية والأمنية، ولم تؤد حركة التغييرات والتنقلات التي أجراها الرئيس هادي منذ وصوله إلى السلطة في شباط /فبراير 2012 سوى إلى تعديل محدود في توزيع القوة والسلطة.
والتغير ما زال مؤجلاً حتى الانتهاء من الفترة الانتقالية واختتام أعمال مؤتمر الحوار الوطني الشامل، والبدء بتنفيذ مخرجاته. لذلك فإن إعادة النظام القديم لا يتطلب انقلاباً عسكرياً تقليدياً تنفذه القوات المسلحة، ولا السيطرة على وزارة الدفاع ومباني الإذاعة والتلفزيون ومؤسسات الدولة الأخرى، وإنما يتطلب انقلاباً سياسياً يشبه تماماً الانقلاب الذي نفذته القوى التقليدية على نظام الرئيس إبراهيم الحمدي عام 1977، حيث اكتفى الانقلابيون باغتيال الرئيس، ثم استكملوا انقلابهم بأدوات سياسية، من خلال تنفيذ انتخابات رئاسية صورية غير مباشرة وغير تنافسية. ولو نجح الانقلابيون باغتيال الرئيس هادي، فسيتولى رئيس مجلس النواب مهام رئيس الجمهورية وفقاً لنص المادة (116) من الدستور، والذي سيدعو (وفقاً لنص المادة الدستورية ذاتها) لانتخابات رئاسية خلال ستين يوماً، ما يعني إسقاط المبادرة الخليجية، وإرباك استكمال الحوار الوطني.
تَشَكلت قناعة عامة بأن ما حدث في مجمع الدفاع هو محاولة انقلابية فاشلة، ولكن لم يخلُ الامر من ارتباك حول تحديد الطرف المسؤول عنها. حصل الارتباك نفسه بشأن تحديد الطرف المسؤول عن محاولة اغتيال الرئيس السابق علي عبد الله صالح في مسجد دار الرئاسة في حزيران/يونيو 2011. بل الأمر هنا أكثر صعوبة، فخصوم هادي لا يخاصمونه شخصياً، بقدر ما يناهضون مشروع التغيير.