"أنا كائن فضائي"، أفكر فيما أمشي في شوارع مدينة ألمانيّة صغيرة يوم 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2019. أقطع الشارع بدون انتباه إلى إشارات المرور الحمراء، تزاحمني الدراجات الهوائية، أكرّج شاشة الهاتف صعوداً ونزولاً بلا توقف، بهستيريّة، بطقوسية، فيما أمشي. إذا حصل ورفعتُ عيني عن الشاشة، والتقتا بعيني أحد المارة في الشارع، أجدني أسأل "من هذا، من هؤلاء، ماذا أفعل بينهم؟". تركتُ عملي باكراً بحجج مبهمة. الحجة الحقيقية أنني بحاجة لأركّز في "الريفرش"، في التفقيس على الهاتف المحمول، فيسبوك، تويتر، انستاغرام وغروبات الواتساب. الحماس والفرح والتعصيب والقلق بحاجة لوقت كثير، وهي أمور جدية لا تُتيح مجالاً لممارسة أي نشاط آخر. "هل ينظرون إليّ "بالمقلوب"؟ ماذا يريدون، هؤلاء الأغراب؟" الذين يمشون بلا عجالة في وسط المدينة، يشترون أغراض البيت ويلعبون موسيقى هادئة. ما هذه البلادة، يا الله!... لكنني أعرف أنه ليس من المنطق في شيء أن ألومهم على صمتهم. هم في ألمانيا في نهاية المطاف، وأنا في لبنان، وسط الثورة. وصل الباص، وأنا أصحّح لنفسي فيما أستقلّه "لستُ في لبنان، أنا في ألمانيا، أنا كائن فضائي".
***
ثورة لإسقاط الحكومة، ثورة على العهد، ثورة لإسقاط الرموز والآلهة، ثورة على الفساد، كل هذا وأكثر، لكنه أيضاً ثأرٌ وانتقام. بيننا وبينهم دم كثير، قبل المال الكثير الذي بلعوه، منذ الحرب الأهلية إلى أحداث "السابع من أيار"، من معارك المحاور في طرابلس إلى سيارات داعش المفخخة التي تُرِكت تسرح وتمرح وتنفجر بالناس في الضاحية والهرمل وسواها. وأكثر من هذا الدم، هناك عنف مبطّن، حلقات داخل حلقات داخل حلقات من العنف. عنفٌ يترك الناس على أبواب المستشفيات، يتسبب لهم بالسرطانات، بالمرض النفسي العميق، بحوادث سير تميتهم لأتفه الأسباب. يحرمهم تعليمهم وحقهم بالتوظيف، يسلبهم فرص الحياة، يتركهم للفقر، للرصاص الطائش، لبطش المدعومين والزعران، لأبواب السفارات المذلّة التي جربناها. هذا عنفٌ كثير، ثأر كبير، حقدٌ طبقي عميق، يحفر في النفس علامات لا تبْرأ. إنه "الإبراءُ المستحيل". واستحالة الصفحِ تطال الجميع. من يصفحُ مغبون ومجنون. هُم هُم، جربناهم، جربناهم.
نخاف من شرارة الحماسِ صرنا. نخشى أن نلتقط أنفسنا متلبسين في افتعال أملٍ سيكون ثمن احتضاره غالياً جداً لاحقاً. نخشى التورط... لكنه خوف لزج مخادع، يلتصق على الأفئدة فيبدو وكأنه أحاط بها. شجاعة الناس في الشارع تقتلعه مرة واحدة كأنه لم يكن.
مَن في الشارع؟ الكلّ، ولا أحد بالتحديد. هذا أمر لا نعرفه وكنا نظنّنا لا نتقنه. كنا نعتقد أننا غير قادرين على الحشد إلا من خلال دعوة الأحزاب والطوائف. لكلّ الأسباب نزلنا للشارع سابقاً، إلّا للسبب المطلبي الاقتصادي والاجتماعي. مَن في الشارع؟ أهلي ورفاقي، وأنا من حيث أنا، ورفاق الشتات الذين لم أفطن أنهم رفاق الشتات حتى هذه اللحظة. لماذا نتواصل بكثافة ونحن الذين بالكاد نتكلم مرة في السنة... نرسل لبعضنا صور التجمعات اللبنانية في الخارج، نعلّق ونسأل ونندب حظنا لأننا لسنا هناك، في قلب الثورة. كثيرون حجزوا بطاقات سفر طارئة إلى لبنان، وبعضهم مثلي عالق وحزين و"محرقص". المهاجرون والطلاب يريدون العودة إلى لبنان، لبنان "ما غيرو" الذي فعلنا كل شيء لنخرج منه. يريدون العودة كأنه الجنة، جهنّم الأمس، هل انهبلنا؟
ردّ الفعل الأوّلي على رصدي لبوادر حماسة في النفس: "يا أصدقاء، لا تسمحوا لي بالانزلاق للإيمان بأية احتمالات جديدة". نخاف من شرارة الحماسِ صرنا، نخشى أن نلتقط أنفسنا متلبسين في افتعال أملٍ سيكون ثمن احتضاره غالياً جداً لاحقاً. نخشى التورط... لكنه خوف لزج مخادع، يلتصق على الأفئدة فيبدو وكأنه أحاط بها. شجاعة الناس في الشارع تقتلعه مرة واحدة كأنه لم يكن. تصير تقول "بلى، أريد احتمالاً جديداً، نريد كل الاحتمالات". نريد أموالنا من جيوبهم الفاجرة ونريد محاكمة المجرمين. ولكم في القصاص حياة.
من شرّع الحدود بين الطوائف؟
ماذا يحصل عندكم في لبنان؟ يسأل بعض الأصدقاء من بلدان عربية وغيرها. لا أعرف كيف أشرح وماذا أقول. أعرف فقط أن أقول أنه أمر كبير جداً، أهم شيء يمكن أن يحدث، وأننا كنا نعتقد أننا لا نرى يوماً كهذا في عمرنا أبداً. أعرف فقط أن أقول أن طرابلس، مثلاً، تهتف بشعار "يا ضاحية، نحن معاك للموت" و"صور، صور، كرمالك بدنا نثور"، وأن سنوات طويلة من التجييش والحشد والتخندق والحقن الطائفي بين "نحن" و"هم" قد انهارت في يوم وليلة، وتلك معجزة، لا أقلّ. أعرف أن نساء البلاد قبل رجالها استعادوا حيّزاً هائلاً من الشارع، رأيتهن منتقبات يرفعن علامة النصر وصبيّات يطلقن الهتافات ضد رجال العصابة، أمهات تطالبن بحضانتهنّ... أعرف أن ساحة الشهداء وساحة النور وغيرها عادت "ساحات" حقيقية، لا أراضٍ بور بليدة ومملة.
من شرّع الحدود وأزاح متاريس الطوائف وكيف؟ الفقر والذل والسخط والتعب قدر على ذلك. إفتح شاشات التلفاز وتفرّج، في الشاشةِ شاشات أصغر، تنقل من كل المناطق اللبنانية حراكاً مهيباً يكون لأول مرة غير مربوط بخاصرة المركز. عدّ معنا: بيروت، صيدا، صور، طرابلس، النبطية، بعلبك، جل الديب، الذوق، الهرمل، الشوف... تنهي العد على أصابعك العشر ولا تنتهي من إحصاء الساحات.
"بذيئون وبذيئات" في دولة
إنهم يشتمون في الشارع، وثمة منزعجون من ذلك. انفجرت شلالات الشتائم. ملأت الكلمات الأفواه وخرجت طازجة، دسمة، مقذعة، كثيفة. كُتل ثقيلة - خفيفة في الوقت ذاته، لا لاجم لها ولا اعتبارات صوابية ولا سواها. إنهم يشتمون كثيراً لأنهم شُتموا كثيراً. يمزح كثر ويلهون بالموضوع، لكنها في عمقها مأساة من شتمته دولته لعشرات السنوات بالفعل، لا بالقول. حين تنقطع الكهرباء تُشتم، حين تنقطع المياه، حين يُلوّث النهر، حين تصاب بالسرطان، حين يقتل عزيز برصاصة متنفذ، حين تسكت عن بهدلة من دركي، حين لا تجد عملاً لعام واثنين، تُشتم بالشيء الذي لا يقارب بذاءة قول الناس، تُشتم بالفعل البذيء. بذاءة القول مقابل بذاءة الفعل ما زالت معركةً غيرَ متكافِئة، يستأهلون أكثر من ذلك بكثير.
نساء البلاد قبل رجالها استعادوا حيّزاً هائلاً من الشارع. رأيتهن منتقبات يرفعن علامة النصر وصبيّات يطلقن الهتافات ضد رجال العصابة، أمهات تطالبن بحضانتهنّ... أعرف أن ساحة الشهداء وساحة النور وغيرها عادت "ساحات" حقيقية، لا أراض بور بليدة ومملة.
قد لا تروق الشتيمة لكثر، وهذا مفهوم في الساحات التي تجمع من لا يجتمع عادةً، وتتسع للكل باختلافاتهم وتناقضاتهم حتى. لكن الشتيمة "فشة خلق" أكثر من مشروعة، ولعلها تريد أن تكون بوابة ردّ الاعتبار، بالفعل الملموس، لا في حيز الكلام فقط.
الأسبوع الأول والأمل الآخر
قدم لنا الحريري ورقة "إصلاحات" عبارة عن "بلْف" مراوِغ لم يرض به الشارع. لكن الشائعات والتهويلات انتشرت بعدها بكثافة على مجموعات الواتساب ومواقع التواصل الاجتماعي، بالحجج والأخبار الكسولة ذاتها التي تفتقر للخيال والإبداع: هؤلاء ممولون من السفارات، جهات مشبوهة وراءهم، مؤامرة لضرب الاستقرار (استقرار، جدياً؟)، عملاء اسرائيل (؟!)... الشارعُ خيار الناس، وهم أبدوا إصراراً مذهلاً على عدم الخروج منه حتى تحقيق نتائج فعلية، يوماً بعد يوم.
لبنان: اللعنة عليكم!
19-09-2019
أسبوعُ على بداية الانتفاضة الشعبية: إنّ العالم الذي عرفناه وحفظناه ينهار. كثر غادرنا البلاد في السنوات الأربع الأخيرة بالذات، وبعد أزمة النفايات (التي ما زالت مفتوحة وبلا حل، بالمناسبة). كلّ من أعرف من رفاق خارج لبنان يقولون أنهم يتمنون لو كانوا هناك الآن، كثر منهم قطعوا تذاكر سفر وعادوا فوراً. حلم السفر "إلى" لبنان، لا منه، من كان يتخيل؟
***
وماذا بعد هذا؟ لا نعلم، ولا أحد يمكنه التكهن أو الجزم أو تقديم الضمانات، لكنه أمر كبير، وهو يحدث الآن، فما نفع العيش في هاجس الغد الآن. حقاً، كيف يستطيع البعض (ومنهم محرومون حقيقيون) بيع هذه اللحظة المذهلة بالرخيص، والتخلي عن إمكاناتها بحجة عدم الوضوح. متى كانت الأمور واضحة في هذا البلد، يا الله! هناك أشياء محزنة بقدر الفرح، لكن "معليش"، الثورة مستمرة والناس ما زالوا في الشارع. بعضنا يشاهد من خارج البلاد انهيار منظومات كريهة متجذرة "مشلّشة" لم تشبهنا يوماً، ونشعر بمزق في الحلق. نطبع بوسترات وشعارات ونعلقها في غرفنا في البلدان الباردة، عن بيروت الدافئة. نغرق في ابتذالات الأغاني الرومنسية التي كنا نستحي أن نعلن أننا نحبها، "مطرح ما بدك روح، بيروت هيي الروح"، وهذا الكلام المبالِغ الذي كان "يزيدها بالرومنسية"، كلاماً بكلام، فصار طالعاً من شعور حقيقي. كم نحن ضعفاء أمام الأمل والحب، وهذا أملٌ عنيف لا يرحم، بعنف الانفصامات الحادة التي أختبرها بين ما أراه من شباكي وما أراه على الشاشة.